كتابة متمردة على التصنيف... عابرة للنوعية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

كتابة متمردة على التصنيف... عابرة للنوعية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

تتجاوز الكاتبة المغربية رجاء البقالي فكرة النوع الأدبي في كتابها «البعد الرابع»، الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة. ورغم أنها تضع على الغلاف بصفتها نوعاً من التعريف كلمة «قصص»، فإن النصوص تتمرد على هذا التصنيف أيضاً. فهي عابرة للنوعية، مفتوحة على أشكال شتى، قصيرة جداً، بعضها لا يتجاوز بضعة أسطر، تمتح من طاقة السرد والشعر والفن التشكيلي والموسيقى والمسرح، كما تحيل إلى التاريخ وعوالم الأسطورة أحياناً، عبر عناوين داخلية مفردة، مجردة في أغلبها من ألف ولام التعريف، لتوحي باتساع فضاء السرد: «همس، وجد، عدالة، ثورة، مطر، سفر، ترانيم».
وتحيل رمزية «البعد الرابع»، بحقائقها ومظانها العلمية والفلسفية، إلى زمنٍ متخفٍ، غير محدد المعالم، يصعب الإمساك به، وتحديده مكانياً، لكن الذات الساردة تبدو وكأنما تعايشه، بل أحياناً يتحول إلى ملعبها الحميم، عبر نثار من الرؤى والإشارات والعلامات، تسربها بعناية فائقة في النصوص، وكأنها سرٌّ يخرج من آبار سحيقة.
يشكل هذا الزمن ما يمكن تسميته «فجوة النص»، فنحن أمام نصوص سردية أشبه بفجوات في جدار الزمن والوجود والذات. ناهيك من أن الفجوة قرينة القلق والتوتر والتأمل دائماً، لا تنفد، بل تزداد اتساعاً كلما غرف الإنسان منها، ولا تسعى الكاتبة إلى ردمها أو الإطاحة بها، وإنما تتركها مفتوحة تتأرجح في الفراغ، في إشارة إلى زمن سائل مائع، تنطلق منه الأبعاد والأشكال وترتد إليه، وكأننا إزاء مراوحة زمنية يتماهى فيها الغياب بالحضور، فيما يفقد الوجود الإحساس بأي معنى واقعي، بل يصبح مجرد فجوة ونثار من الذكريات والأحلام، يخلص إلى قبضة نهاية عبثية يخطها الموت فوق جبين الحياة.
يطالعنا هذا المعنى في النص الذي وسم عنوان الكتاب، وتجريه الذات الساردة بضمير الغائب على لسان طفل يحرك لعبة العيد:
«كيف أجعل القطار اللعين ينطلق خارج مساره الدائري؟
يرمي بكل الأجهزة، لكن القطار يدور ويدور...
لأجل هذا فلن يلبس ثياب العيد،
لن يخرج ليلعب مع أبناء الجيران
لن يأخذ من الأهل عيديته، لن ولن ولن...
بين الركام، كان ينام عند قبر أمه، بيده لفافة من ورق ملون،
عليها بقايا فتات، وصورة قطار يدور، لا يتوقف عن الدوران».
في هذا المقطع من النص الذي لا تتجاوز مساحته ثلثي الصفحة تبرز رمزية الفجوة، حيث توحد الذات الساردة بين القطار بصفته إطاراً للعب وفكرة الانزياح خارج حدود الزمن، تتخيل وجوده بصفته لعبة في إيهام واقعي، لكن في لحظة الاصطدام بالزمن ينتفي وجود الاثنين معاً (القطار واللعب)، كأن كليهما مجرد قناع للآخر، مجرد رمز لحضور مائع يشبه الغياب والعدم، بينما يطل البعد الرابع بصفته محاولة للهروب من العالم بأبعاده الثلاثية المسطحة، لكن في الأفق الأبعد للدلالة تشف اللعبة عن معنى أعمق للصدمة، ترشح منه ظلال طفولة مسروقة مغدورة، تبدو لا زمن لها.
ومن ثم، لا تنشغل النصوص بتحديد إطار ما للبعد الرابع المتخيل، تاركة إياه يتسرب في علاقات بينية رخوة، تتجاور وتتقاطع بحيوية في النصوص، ما يجعلنا إزاء خصيصة فنية لافتة، تعد مناط جدارة في هذه الكتابة، وهي اللعب على «خفة الوضوح» وثقله أيضاً، فالأشياء والعلامات والدلالات والرموز واضحة، لكنها مع ذلك تتخفي في وضوحها. لا تريد من القارئ أن يكتفي بملامسة السطح، أو يطل بجسده عليها، تاركاً روحه عل العتبات، وإنما تريده أن ينغمس في النص بكليته، جسداً وروحاً، سطحاً وعمقاً، وكأنه يفكك لغز الحياة أو الألم أو الحب، أو يعيد ترتيب الحكاية على نحو مغاير لفضائها الشائع المألوف.
تكشف هذه المغايرة عن الولع بما يمكن تسميته أيضاً «مقلوب المعنى»، وهو ما يتجسد حين تستدعي الكاتبة الحكاية التراثية الشهيرة «ألف ليلة وليلة»، برمزيتها المألوفة في اللعب على حبائل الزمان، فتقلب المعنى المتواتر، ويصبح شهر يار هو عين الحكاية، متقمصاً قناع شهر زاد، وعلى هذا النحو كما في نص بعنوان «شهر يار يحكي»:
«جلس شهر يار عند قدمي شهر زاد... أمسك بطرف ثوبها الأخضر، يعبق بعطر طالما سحره سحرُ حكاياها... طبع قبلة على يدها الباردة... نظر إليها طويلاً، ثم قال مستمتعاً بدهشتها: أراكِ تعانين وأنتِ تمطين الحكاية خوفاً من النهاية... أشفق عليك، فأنا منذ البداية أعرف مسار الحكاية.
ومن حينها، لم تمسك شهر زاد عن الحكي خوفاً من مصرع شهر يار عند قدميها».
اللافت هنا أن مقلوب المعني في هذا النص القصير جداً يأتي على شكل لطشة تكثف من جو الدراما في الختام، وهي لطشة مسكونة بطاقة الشعر أكثر من طاقة السرد، بل إن الشعر هو الذي يصنع التكثيف، بمقدرته على اختزال الزمن في ومضة، في لطشة، ما يجعل المفارقة التي يشي بها النص تحت قناع الحكي بين البطلين الشهيرين، ابنة النص نفسه، تنمو من نسيجه الداخلي، بعلاماته وإشاراته ورموزه الخاطفة، وليست مستجلبة أو مقحمة عليه من خارج فضاء الحكاية.
ومن ثم، تنأى نصوص الكتاب عن المفارقات السهلة المألوفة أو المعقدة؛ تحرص الكاتبة على ذلك، وتوحد بينها وبين تجربة الحياة اليومية، بإيقاعها السائل البسيط، وفجواتها النزقة، ومشاهدها المتقلبة في مرايا الواقع، ومكابدات العيش في تناقضاته الشرهة، وصعوبة النظر إلى المستقبل بعين الرضا والطمأنينة... ثمة حالة من العبث والفوضى تسكن هذه المرايا، تشدها إلى العتمة غالباً، أو إلى نور شحيح يكاد لا يبصر سوى ظله. هكذا، ينتهي المشهد في نص «اللعب مع الكبار»، وكأنه تتويج لرشاقة الهزيمة، وتعرجات صراع لاهث في قبضة الزمن:
«ألقى بالقصة جانباً، وارتمى على السرير المنهك، أطلق زغرودة ميلاده في الخمسين، وراح يركض إلى ما قبل البداية، ليصنع حكاية غير الحكاية... امتدت الطريق، مسالك من دم ورفات وأنات... تعثر بإهانات زوجته وسخرية أقاربه...
على كومة رمل تناثرت أوراق روايته... حَبَا وحَبَا، يشده التوق إلى صرخة ميلاد جديدة... مدَّتْ إليه حبلاً من شعاع واختفت، أمه التي لن تلده مرتين...».
يتسع فعل الدراما في عدد من النصوص، ويبدو بعضها وكأنه منصة مسرح، يتناوب عليها الشخوص الأدوار والأقنعة، وهو ما يطالعنا في نص بعنوان «هيا... هيا نلعب»، حيث تتحول صيحة الطفولة التي يشي بها العنوان إلى قناع مستتر يطل منه الموت من خلف الستار: «حفروا ثقوباً في علبهم الحجرية... الأكبر: نحن لا نحتاج إلى أقنعة، وملامحنا متشابهة، وهنا لا وجود لأقنعة... الأصغر: وكيف نشخِّص أدوارنا؟ الطفلة مستغربة: أنا من دون ثياب... مع انبثاق أول خيوط الفجر، أطلوا من التربة فوق تلة من رماد أسود وتواروا خلف الستار، لكن النهار طال، طال النهار... في ذهول تهامس المتفرجون: متى يبدأ العرض؟».
هذا المشهد الذي تتسع فيه مفارقة الحضور والغياب، الموت والحياة، يطل بأكثر من زاوية في كثير من نصوص الكتاب، مكتسياً لمسات إنسانية متنوعة، مشرّبة بنفس صوفي أحياناً، وهواجس أسئلة المصير بقلقها وحيرتها أحياناً أخرى، كما في: «وجد»، و«حيرة»، و«محاسبة»، وغيرها، بل تصل إلى محاكمة «الأنا»، ووضعها في قفص الاتهام، لتكون نواة لمحاكمة تهكمية للعالم والوجود.
يبقى أن أشير إلى أن نصوص هذا الكتاب الشيق التي تعد تمثيلاً خصباً لفكرة الكتابة عبر النوعية، وتشكل ما يشبه المصفاة للقلق الإنساني، كان يمكن أن تكون أكثر رحابة وتشويقاً، لو تخففت من قبضة الأنا الساردة على مجريات الحكي، والسيطرة على ضمائره، وكأنها ظل لها، ما جعل الشخوص تتحرك داخل سياقات ومسارات محددة، أفقدتها كثيراً من رائحتها وروحها الخاصة، فغدت مجرد إشارات وعلامات عابرة، يعلق بها عرضاً ما يشير إلى ماهية المكان أو الزمان أو الواقع.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
TT

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية وتاريخها الممتد في عمق الحضارة المصرية.

واستهدفت الفعالية التي نُظمت، الأحد، بالتعاون بين مؤسسة «دروسوس» وجمعية «نهضة المحروسة» تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه الإبداع في مجالات التراث والفنون والحِرف اليدوية، في الاحتفاظ بسمات حضارية قديمة، كما تستهدف تعزيز دور الصناعات الإبداعية باعتبارها رافداً أساسياً للتنمية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك إبراز أهمية الابتكار والإبداع في مختلف المجالات.

وأكد الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، أن «هذه الفعالية تعزز روح التعاون والرؤية المشتركة وتشجيع التبادل الثقافي»، لافتاً في كلمة خلال الاحتفالية إلى أن «المتحف المصري الكبير ليس متحفاً تقليدياً، وإنما هو مُجمع ثقافي يحتفي بالتاريخ والثقافة المصرية ويشجِّع على الإبداع والابتكار الذي يرتكز على الماضي لينطلق نحو مستقبل أكثر إشراقاً وتطوراً».

الحِرف اليدوية تحمل طابعاً تراثياً (وزارة السياحة والآثار)

وأوضح غنيم في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «المتحف عبارة عن منارة ثقافية هدفها ليس فقط عرض الآثار، لكن أيضاً عرض التراث المصري سواء المادي أو غير المادي، وربطها بالحضارة المصرية القديمة وعبر عصور مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث».

وتضمنت الفعالية جولة بالمتحف تمت خلالها زيارة البهو، حيث تمثال الملك رمسيس، والدَّرَج العظيم، وقاعات العرض الرئيسة، وكذلك المعرض الخاص بالفعالية، كما اختتمت فرقة «فابريكا» الفعالية، حيث قدَّمَت أوبريت «الليلة الكبيرة»، وفق بيان لوزارة السياحة والآثار.

ويضيف الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف أن «الجمعيات الأهلية أو الجهات المتخصصة والمعنية بالتراث نحاول أن نعرضها في المتحف بشكل لائق ومشجع لمن يقومون على هذه الحِرف والفنون».

جانب من فعالية «تأثير الإبداع» للفنون التراثية والحِرف اليدوية (وزارة السياحة والآثار)

وأشار إلى أن الفعالية تضمنت عرض مجموعات من الخزف وكذلك فنون على الأقمشة والأعمال الخاصة بالخشب وأعمال متنوعة في المجالات كافة.

ويعدّ المتحف المصري الكبير من أهم المتاحف المصرية المنتظر افتتاحها، ووصفه رئيس الوزراء المصري في تصريحات سابقة بأنه سيكون «هدية مصر للعالم»، ويقع المتحف على مساحة 117 فداناً، ضمن مشهد مفتوح على منطقة الأهرامات الثلاثة، وتُعوّل مصر عليه كثيراً في تنشيط الحركة السياحية، ومن المنتظر أن يشهد عرض المجموعة الكاملة لآثار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون التي يتجاوز عددها 5 آلاف قطعة لدى افتتاحه الرسمي بشكل كامل.

وتضمنت الفعالية التي شهدها المتحف رحلة عبر الزمن اصطحبتهم من الماضي حيث الحضارة الخالدة، مروراً بالحاضر ورموزه الفنية، نحو صورة لمستقبل أكثر ابتكاراً وإبداعاً.

وتعدّ فعالية «تأثير الإبداع» إحدى الفعاليات المتنوعة التي يستضيفها المتحف المصري الكبير في إطار التشغيل التجريبي الذي يشهده ويتيح لزائريه زيارة منطقة المسلة المعلقة، والبهو العظيم والبهو الزجاجي، والمنطقة التجارية، بالإضافة إلى قاعات العرض الرئيسة التي تم افتتاحها جزئياً.