«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مخاوف من نجاح الحركة في إرهاب المفاوضين الأفغان للحصول على حصة مهيمنة في الحكومة المقبلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
TT

«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)

في ظلال إحدى شجرات التوت على مقربة من مقبرة تحمل شواهد قبورها رايات حركة «طالبان»، اعترف أحد كبار القادة العسكريين بالحركة في شرق أفغانستان بأنها قد تكبدت الكثير من الخسائر إثر الغارات الأميركية المدمّرة فضلاً عن العمليات العسكرية الحكومية على مدى السنوات العشر الماضية.
بيد أن هذه الخسائر لم تغيّر سوى القليل للغاية من الواقع على أرض القتال، إذ تواصل الحركة المتمردة استبدال القتلى والجرحى بين صفوفها باستقدام المقاتلين الجدد ومواصلة ارتكاب أعمال العنف الوحشية.
وقال مولوي محمد قيس، رئيس الجناح العسكري لحركة «طالبان» في ولاية لغمان بشرق أفغانستان، فيما كان ينتظر العشرات من رجاله ومقاتليه بالقرب من أحد التلال: «القتال عبادة بالنسبة لنا، ولذلك إذا سقط أخ لنا قتيلاً، فلن يتردد الأخ الثاني في تنفيذ مشيئة الله، ولسوف يسير على خطى من سبقوه».

كان ذلك في شهر مارس (آذار) الماضي، وكانت حركة «طالبان» قد وقّعت لتوّها على اتفاق سلام مع الولايات المتحدة يضع الحركة على عتبة بلوغ أشد غاياتها اشتياقاً ألا وهي: المغادرة الكاملة للقوات الأميركية من تراب أفغانستان.
وبذلك، تكون حركة «طالبان» قد تجاوزت القوة الأميركية العظمى عبر 19 عاماً تقريباً من الحرب الطويلة الطاحنة. وسلطت عشرات المقابلات التي أُجريت مع مسؤولي «طالبان» ومقاتليها في ثلاث دول، وكذلك مع المسؤولين الأفغان، والمسؤولين الغربيين، الأضواء على مزيج من المناهج والأجيال القديمة والجديدة التي عاونت الحركة كثيراً في بلوغ تلك الغاية. وبعد عام 2001، أعادت «طالبان» تنظيم نفسها كشبكة لامركزية من المقاتلين وقادة المستويات الدنيا والمخولين بتجنيد العناصر الجديدة والعثور على الموارد المحلية، في حين تتابع القيادة العليا للحركة مجريات الأمور وتطوراتها من داخل باكستان المجاورة.
وتحوّلت الحركة المتمردة إلى اعتماد مخطط من العمليات والهجمات الإرهابية التي فرضت ضغوطاً هائلة وشديدة على الحكومة الأفغانية، وبهدف توسيع مجال محركات التمويل غير المشروعة والقائمة على الجرائم وتجارة المخدرات وتهريبها، وذلك رغم آيديولوجية الحركة الضاربة بجذورها في أعماق التعاليم الدينية الصارمة.
وفي الوقت ذاته، لم تغيّر حركة «طالبان» سوى النّزر اليسير من الأسس الآيديولوجية بالغة القسوة لديها في وقت تتأهب للبدء في المحادثات المباشرة بشأن تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية الحالية. فلم تتراجع الحركة صراحة عن ماضيها المعروف من إيواء العناصر الإرهابية الدولية، ولا هي تراجعت قيد أنملة عن مواصلة الممارسات القمعية تجاه النساء، وتجاه الأقليات التي تعيش في أفغانستان، والتي قيّدت حكومة «طالبان» من نطاق وجودها خلال توليها الحكم في كابل في تسعينات القرن الماضي. وما زالت الحركة المتمردة تعارض بكل قوتها الغالبية العظمى من التغييرات المؤيدة من الغرب والتي جرت في البلاد على مدى العقدين الماضيين.
يقول أمير خان متقي، رئيس أركان الزعيم الأعلى لحركة «طالبان»، في مقابلة نادرة أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز» في مدينة الدوحة: «نودّ تنفيذ الاتفاق (مع الأميركيين) بالكامل حتى يتسنى لنا تحقيق السلام الشامل، ولكن لا يمكننا التزام الصمت المطبق وسجون أفغانستان مليئة برجالنا وإخواننا، عندما يسير نظام الحكومة الأفغانية على منوال نظم الحكم الغربية، ينبغي على حركة (طالبان) الرجوع والمكوث في المنزل، أليس كذلك؟». ثم أضاف قائلاً: «كلا، لن يبقى كل شيء على حاله بعد كل هذه التضحيات الكبيرة، لا يقبل المنطق السليم ذلك أبداً. الحكومة الأفغانية الحالية ترتكن على الأموال الأجنبية، والأسلحة الأجنبية، والتمويلات الأجنبية في كل شيء».
تلوح ذكريات الماضي الكئيب في الأفق. ففي المرة الأخيرة التي غادرت فيها قوة الاحتلال التراب الأفغاني –عندما تمكن المجاهدون الأفغان المدعومون من الولايات المتحدة من إجبار القوات السوفياتية على الانسحاب من البلاد في عام 1989– أطاحت فصائل المجاهدين بالحكومة الأفغانية القائمة وقتذاك، ثم حوّلت أسلحتها إلى صدور بعضها البعض تتقاتل على ما تبقى من أوصال البلاد ورفات الحكم والسلطة. واستمر هذا التقاتل حتى اعتلت حركة «طالبان» سدة المشهد الدموي العنيف في تلك الأيام.
والآن، حتى مع توقف العمليات العسكرية من طرف الولايات المتحدة والقتالية من طرف حركة «طالبان» داخل أفغانستان راهناً، تواصل الحركة المتمردة تكثيف هجماتها الإرهابية ضد القوات الحكومية الأفغانية قبل تلك الهدنة النادرة التي استمرت لمدة ثلاثة أيام لمناسبة عيد الفطر. ويبدو أن تكتيكات الحركة تشير إلى بث الخوف والذعر بين جموع المواطنين من خلال تلك الهجمات.
ويخشى كثيرون من المواطنين الأفغان أن تنجح الحركة المتمردة في مساعيها من إرهاب المفاوضين الأفغان وإجبارهم على التنازل عن حصة كبيرة ومهيمنة في الحكومة الجديدة –التي تواصل «طالبان» تقويض مؤسساتها واغتيال رجالها ومسؤوليها، بالكمائن تارةً وبالسيارات المفخخة تارةً أخرى.
ولقد أوضح القادة الميدانيون من «طالبان» جلياً أنهم احترموا قرار وقف النار فقط من أجل منح القوات الأميركية ممراً آمناً للانسحاب ومغادرة البلاد، كما قال أحد كبار زعماء الحركة في جنوب البلاد، ولكن ليس هناك من تحفظ بشأن مواصلة شن الهجمات ضد قوات الأمن الحكومية الأفغانية.
وقال قائد شاب من أعضاء «الوحدة الحمراء» وهي قوة النخبة التابعة لحركة «طالبان» في ألينغار (ولاية لغمان): «لقد بدأنا القتال هنا ضد الفساد الحكومي قبل الاحتلال الأميركي لبلادنا. وكان الفاسدون هم من توسلوا لقدوم أميركا إلى أفغانستان لعجزهم عن مواصلة القتال ضدنا». وكان ذلك الشاب اليافع طفلاً صغيراً يلعب عندما بدأ الغزو العسكري الأميركي لأفغانستان، ولقد التقى مع فريق مراسلي صحيفة «نيويورك تايمز» في المنطقة التي تسمح فيها الحكومة الأفغانية بوجود عناصر من الحركة المتمردة.
ثم استطرد القائد الشاب، مجهول الهوية وفق طلبه، قائلاً: «جهادنا مستمر إلى يوم القيامة وحتى إقامة نظام الحكم الإسلامي على أراضي أفغانستان».
التجنيد والسيطرة
وحسب التقديرات الأفغانية والأميركية، تملك حركة «طالبان» راهناً عدداً من المقاتلين يتراوح بين 50 و60 ألف مقاتل عامل، فضلاً عن عشرات الآلاف من المسلحين غير المتفرغين، وسواهم من عناصر الدعم والإمداد المحليين.
ولا يمكن اعتبار حركة «طالبان» منظمة متجانسة متماثلة. إذ عكفت قيادة الحركة المتمردة على بناء آلة حربية من أجزاء متباينة ومترامية الأطراف، ودفعت كل خلية من خلاياها إلى محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي على الصعيد المحلي. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة بالكامل، أو التي يمتد نفوذها وتأثيرها بين أوصال المجتمع، تواصل «طالبان» توفير بعض الخدمات، والوساطة في تسوية المنازعات، وتتخذ من نفسها على الدوام وضعية حكومة الظل غير الرسمية.
يقول تيمور شاران، الباحث الأفغاني البارز والمسؤول الحكومي الكبير السابق: «إنها شبكة متمردة تتسم بقدر كبير من اللامركزية مع امتلاك قادتها المقدرة على تعبئة الموارد وتجنيد الأتباع وتأمين الدعم اللوجيستي على مستويات الولايات في وقت الحاجة. غير أن الأنساق العليا من قيادة الحركة تكتسب شرعيتها من الولاء لزعيم واحد فقط».
وعلى مر السنين، ظلت القيادة العليا للحركة تلتزم أماكنها داخل باكستان المجاورة، حيث دعم جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية إعادة تشكيل أوصال الحركة الأفغانية المتمردة. وكانت هذه الملاذات الآمنة قد وفرت قدراً من الاستمرارية لقيادات الحركة في الوقت الذي تعاني فيه المستويات الدنيا من عناصرها الخسائر الفادحة داخل أفغانستان.
كانت معدلات الخسائر والضحايا في صفوف الحركة بالغة الارتفاع في بعض الأحيان، لدرجة أنها وصلت إلى سقوط مئات المقاتلين من عناصر الحركة أسبوعياً جراء حملة القصف الجوي الأميركية الشديدة التي أسقطت فيها الطائرات الحربية ما يقرب من 27 ألف قنبلة منذ عام 2013 –حتى إن حركة «طالبان» استحدثت نظاماً جديداً من عناصر الاحتياطي القتالي لمواصلة ممارسة الضغوط في المناطق التي تكبدت فيها كبرى الخسائر، وذلك حسب إفادات القادة الإقليميين من أبناء الحركة.
وكان العام الماضي موجعاً ومدمراً بالنسبة إلى حركة «طالبان» بصورة خاصة، إذ زعم المسؤولون الأفغان أنهم يحصدون رؤوس عناصر الحركة بمعدلات قتالية غير مسبوقة، حيث يسقط أكثر من 1000 مقاتل من عناصرها بصفة شهرية، وربما ربع إجمالي القوات المقدرة للحركة بحلول نهاية العام. وبالإضافة إلى الغارات الجوية التي شنتها القوات الحكومية الأفغانية، أسقطت الغارات الجوية الأميركية 7400 قنبلة، وهو أكبر معدل مسجل لها خلال السنوات العشر الماضية.
وحتى في ذروة الوجود العسكري الأميركي طويل الأمد، ومع الجهود التنسيقية لمعاونة الحكومة الأفغانية على الصعيد المعنوي واستمالة قلوب المواطنين وعقولهم في ريف أفغانستان، كانت حركة «طالبان» قد تمكنت من الاستمرار في تجنيد الأتباع وما يكفي من الشباب لمواصلة القتال. وتواصل الأسر الأفغانية الفقيرة تلبية نداءات «طالبان» والدفع بزهرة شبابها في أتون الحرب المستعرة للمحافظة على تماسك الحركة المتمردة وصمودها رغم التضحيات.
وأوضح مولوي محمد قيس كيف أن جناحه العسكري في لغمان يملك لجنة نشطة للدعوة والإرشاد، حيث يرتاد أعضاؤها المساجد ويحضرون دروس القرآن الكريم بهدف التقاط وتجنيد العناصر الجديدة للقتال. لكنه أشار إلى أن أغلب المجندين الجدد يأتون من طرف المقاتلين الحاليين الذين يعملون بكل دأب على تجنيد الأقارب والأصدقاء وضمهم إلى صفوف الحركة. وتظل الحاجة إلى الدماء الجديدة قائمة ومستمرة لدى «طالبان»، لا سيما خلال السنوات العشر الماضية. واستطرد مولوي قيس يقول: «لقد فقدنا 80 رجلاً دفعة واحدة من وحدتنا القتالية الحالية»، في إشارة إلى الوحدة القتالية التي تتألف من 100 إلى 150 مقاتلاً.
ومع ذلك، ما زال المجندون يواصلون القدوم والانضمام إلى صفوف الحركة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الكراهية العميقة المتأصلة في نفوس الناس ضد المؤسسات الحكومية والقيم الغربية الدخيلة التي اعتمدتها الحكومة الأفغانية من طرف حلفائها في الغرب. وأردف مولوي قيس في هذا الإطار: «مشكلتنا ليست مع لحومهم وعظامهم، وإنما هي مع النظام الذي يوالونه ويخدمونه».
ويقول المسؤولون الأفغان إنه في المناطق التي لا تفرض فيها حركة «طالبان» سيطرتها الكاملة لتجنيد الأتباع، لا تزال الحركة تعتمد بصورة كبيرة على ما يقرب من مليونين من اللاجئين الأفغان الذين يعيشون داخل باكستان المجاورة، كما يعتمدون على المدارس الدينية المنتشرة هناك في استمالة وتجنيد العناصر الجديدة للقتال في الخطوط الأمامية.
ويقول مسؤولو التجنيد والقادة الميدانيون لدى «طالبان» إنهم لا يدفعون رواتب منتظمة للعناصر القتالية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يغطون النفقات العائلية للمقاتلين في صفوفهم، الأمر الذي ساعدهم كثيراً خلال السنوات الأخيرة على منح قدر معتبر من الحريات لقادة الحركة في كيفية استخدام الموارد المحلية وإدارة غنائم الحرب. ويجري تحصيل بعض الإيرادات عن طريق فرض الضرائب على السلع. ولكن الحركة أصبحت متشابكة للغاية، وبصورة متزايدة، في أعمال الجرائم المحلية وتجارة المخدرات وتهريبها، الأمر الذي رفع من المحفّزات المالية التي تمكن الحركة من مواصلة ما تعدّه «جهاداً مقدساً»!
يقول الملا باقي زاراوار، قائد إحدى وحدات «طالبان» في ولاية هلمند: «إخواننا الذين يقاتلون معنا في صفوف الجهاد الأمامية لا يحصلون من الحركة على رواتب محددة، ولكننا نعتني بنفقاتهم الشخصية، ووقود دراجاتهم البخارية، ومصاريف أسفارهم إلى أسرهم. وإذا ما وقعت في أيديهم الغنائم، فهذا رزقهم».
وبالنسبة إلى المناطق التي تسيطر عليها «طالبان» بصورة جيدة، فإن العديد من عناصر الحركة، وربما بعض القادة أيضاً، يحتفظون لأنفسهم بوظائف أخرى غير القتال.
توقف مولوي قيس، في أثناء المقابلة الشخصية، للاعتذار عن ملابسه المتسخة، وقال إنه كان يطحن الدقيق طوال الصباح، وتلك هي وظيفته اليومية. ولدى العديد من المقاتلين الآخرين وظائف أخرى عندما لا يقاتلون في صفوف الحركة. ولضمان عدم جفاف منابع التجنيد، منحت الحركة الأولوية لعملية معقدة من جمع المعلومات، وصياغة خطاب الحركة من خلال إنتاج مقاطع الفيديو الدعائية الرائعة، فضلاً عن جناح نشط للغاية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتنتشر عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي مقاطع لحالات الإصابة والضحايا بين المدنيين على أيدي القوات الأميركية أو الأفغانية، سواء كانت حقيقية أو مختلقة، وذلك بالاقتران مع مقاطع فيديو أخرى لتدريبات عناصر «طالبان» وهم يقفزون خلال الحلقات المشتعلة بالنار ويطلقون الرصاص من أسلحتهم. وكانت الرسالة من وراء ذلك واضحة: «الانضمام إلينا يعني حياة البطولة والتضحية والفداء». وكانت لديهم رموز قوية يستشهدون بها في رسالتهم: كانوا يقاتلون تحت راية قائدهم الأعلى مولوي هيبة الله أخوند زاده، والذي أرسل ابنه في عملية انتحارية من أجل نصرة قضية «طالبان» ضد الحكومة الأفغانية التي يدعمها «جيش الغزاة» الأميركيين ويقودها المسؤولون الذين تعيش عائلاتهم وأبناؤهم في خارج البلاد.
وبعد اتفاق الحركة مع الجانب الأميركي، كثّفت «طالبان» من جهودها الدعائية، واعتلت موجة الانتصار العارمة التي تنذر بكل سوء. وفي خطبته السنوية بمناسبة عيد الفطر التي صدرت قبل أيام، تعهد زعيم «طالبان» بالعفو عن الخصوم الذين تخلوا عن ولائهم للحكومة الأفغانية.
وتعد مديرية ألينغار، من ولاية لغمان، مثالاً على ترتيبات «طالبان» على الصعيد المحلي والقيام مقام حكومة الظل في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وقال قادة الحركة في المديرية إنهم يجمعون الضرائب، ويرسلون خُمسها تقريباً إلى القيادة المركزية للحركة مع الاحتفاظ بالباقي منها للمقاتلين المحليين. ولديهم أيضاً لجان تشرف على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك الخدمات الصحية، والتعليم، وإدارة الأسواق المحلية.
ولا تزال الحكومة الأفغانية والجهات الدولية المانحة تدفع تكاليف الإمدادات، ورواتب العيادات الصحية، والمدارس المحلية. لكن حركة «طالبان» تدير الأمور بطريقتها الخاصة –في تسوية تمت على مضض بواسطة المنظمات الإغاثية حيث إن البديل يعني عدم توافر الخدمات على الإطلاق. كما أن منهج الحركة المتمردة إزاء التعليم من أبلغ الأدلة الواضحة على أنها تتمسك تماماً بأساليبها القديمة في قمع النساء، والقضاء على الثقافة والفنون في المجتمع.
ومن بين 57 مدرسة في ألينغار، هناك 17 مدرسة منها مخصصة للفتيات، وفقاً لمولوي أحمد هاكمال، رئيس لجنة التعليم في المديرية. بيد أن عناصر «طالبان» في المقاطعة تصر على وقف تعليم الفتيات تماماً بعد الصف السادس، فيما يتعارض مع المتطلبات الدولية للمساعدات التعليمية في البلاد. ومن حيث المناهج الدراسية، ألغت حركة «طالبان» مادة الثقافة كموضوع دراسي ذلك لأنها تشجع على التهتك والابتذال مثل تعليم الفتيات الموسيقى والفنون.
أبناء الفوضى
بعد استيلاء حركة «طالبان» على السلطة في تسعينات القرن الماضي، وهزيمتها للفصائل المتناحرة الأخرى إثر الفراغ السلطوي في الحكم الذي خلفه انسحاب القوات السوفياتية من البلاد، أبدت الولايات المتحدة قدراً من اللامبالاة بأسلوب الحكم القمعي الذي اعتمدته الحركة. غير أن الأمور تغيّرت تماماً في عام 2001، مع اتخاذ قادة تنظيم «القاعدة» الإرهابي من أفغانستان ملاذاً لهم في أعقاب هجمات سبتمبر (أيلول) الإرهابية على الأراضي الأميركية.
وقضى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وقتاً طويلاً في أفغانستان، ولقد حارب ذات مرة إلى الجانب الأميركي ضد القوات السوفياتية مع نهاية حقبة الحرب الباردة. وكان زعيم «طالبان» آنذاك، الملا محمد عمر، قد سمح لأسامة بن لادن ورجاله بالبقاء في أفغانستان، وتوثقت علاقاتهما منذ ذلك الحين، مع إعلان بن لادن الولاء للملا محمد عمر.
وفي أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة، وإثر سعيها الشديد للانتقام والثأر لكرامتها الجريحة، نفد رصيد الصبر لدى الإدارة الأميركية برئاسة جورج دبليو بوش، سيما بعد العديد من طلبات تسليم أسامة بن لادن مباشرةً إلى الحكومة الأميركية التي رفضتها حركة «طالبان»، ومن ثم شرعت الولايات المتحدة في الغزو العسكري لأراضي أفغانستان. وسرعان ما تلاشى نفوذ الحركة التي كانت قد حققت نجاحات باهرة على مختلف الفصائل الأفغانية الأخرى، في مواجهة الغارات الجوية الأميركية الشديدة. وعاد عناصر الحركة إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة والخسران بعد تفكك «إمارة طالبان» التي كانت تؤويهم. وعبر الكثير من زعماء الحركة الحدود إلى باكستان المجاورة أو ربما انتهى بهم المطاف إلى داخل السجون الأميركية.
وقال العديد من قادة «طالبان»، خلال مقابلات شخصية لأجل هذا المقال، إنه خلال الشهور الأولى التي تلت الغزو الأميركي، كانوا بالكاد يحلمون بيوم يتمكنون فيه من محاربة الجيش الأميركي الغازي. غير أن تلك الآمال تهاوت سيما بعد أن أعادت قيادة الحركة تجميع شتاتها في الملاذات الآمنة التي وفّرها لهم الجيش الباكستاني –حتى في الوقت الذي كانت الحكومة الباكستانية تتلقى فيه مئات الملايين من الدولارات من المساعدات الأميركية.
ومن تلك الملاذات الآمنة، شرعت قيادة الحركة في التخطيط لشن حرب الاستنزاف طويلة الأمد ضد القوات الأميركية في أفغانستان. وبدءاً من الهجمات الإقليمية الأكثر خطورة ودموية في عام 2007، عكفت الحركة المتمردة على إحياء وصقل أساليب الحرب القديمة التي نُفّذت بتمويل من حكومة الولايات المتحدة ضد القوات السوفياتية في نفس الجبال وعلى نفس التضاريس، ولكنها باتت الآن موجهة ضد الجيش الأميركي في البلاد.
* خدمة «نيويورك تايمز»



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».