تكريم عادل إمام يمنح افتتاح مهرجان الفيلم في مراكش نكهة مصرية

«نظرية كل شيء» و«زهايمر» يقصان شريط الفرجة السينمائية

النجم المصري الكبير عادل إمام محييا الجمهور الغفير الذي غصت به ساحة جامع الفنا بمراكش خلال عرض فيلم «زهايمر» («الشرق الأوسط»)
النجم المصري الكبير عادل إمام محييا الجمهور الغفير الذي غصت به ساحة جامع الفنا بمراكش خلال عرض فيلم «زهايمر» («الشرق الأوسط»)
TT

تكريم عادل إمام يمنح افتتاح مهرجان الفيلم في مراكش نكهة مصرية

النجم المصري الكبير عادل إمام محييا الجمهور الغفير الذي غصت به ساحة جامع الفنا بمراكش خلال عرض فيلم «زهايمر» («الشرق الأوسط»)
النجم المصري الكبير عادل إمام محييا الجمهور الغفير الذي غصت به ساحة جامع الفنا بمراكش خلال عرض فيلم «زهايمر» («الشرق الأوسط»)

جاء حفل افتتاح المهرجان الدولي للفيلم بمراكش بنكهة مصرية، بعد أن طغى الحضور المصري وغطى تكريم النجم المصري الكبير عادل إمام على باقي فقرات الافتتاح. وبدا النجم المصري، ليلة أول من أمس، سعيدا وهو يقف على خشبة «قاعة الوزراء»، لتحية الجمهور الذي وقف له طويلا مصفقا، تقديرا واعترافا بمساره وقيمته الفنية، كما بدا في غاية التأثر وهو يـُستقبل بساحة «جامع الفنا» الشهيرة، حيث احتشد الآلاف لتحيته ومتابعة عرض «زهايمر»، الفيلم الكوميدي الاجتماعي المصري (2010)، الذي يلعب فيه دور البطولة كل من عادل إمام ونيللي كريم، وإخراج عمرو عرفة.
وألقت الفنانة المغربية الكبيرة ووزيرة الثقافة السابقة ثريا جبران، التي قدمت للنجم المصري درع التكريم، كلمة جميلة في حق المحتفى به، حيث وصفته بأنه «أنشودة تخرجت بامتياز من (مدرسة المشاغبين). فنان مؤمن بالحياة، بالمحبة، بالحرية، بالتفاؤل، بالتحدي حتى في أحلك الظروف التي تأتي بها الرياح».
وأضافت جبران: «المعجبون بالفن السينمائي لهم تأمين على فرحهم، واسمه عادل إمام، لهذا يضحكون مع (الزعيم)، من قيم البورجوازية، في (الواد سيد الشغال)، أو في (رسالة إلى الوالي) عندما يتطوع التاريخ لكتابة السينما، أو في (عمارة يعقوبيان) عندما تكون الرواية الأدبية السند اللامرئي للفيلم، أو عندما يحتفي في (حسن ومرقص) بالتنوع الإثني والديني في بر مصر».
وختمت جبران كلمتها قائلة: «إن العقل، أو بالأحرى حجة العقل العربي، كما بينها عادل إمام في مساره الفني، توجد بالضبط بين الغضب والسخرية من الغضب. وهكذا يصبح الفن الطريقة القصوى للتفاؤل والأمل».
من جهته، عبر عادل إمام عن فرحه وسعادته بالوجود في مهرجان مراكش، قائلا: «كل أصدقائي الذين زاروا المغرب يقولون لي إن المغاربة حين يصادفونهم يطلبون منهم أن يبلغوا سلامهم إلى عادل إمام. وأنا، اليوم، أسلم على الشعب المغربي. وأنا أحبه، فعلا. كما أحب مهنتي التي أثرت في الشعب العربي».
كما تحدث عن الفخر الذي يشعر به كلما التقاه أحد المغتربين، في الخارج، وخاطبه بجملة: «أنت علمت أبناءنا العربية»، مشيرا إلى أنه يحس، عندها، أنه مفيد لبلده ولغته.
وأضاف: «الأطفال يحبونني، وأنا لا أعرف كيف ومتى شاهدوني حتى يتعلقوا بي، لذلك أنا سعيد لأن الكبار كما الصغار، الجدود والآباء والأبناء، يحبونني». وختم: «أنا قادم من بلد تأصل فيه الفن بطريقة جميلة.. دولة عظيمة أعطت فلسفة وثقافة وفنا. الحمد لله أن السينما المصرية هي أم السينما العربية».
وحافظ المهرجان المغربي، خلال دورة هذه السنة، على عادته في الاحتفاء بالسينما والسينمائيين المصريين. وفضلا عن تكريم عادل إمام، يحضر، في دورة هذه السنة، عدد من النجوم المصريين ضيوفا، بينهم الممثلة يسرا والمخرجة إيناس الدغيدي والمخرج مروان حامد والممثل كريم عبد العزيز، كما أن الفيلم المصري «الفيل الأزرق»، لمخرجه مروان حامد، ينافس على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان، التي تعرف برمجة 15 فيلما. وتتنافس الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للفوز بـ4 جوائز، هي الجائزة الكبرى (النجمة الذهبية)، وجائزة لجنة التحكيم، وجائزة أفضل دور رجالي، وجائزة أفضل دور نسائي.
وسبق للمهرجان المغربي أن كرم عددا من نجوم السينما المصرية، نذكر بينهم عمر الشريف في 2001، ويسرا في 2003، ويوسف شاهين في 2004، وتوفيق صالح في 2006، وأحمد بهاء عطية في 2007، كما كرم روح يوسف شاهين في 2008، كما لم يفت المهرجان المغربي، في سياق تكريمه للسينما العالمية، أن يكرم السينما المصرية في دورة 2007، وذلك احتفاء بمئوية السينما المصرية، في حضور أبرز سينمائييها، يتقدمهم علي أبو شادي وخالد الصاوي ويسرا ولبلبة ومروان حامد وعزت العلايلي وأحمد راتب وخالد أبو النجا ونور الشريف وبوسي ويسرا وإلهام شاهين.
وفضلا عن فقرة التكريم، جرى في حفل الافتتاح تقديم أعضاء لجنة التحكيم، تتقدمهم الفرنسية إيزابيل أوبير، رئيسة، وعضوية المخرج وكاتب السيناريو والمنتج الهندي ريتش بترا، والمخرجة والسيناريست الدنماركية سوزان بيير، والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج الفرنسي برتران بونيللو، والممثلة والمخرجة الفرنسية ميلاني لوران، والمخرج وكاتب السيناريو الإيطالي ماريو مارتون، والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج الروماني كريستيان مونكيي، والممثل والمخرج البريطاني آلان ريكمان، والمخرج وكاتب السيناريو والمؤلف المغربي مومن السميحي، أعضاء.
وعبرت أوبير عن الحاجة إلى «سينما قوية»، مشيرة إلى أنهم في اللجنة سيتابعون أفلاما من القارات الـ5 بشكل يؤكد، فعلا، أننا أمام مهرجان عالمي. كما تحدثت عن علاقتها بمراكش، وقالت إنها تذكرها بإيف سان لوران، المصمم العالمي الراحل، الذي عشق المدينة الحمراء كثيرا.
وتعتبر أوبير ثالث امرأة تترأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان مراكش، بعد البريطانية شارلوت رامبلين سنة 2001 والفرنسية جان مورو سنة 2002.
وفي سياق استعراض برنامج التظاهرة، تم تقديم فقرة «دروس السينما»، التي ستعرف مشاركة بيلي أوغست (الدنمارك)، وبونوا جاكو (فرنسا)، وأليكس دولا إكليسيا (إسبانيا).
كما عرفت ليلة الافتتاح عرض الفيلم البريطاني «نظرية كل شيء»، الذي يتناول علاقة ستيفن هوكينغ، العالم الفيزيائي البريطاني الشهير، بزوجته الأولى، جين وايلد، راصدا التحديات التي عاشها في ظل معاناته مع مرض التصلب الجانبي الذي جعله مقعدا وعاجزا طيلة حياته.
وتحول مهرجان الفيلم بمراكش، بحسب عدد من المتتبعين، إلى أحد أبرز المواعيد السينمائية العالمية. واستعرض الأمير مولاي رشيد، شقيق العاهل المغربي الملك محمد السادس، ورئيس مؤسسة المهرجان، في افتتاحية الدورة الـ14، مميزات الدورة الحالية، فكتب أن «تكريم السينما اليابانية يأتي لتقوية إحدى المهام الأساسية للمهرجان، والمتمثلة في الانفتاح على العالم والاكتشاف المتواصل والمتجدد للقيم الكونية التي تحملها السينما». ورأى أن «التلاقي في مراكش كل سنة حول الفن السابع هو مناسبة لكي يقوم المغرب لإبراز الابتكار والدينامية التي يمكن أن تتمخض عن لقاء المهنيين المغاربة والأجانب، بشكل يمكن من إنتاج أعمال فنية بنوعية عالية». وبعد أن أشار إلى أن المغرب صار وجهة مفضلة لإنجاز أضخم الإنتاجات السينمائية، أكد أن المهرجان يواصل من خلال أرضية اشتغال يمتزج فيها الحلم والفن ودعم السينما، سواء من خلال غنى البرمجة، أو قيمة التكريمات، ودروس السينما، وتقنية السمعي البصري لفائدة المكفوفين وضعاف البصر، أو عرض الأفلام في ساحة جامع الفنا، الفضاء الثقافي المدرج تراثا لا ماديا للإنسانية من طرف اليونيسكو، وعنوان الفرجة والتبادل والابتكار. ولا يصير رهان المهرجان مكتملا من دون سينما المدارس، حيث نعول، بشكل خاص، على تمكين شبابنا في هذا العرس السينمائي، بشكل يرفع تحدي سينما مغربية جيدة».
يشار إلى أن دورة هذه السنة من مهرجان مراكش ستتواصل إلى غاية يوم السبت المقبل، وتعرف برمجة 87 فيلما من 22 دولة، يحتضنها عدد من الفضاءات بالمدينة الحمراء، أبرزها ساحة جامع الفنا، ضمن طبق فني تتوزعه فقرات «المسابقة الرسمية»، و«خارج المسابقة»، و«خفقة قلب»، و«الوصف السمعي»، فضلا عن «أفلام المدارس».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)