«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مخاوف من نجاح الحركة في إرهاب المفاوضين الأفغان للحصول على حصة مهيمنة في الحكومة المقبلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
TT

«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)

في ظلال إحدى شجرات التوت على مقربة من مقبرة تحمل شواهد قبورها رايات حركة «طالبان»، اعترف أحد كبار القادة العسكريين بالحركة في شرق أفغانستان بأنها قد تكبدت الكثير من الخسائر إثر الغارات الأميركية المدمّرة فضلاً عن العمليات العسكرية الحكومية على مدى السنوات العشر الماضية.
بيد أن هذه الخسائر لم تغيّر سوى القليل للغاية من الواقع على أرض القتال، إذ تواصل الحركة المتمردة استبدال القتلى والجرحى بين صفوفها باستقدام المقاتلين الجدد ومواصلة ارتكاب أعمال العنف الوحشية.
وقال مولوي محمد قيس، رئيس الجناح العسكري لحركة «طالبان» في ولاية لغمان بشرق أفغانستان، فيما كان ينتظر العشرات من رجاله ومقاتليه بالقرب من أحد التلال: «القتال عبادة بالنسبة لنا، ولذلك إذا سقط أخ لنا قتيلاً، فلن يتردد الأخ الثاني في تنفيذ مشيئة الله، ولسوف يسير على خطى من سبقوه».

كان ذلك في شهر مارس (آذار) الماضي، وكانت حركة «طالبان» قد وقّعت لتوّها على اتفاق سلام مع الولايات المتحدة يضع الحركة على عتبة بلوغ أشد غاياتها اشتياقاً ألا وهي: المغادرة الكاملة للقوات الأميركية من تراب أفغانستان.
وبذلك، تكون حركة «طالبان» قد تجاوزت القوة الأميركية العظمى عبر 19 عاماً تقريباً من الحرب الطويلة الطاحنة. وسلطت عشرات المقابلات التي أُجريت مع مسؤولي «طالبان» ومقاتليها في ثلاث دول، وكذلك مع المسؤولين الأفغان، والمسؤولين الغربيين، الأضواء على مزيج من المناهج والأجيال القديمة والجديدة التي عاونت الحركة كثيراً في بلوغ تلك الغاية. وبعد عام 2001، أعادت «طالبان» تنظيم نفسها كشبكة لامركزية من المقاتلين وقادة المستويات الدنيا والمخولين بتجنيد العناصر الجديدة والعثور على الموارد المحلية، في حين تتابع القيادة العليا للحركة مجريات الأمور وتطوراتها من داخل باكستان المجاورة.
وتحوّلت الحركة المتمردة إلى اعتماد مخطط من العمليات والهجمات الإرهابية التي فرضت ضغوطاً هائلة وشديدة على الحكومة الأفغانية، وبهدف توسيع مجال محركات التمويل غير المشروعة والقائمة على الجرائم وتجارة المخدرات وتهريبها، وذلك رغم آيديولوجية الحركة الضاربة بجذورها في أعماق التعاليم الدينية الصارمة.
وفي الوقت ذاته، لم تغيّر حركة «طالبان» سوى النّزر اليسير من الأسس الآيديولوجية بالغة القسوة لديها في وقت تتأهب للبدء في المحادثات المباشرة بشأن تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية الحالية. فلم تتراجع الحركة صراحة عن ماضيها المعروف من إيواء العناصر الإرهابية الدولية، ولا هي تراجعت قيد أنملة عن مواصلة الممارسات القمعية تجاه النساء، وتجاه الأقليات التي تعيش في أفغانستان، والتي قيّدت حكومة «طالبان» من نطاق وجودها خلال توليها الحكم في كابل في تسعينات القرن الماضي. وما زالت الحركة المتمردة تعارض بكل قوتها الغالبية العظمى من التغييرات المؤيدة من الغرب والتي جرت في البلاد على مدى العقدين الماضيين.
يقول أمير خان متقي، رئيس أركان الزعيم الأعلى لحركة «طالبان»، في مقابلة نادرة أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز» في مدينة الدوحة: «نودّ تنفيذ الاتفاق (مع الأميركيين) بالكامل حتى يتسنى لنا تحقيق السلام الشامل، ولكن لا يمكننا التزام الصمت المطبق وسجون أفغانستان مليئة برجالنا وإخواننا، عندما يسير نظام الحكومة الأفغانية على منوال نظم الحكم الغربية، ينبغي على حركة (طالبان) الرجوع والمكوث في المنزل، أليس كذلك؟». ثم أضاف قائلاً: «كلا، لن يبقى كل شيء على حاله بعد كل هذه التضحيات الكبيرة، لا يقبل المنطق السليم ذلك أبداً. الحكومة الأفغانية الحالية ترتكن على الأموال الأجنبية، والأسلحة الأجنبية، والتمويلات الأجنبية في كل شيء».
تلوح ذكريات الماضي الكئيب في الأفق. ففي المرة الأخيرة التي غادرت فيها قوة الاحتلال التراب الأفغاني –عندما تمكن المجاهدون الأفغان المدعومون من الولايات المتحدة من إجبار القوات السوفياتية على الانسحاب من البلاد في عام 1989– أطاحت فصائل المجاهدين بالحكومة الأفغانية القائمة وقتذاك، ثم حوّلت أسلحتها إلى صدور بعضها البعض تتقاتل على ما تبقى من أوصال البلاد ورفات الحكم والسلطة. واستمر هذا التقاتل حتى اعتلت حركة «طالبان» سدة المشهد الدموي العنيف في تلك الأيام.
والآن، حتى مع توقف العمليات العسكرية من طرف الولايات المتحدة والقتالية من طرف حركة «طالبان» داخل أفغانستان راهناً، تواصل الحركة المتمردة تكثيف هجماتها الإرهابية ضد القوات الحكومية الأفغانية قبل تلك الهدنة النادرة التي استمرت لمدة ثلاثة أيام لمناسبة عيد الفطر. ويبدو أن تكتيكات الحركة تشير إلى بث الخوف والذعر بين جموع المواطنين من خلال تلك الهجمات.
ويخشى كثيرون من المواطنين الأفغان أن تنجح الحركة المتمردة في مساعيها من إرهاب المفاوضين الأفغان وإجبارهم على التنازل عن حصة كبيرة ومهيمنة في الحكومة الجديدة –التي تواصل «طالبان» تقويض مؤسساتها واغتيال رجالها ومسؤوليها، بالكمائن تارةً وبالسيارات المفخخة تارةً أخرى.
ولقد أوضح القادة الميدانيون من «طالبان» جلياً أنهم احترموا قرار وقف النار فقط من أجل منح القوات الأميركية ممراً آمناً للانسحاب ومغادرة البلاد، كما قال أحد كبار زعماء الحركة في جنوب البلاد، ولكن ليس هناك من تحفظ بشأن مواصلة شن الهجمات ضد قوات الأمن الحكومية الأفغانية.
وقال قائد شاب من أعضاء «الوحدة الحمراء» وهي قوة النخبة التابعة لحركة «طالبان» في ألينغار (ولاية لغمان): «لقد بدأنا القتال هنا ضد الفساد الحكومي قبل الاحتلال الأميركي لبلادنا. وكان الفاسدون هم من توسلوا لقدوم أميركا إلى أفغانستان لعجزهم عن مواصلة القتال ضدنا». وكان ذلك الشاب اليافع طفلاً صغيراً يلعب عندما بدأ الغزو العسكري الأميركي لأفغانستان، ولقد التقى مع فريق مراسلي صحيفة «نيويورك تايمز» في المنطقة التي تسمح فيها الحكومة الأفغانية بوجود عناصر من الحركة المتمردة.
ثم استطرد القائد الشاب، مجهول الهوية وفق طلبه، قائلاً: «جهادنا مستمر إلى يوم القيامة وحتى إقامة نظام الحكم الإسلامي على أراضي أفغانستان».
التجنيد والسيطرة
وحسب التقديرات الأفغانية والأميركية، تملك حركة «طالبان» راهناً عدداً من المقاتلين يتراوح بين 50 و60 ألف مقاتل عامل، فضلاً عن عشرات الآلاف من المسلحين غير المتفرغين، وسواهم من عناصر الدعم والإمداد المحليين.
ولا يمكن اعتبار حركة «طالبان» منظمة متجانسة متماثلة. إذ عكفت قيادة الحركة المتمردة على بناء آلة حربية من أجزاء متباينة ومترامية الأطراف، ودفعت كل خلية من خلاياها إلى محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي على الصعيد المحلي. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة بالكامل، أو التي يمتد نفوذها وتأثيرها بين أوصال المجتمع، تواصل «طالبان» توفير بعض الخدمات، والوساطة في تسوية المنازعات، وتتخذ من نفسها على الدوام وضعية حكومة الظل غير الرسمية.
يقول تيمور شاران، الباحث الأفغاني البارز والمسؤول الحكومي الكبير السابق: «إنها شبكة متمردة تتسم بقدر كبير من اللامركزية مع امتلاك قادتها المقدرة على تعبئة الموارد وتجنيد الأتباع وتأمين الدعم اللوجيستي على مستويات الولايات في وقت الحاجة. غير أن الأنساق العليا من قيادة الحركة تكتسب شرعيتها من الولاء لزعيم واحد فقط».
وعلى مر السنين، ظلت القيادة العليا للحركة تلتزم أماكنها داخل باكستان المجاورة، حيث دعم جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية إعادة تشكيل أوصال الحركة الأفغانية المتمردة. وكانت هذه الملاذات الآمنة قد وفرت قدراً من الاستمرارية لقيادات الحركة في الوقت الذي تعاني فيه المستويات الدنيا من عناصرها الخسائر الفادحة داخل أفغانستان.
كانت معدلات الخسائر والضحايا في صفوف الحركة بالغة الارتفاع في بعض الأحيان، لدرجة أنها وصلت إلى سقوط مئات المقاتلين من عناصر الحركة أسبوعياً جراء حملة القصف الجوي الأميركية الشديدة التي أسقطت فيها الطائرات الحربية ما يقرب من 27 ألف قنبلة منذ عام 2013 –حتى إن حركة «طالبان» استحدثت نظاماً جديداً من عناصر الاحتياطي القتالي لمواصلة ممارسة الضغوط في المناطق التي تكبدت فيها كبرى الخسائر، وذلك حسب إفادات القادة الإقليميين من أبناء الحركة.
وكان العام الماضي موجعاً ومدمراً بالنسبة إلى حركة «طالبان» بصورة خاصة، إذ زعم المسؤولون الأفغان أنهم يحصدون رؤوس عناصر الحركة بمعدلات قتالية غير مسبوقة، حيث يسقط أكثر من 1000 مقاتل من عناصرها بصفة شهرية، وربما ربع إجمالي القوات المقدرة للحركة بحلول نهاية العام. وبالإضافة إلى الغارات الجوية التي شنتها القوات الحكومية الأفغانية، أسقطت الغارات الجوية الأميركية 7400 قنبلة، وهو أكبر معدل مسجل لها خلال السنوات العشر الماضية.
وحتى في ذروة الوجود العسكري الأميركي طويل الأمد، ومع الجهود التنسيقية لمعاونة الحكومة الأفغانية على الصعيد المعنوي واستمالة قلوب المواطنين وعقولهم في ريف أفغانستان، كانت حركة «طالبان» قد تمكنت من الاستمرار في تجنيد الأتباع وما يكفي من الشباب لمواصلة القتال. وتواصل الأسر الأفغانية الفقيرة تلبية نداءات «طالبان» والدفع بزهرة شبابها في أتون الحرب المستعرة للمحافظة على تماسك الحركة المتمردة وصمودها رغم التضحيات.
وأوضح مولوي محمد قيس كيف أن جناحه العسكري في لغمان يملك لجنة نشطة للدعوة والإرشاد، حيث يرتاد أعضاؤها المساجد ويحضرون دروس القرآن الكريم بهدف التقاط وتجنيد العناصر الجديدة للقتال. لكنه أشار إلى أن أغلب المجندين الجدد يأتون من طرف المقاتلين الحاليين الذين يعملون بكل دأب على تجنيد الأقارب والأصدقاء وضمهم إلى صفوف الحركة. وتظل الحاجة إلى الدماء الجديدة قائمة ومستمرة لدى «طالبان»، لا سيما خلال السنوات العشر الماضية. واستطرد مولوي قيس يقول: «لقد فقدنا 80 رجلاً دفعة واحدة من وحدتنا القتالية الحالية»، في إشارة إلى الوحدة القتالية التي تتألف من 100 إلى 150 مقاتلاً.
ومع ذلك، ما زال المجندون يواصلون القدوم والانضمام إلى صفوف الحركة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الكراهية العميقة المتأصلة في نفوس الناس ضد المؤسسات الحكومية والقيم الغربية الدخيلة التي اعتمدتها الحكومة الأفغانية من طرف حلفائها في الغرب. وأردف مولوي قيس في هذا الإطار: «مشكلتنا ليست مع لحومهم وعظامهم، وإنما هي مع النظام الذي يوالونه ويخدمونه».
ويقول المسؤولون الأفغان إنه في المناطق التي لا تفرض فيها حركة «طالبان» سيطرتها الكاملة لتجنيد الأتباع، لا تزال الحركة تعتمد بصورة كبيرة على ما يقرب من مليونين من اللاجئين الأفغان الذين يعيشون داخل باكستان المجاورة، كما يعتمدون على المدارس الدينية المنتشرة هناك في استمالة وتجنيد العناصر الجديدة للقتال في الخطوط الأمامية.
ويقول مسؤولو التجنيد والقادة الميدانيون لدى «طالبان» إنهم لا يدفعون رواتب منتظمة للعناصر القتالية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يغطون النفقات العائلية للمقاتلين في صفوفهم، الأمر الذي ساعدهم كثيراً خلال السنوات الأخيرة على منح قدر معتبر من الحريات لقادة الحركة في كيفية استخدام الموارد المحلية وإدارة غنائم الحرب. ويجري تحصيل بعض الإيرادات عن طريق فرض الضرائب على السلع. ولكن الحركة أصبحت متشابكة للغاية، وبصورة متزايدة، في أعمال الجرائم المحلية وتجارة المخدرات وتهريبها، الأمر الذي رفع من المحفّزات المالية التي تمكن الحركة من مواصلة ما تعدّه «جهاداً مقدساً»!
يقول الملا باقي زاراوار، قائد إحدى وحدات «طالبان» في ولاية هلمند: «إخواننا الذين يقاتلون معنا في صفوف الجهاد الأمامية لا يحصلون من الحركة على رواتب محددة، ولكننا نعتني بنفقاتهم الشخصية، ووقود دراجاتهم البخارية، ومصاريف أسفارهم إلى أسرهم. وإذا ما وقعت في أيديهم الغنائم، فهذا رزقهم».
وبالنسبة إلى المناطق التي تسيطر عليها «طالبان» بصورة جيدة، فإن العديد من عناصر الحركة، وربما بعض القادة أيضاً، يحتفظون لأنفسهم بوظائف أخرى غير القتال.
توقف مولوي قيس، في أثناء المقابلة الشخصية، للاعتذار عن ملابسه المتسخة، وقال إنه كان يطحن الدقيق طوال الصباح، وتلك هي وظيفته اليومية. ولدى العديد من المقاتلين الآخرين وظائف أخرى عندما لا يقاتلون في صفوف الحركة. ولضمان عدم جفاف منابع التجنيد، منحت الحركة الأولوية لعملية معقدة من جمع المعلومات، وصياغة خطاب الحركة من خلال إنتاج مقاطع الفيديو الدعائية الرائعة، فضلاً عن جناح نشط للغاية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتنتشر عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي مقاطع لحالات الإصابة والضحايا بين المدنيين على أيدي القوات الأميركية أو الأفغانية، سواء كانت حقيقية أو مختلقة، وذلك بالاقتران مع مقاطع فيديو أخرى لتدريبات عناصر «طالبان» وهم يقفزون خلال الحلقات المشتعلة بالنار ويطلقون الرصاص من أسلحتهم. وكانت الرسالة من وراء ذلك واضحة: «الانضمام إلينا يعني حياة البطولة والتضحية والفداء». وكانت لديهم رموز قوية يستشهدون بها في رسالتهم: كانوا يقاتلون تحت راية قائدهم الأعلى مولوي هيبة الله أخوند زاده، والذي أرسل ابنه في عملية انتحارية من أجل نصرة قضية «طالبان» ضد الحكومة الأفغانية التي يدعمها «جيش الغزاة» الأميركيين ويقودها المسؤولون الذين تعيش عائلاتهم وأبناؤهم في خارج البلاد.
وبعد اتفاق الحركة مع الجانب الأميركي، كثّفت «طالبان» من جهودها الدعائية، واعتلت موجة الانتصار العارمة التي تنذر بكل سوء. وفي خطبته السنوية بمناسبة عيد الفطر التي صدرت قبل أيام، تعهد زعيم «طالبان» بالعفو عن الخصوم الذين تخلوا عن ولائهم للحكومة الأفغانية.
وتعد مديرية ألينغار، من ولاية لغمان، مثالاً على ترتيبات «طالبان» على الصعيد المحلي والقيام مقام حكومة الظل في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وقال قادة الحركة في المديرية إنهم يجمعون الضرائب، ويرسلون خُمسها تقريباً إلى القيادة المركزية للحركة مع الاحتفاظ بالباقي منها للمقاتلين المحليين. ولديهم أيضاً لجان تشرف على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك الخدمات الصحية، والتعليم، وإدارة الأسواق المحلية.
ولا تزال الحكومة الأفغانية والجهات الدولية المانحة تدفع تكاليف الإمدادات، ورواتب العيادات الصحية، والمدارس المحلية. لكن حركة «طالبان» تدير الأمور بطريقتها الخاصة –في تسوية تمت على مضض بواسطة المنظمات الإغاثية حيث إن البديل يعني عدم توافر الخدمات على الإطلاق. كما أن منهج الحركة المتمردة إزاء التعليم من أبلغ الأدلة الواضحة على أنها تتمسك تماماً بأساليبها القديمة في قمع النساء، والقضاء على الثقافة والفنون في المجتمع.
ومن بين 57 مدرسة في ألينغار، هناك 17 مدرسة منها مخصصة للفتيات، وفقاً لمولوي أحمد هاكمال، رئيس لجنة التعليم في المديرية. بيد أن عناصر «طالبان» في المقاطعة تصر على وقف تعليم الفتيات تماماً بعد الصف السادس، فيما يتعارض مع المتطلبات الدولية للمساعدات التعليمية في البلاد. ومن حيث المناهج الدراسية، ألغت حركة «طالبان» مادة الثقافة كموضوع دراسي ذلك لأنها تشجع على التهتك والابتذال مثل تعليم الفتيات الموسيقى والفنون.
أبناء الفوضى
بعد استيلاء حركة «طالبان» على السلطة في تسعينات القرن الماضي، وهزيمتها للفصائل المتناحرة الأخرى إثر الفراغ السلطوي في الحكم الذي خلفه انسحاب القوات السوفياتية من البلاد، أبدت الولايات المتحدة قدراً من اللامبالاة بأسلوب الحكم القمعي الذي اعتمدته الحركة. غير أن الأمور تغيّرت تماماً في عام 2001، مع اتخاذ قادة تنظيم «القاعدة» الإرهابي من أفغانستان ملاذاً لهم في أعقاب هجمات سبتمبر (أيلول) الإرهابية على الأراضي الأميركية.
وقضى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وقتاً طويلاً في أفغانستان، ولقد حارب ذات مرة إلى الجانب الأميركي ضد القوات السوفياتية مع نهاية حقبة الحرب الباردة. وكان زعيم «طالبان» آنذاك، الملا محمد عمر، قد سمح لأسامة بن لادن ورجاله بالبقاء في أفغانستان، وتوثقت علاقاتهما منذ ذلك الحين، مع إعلان بن لادن الولاء للملا محمد عمر.
وفي أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة، وإثر سعيها الشديد للانتقام والثأر لكرامتها الجريحة، نفد رصيد الصبر لدى الإدارة الأميركية برئاسة جورج دبليو بوش، سيما بعد العديد من طلبات تسليم أسامة بن لادن مباشرةً إلى الحكومة الأميركية التي رفضتها حركة «طالبان»، ومن ثم شرعت الولايات المتحدة في الغزو العسكري لأراضي أفغانستان. وسرعان ما تلاشى نفوذ الحركة التي كانت قد حققت نجاحات باهرة على مختلف الفصائل الأفغانية الأخرى، في مواجهة الغارات الجوية الأميركية الشديدة. وعاد عناصر الحركة إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة والخسران بعد تفكك «إمارة طالبان» التي كانت تؤويهم. وعبر الكثير من زعماء الحركة الحدود إلى باكستان المجاورة أو ربما انتهى بهم المطاف إلى داخل السجون الأميركية.
وقال العديد من قادة «طالبان»، خلال مقابلات شخصية لأجل هذا المقال، إنه خلال الشهور الأولى التي تلت الغزو الأميركي، كانوا بالكاد يحلمون بيوم يتمكنون فيه من محاربة الجيش الأميركي الغازي. غير أن تلك الآمال تهاوت سيما بعد أن أعادت قيادة الحركة تجميع شتاتها في الملاذات الآمنة التي وفّرها لهم الجيش الباكستاني –حتى في الوقت الذي كانت الحكومة الباكستانية تتلقى فيه مئات الملايين من الدولارات من المساعدات الأميركية.
ومن تلك الملاذات الآمنة، شرعت قيادة الحركة في التخطيط لشن حرب الاستنزاف طويلة الأمد ضد القوات الأميركية في أفغانستان. وبدءاً من الهجمات الإقليمية الأكثر خطورة ودموية في عام 2007، عكفت الحركة المتمردة على إحياء وصقل أساليب الحرب القديمة التي نُفّذت بتمويل من حكومة الولايات المتحدة ضد القوات السوفياتية في نفس الجبال وعلى نفس التضاريس، ولكنها باتت الآن موجهة ضد الجيش الأميركي في البلاد.
* خدمة «نيويورك تايمز»



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.