لبنان يخرج من الحجْر متسائلاً: لماذا لم تعد المدينة تشبهنا؟

الغموض يسيطر على المهن الثقافية

لوحة للفنان جي. مكتبي
لوحة للفنان جي. مكتبي
TT

لبنان يخرج من الحجْر متسائلاً: لماذا لم تعد المدينة تشبهنا؟

لوحة للفنان جي. مكتبي
لوحة للفنان جي. مكتبي

مع رفع الحجر الصحي، يكتشف أصحاب المسارح، ودور السينما، ودور النشر، والغاليريات، وغيرهم من أصحاب المهن الفنية والثقافية، أنهم آخر من سيخرج من الأزمة، وهم من بين المتأثرين بشكل كبير بالجائحة التي عصفت بالعالم.
آلاف المؤسسات الثقافية أقفلت أبوابها، وإن تم رفع الحجر عن بعضها فهو يتم بشروط. فالنبض الحقيقي للثقافة هو الناس باجتماعهم، وتلاقيهم وتلاقح أفكارهم. وإن كانت المسارح ودور السينما لا تزال مغلقة في لبنان، وسيجد الناس صعوبة في شراء تذكرة للجلوس في مكان مغلق مع آخرين، فإن دور النشر تجد نفسها أكثر تحرراً؛ لكنها في الوقت نفسه مقيدة بسبب انشغال الذهن بشكل عام بقضايا حياتية بسيطة، وشلل حركة الشحن وتوقف الطيران.
تبدّل أولويات الناس سيصعب إعادة تشغيل آلة النشر، ويؤجلها لأشهر مقبلة. هذا لا يعني أن دور النشر متوقفة تماماً؛ بل على العكس ثمة كتب تنتظر، وهناك من بدأ يطلق إصدارات كانت شبه جاهزة قبل الحجر.
«دار الآداب» أطلقت روايتها الأولى، وهي للروائية السورية ديمة ونوس، وتحمل عنوان «العائلة التي ابتلعت رجالها»، وخلال اليومين المقبلين ستكون في المكتبات اللبنانية، كما أنها شحنت إلى الكويت، وستوجد في «مكتبة التنمية» في مصر. استفادت الدار من وجود طائرات خاصة للشحن، ولو كانت أعلى كلفة، بينما تتريث دور أخرى.
ثمة رغبة في تشغيل المحركات. هذا ما تراه «دار نلسن» التي لها جرأة إطلاق كتاب عن الفنان زكي ناصيف في الأيام المقبلة، وإن كان صاحب الدار سليمان بختي يعتقد أن صعوبات كبيرة ستواجه الناشر في التوزيع والتوصيل، كما والتعريف بالكتاب في غياب القدرة على إقامة حلقة نقاش أو حفل توقيع. فالاهتمامات صارت فردية أكثر منها مجتمعية، بعد الانهيار الاقتصادي الذي ترافق مع جائحة «كورونا»، ومحنة لبنان مضروبة باثنين، ومضاعفة عما أصاب أي بلد آخر.
سوق الكتب تفتح بخجل، مع أن المكتبات في لبنان أعفيت جزئياً من الإغلاق أثناء الحجر الصحي. بعض الطلبات بدأت ترد من الخارج إلى دور النشر؛ لكن التوزيع انخفض إلى أكثر من ثمانين في المائة.
لا تتوقع صاحبة «دار الآداب» رنا إدريس أن تعود الدور إلى نشاطها المعتاد قبل شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. أي بعد انتهاء فصل الصيف وبداية العام الدراسي الجديد.
في جعبة الناشرين كمّ كبير من الكتب تجمّع لديهم. هناك الكتب التي لا تزال مخزّنة من قبل حلول الوباء، وكان يفترض أن تطلق في معرض الرياض للكتاب، ومعارض أخرى؛ لكنها بقيت في صناديقها، يضاف إليها ما تم تحضيره خلال أشهر الحجر، وما سيطبع خلال الصيف.
«دار الآداب» في جعبتها لشهر سبتمبر حوالي 7 أو 8 روايات ستكون جاهزة، وتفضل عدم المجازفة بإطلاق نصوص لأسماء جديدة، ليكتشفها القراء. هذا يعني أن الظروف الصعبة ستسهم في تغيير خيارات النشر، كما ستدعو للتريث في المغامرة، وتحديد الأهداف.
«دار الآداب» لا ترى مناسباً أن تتكلف على لجان دراسة نصوص جديدة، ووضعها جانباً، دون أن تعرف متى سيكون بإمكانها نشرها وتوزيعها.
الانتظار الكبير لشهر سبتمبر سيراكم عدداً كبيراً من الإصدارات؛ لكن حصيلة السنة بشكل عام لن تكون كما المعتاد؛ إذ إن دار نشر كبيرة كانت تصدر أربعين إلى خمسين عنواناً في السنة، لن يتجاوز إنتاجها الثلاثين كتاباً عام 2020. المجازفة غير مأمونة العواقب.
معرض الشارقة ذكّر الناشرين بتسجيل مشاركتهم في معرض الكتاب الذي يبدأ في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني). ومن أيام قليلة فُتح باب التسجيل في معرض الكويت للكتاب، للدور التي تريد المشاركة، وهو يبدأ في 18 نوفمبر المقبل. وبدأ الناشرون بالتواصل مع المعنيين في البلدين بالفعل «وهو ما سيحفز الناشرين على المضي في العمل على إصدارتهم، وتهيئة أعمال جديدة بين شهر أغسطس (آب) وسبتمبر؛ حيث إن الشحن للمعارض يبدأ في هذه الفترة» بحسب إدريس.
إذن ثمة معارض للكتب تعمل وكأن كل شيء سيكون على ما يرام، رغم التحذيرات العالمية من أن موجة وباء جديدة قد تضرب العالم في الخريف المقبل. والناشرون في غالبيتهم لا يحبذون التشاؤم، وهذا يأتي في صالح الكتاب، ويمنح الجميع الأمل والعزيمة.
جائزة البوكر للرواية العربية، سهّلت بدورها مهمة الناشرين والروائيين معاً، وقبلت ترشيح روايات بصيغتها الإلكترونية، شرط أن تكون قد أصبحت ورقية قبل الإعلان عن الفوز باللائحة الطويلة، في شهر فبراير (شباط) من السنة المقبلة.
مع أن الحركة بدأت، وثمة ميل للقول إن كل شيء سيكون على ما يرام، فإن الانهيار الاقتصادي في لبنان لا يساعد كثيراً على رؤية بداية ميسّرة. ويعتقد سليمان بختي أن «الإنسان بات محشوراً في دائرته الفردية وهمومه الخاصة، باحثاً عن كفايته الذاتية، بينما الثقافة بشكل عام هي ذهاب إلى الدوائر الكبرى». وأكثر ما يخشاه في هذه الفترة هو «الإحباط»؛ لأن المحبط لا ينتج، وإن أنتج فبهزال.
وإن كانت الفنون البصرية من تشكيل وسينما لا تزال بخير، فإن المسرح والصحافة يتراجعان بشكل ملحوظ، وثمة أماكن لها رمزيتها الكبيرة تغلق أبوابها، ومؤسسات تتخلى عن مهماتها. «ويخشى على بعض المهن أن تنقرض بالفعل، تحت وطأة التقهقر، بعد أن أعيد الإنسان في الحجر إلى مرحلة أهل الكهف؛ حيث عليه أن يكتفي بتأمين حاجياته الأولى من أكل وشرب ونوم لساعات كافية من أجل الوقاية الصحية». لا يخفي بختي خوفه من التحولات «بحيث نجد أنفسنا في مدينة لم تعد تشبهنا، وقد أصبحت شيئاً آخر، بعد أن تفقد العديد من ملامحها، ولا تتمكن من مخاطبة آفاق الإنسان».
كيف ستكون بيروت بعد الحجر والانهيار الاقتصادي؟ من الصعب تخيل الأشهر المقبلة، ولا بد من أن تمويلات الأنشطة الثقافية التي كان يعتمد عليها والآتية من الخارج ستشح، والمهرجانات الصيفية لا تزال مجهولة المصير، ما دامت التجمعات غير ممكنة.
الثقافة تحتاج مناخات مؤاتية، وهذا ما لا يلوح في الأفق؛ لكن الأمل الوحيد المتبقي هو في المخيلة والنبض الحي الذي لم يفارق اللبنانيين يوماً. بين الرجاء والخوف من المجهول يتأرجح اللبنانيون، ويتلمسون طريقهم وهم يخرجون من الحجر إلى نصف حرية، بقليل جداً من الإمكانات.


مقالات ذات صلة

الولايات المتحدة​ الولايات المتحدة تزيد القيود على تلقي اللقاحات المضادة لكوفيد (أ.ف.ب)

الولايات المتحدة ستزيد القيود على لقاحات كوفيد

تعتزم الولايات المتحدة زيادة القيود على تلقي اللقاحات المضادة لكوفيد، مع حصر التوصية بها للأشخاص في سن 65 عاماً وما فوق أو لأولئك المعرضين للخطر بصورة أكبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم تايلانديون يضعون كمامات واقية في منطقة عامة ببانكوك الثلاثاء (إ.ب.أ)

«منظمة الصحة» تتبنى اتفاقاً تاريخياً لمكافحة الجوائح العالمية

شكّلت جائحة «كوفيد 19» صدمة عالمية، وذكّرت بأن الفيروسات لا تعترف بالحدود، وبأن أي بلد، مهما بلغت قوته، لا يستطيع بمفرده مواجهة أزمة صحية عالمية.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
علوم «لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟

«لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟

لا تؤثر على الحمض النووي للإنسان ولا تندمج مع الجينوم

آسيا رجل يمر أمام مجسمَيْن لفيروس «كورونا» (رويترز)

الصين: «كوفيد - 19» نشأ في الولايات المتحدة

أعادت الصين تكرار مزاعمها بأن «كوفيد - 19» ربما نشأ في الولايات المتحدة، وذلك في تقرير أصدرته أمس الأربعاء حول استجابتها للجائحة.

«الشرق الأوسط» (بكين)

فنانون مصريون يثيرون جدلاً حول «قافلة الصمود»

هند صبري (صفحتها على فيسبوك)
هند صبري (صفحتها على فيسبوك)
TT

فنانون مصريون يثيرون جدلاً حول «قافلة الصمود»

هند صبري (صفحتها على فيسبوك)
هند صبري (صفحتها على فيسبوك)

أثار عدد من الفنانين بمصر جدلاً واسعاً بعد التعبير عن آرائهم حول تداعيات أزمة «قافلة الصمود»، التي أثيرت على نطاق واسع خلال اليومين الماضيين، وتصدرت «التريند»، بمواقع التواصل منذ إعلان توجهها إلى مصر، بمشاركة أفراد من بعض دول المغرب العربي. وتفاعل فنانون عبر حساباتهم «السوشيالية»، مع التعليقات والمشاركات حول هذه القافلة، كان أبرزهم: هند صبري، وخالد يوسف، وصبري فواز، وطه دسوقي؛ حيث تضامن البعض منهم مع الحدث، وحرية التعبير، بينما أكد آخرون تأييدهم للموقف السياسي المصري الذي أكد على ضرورة اتباع الإجراءات القانونية لدخول البلاد.

ونشرت الفنانة هند صبري منشوراً عبر خاصية «ستوري»، بحسابها في موقع «إنستغرام»، أوضحت خلاله أن «الناس في مطار أمستردام يهتفون لفلسطين، وهم في طريقهم للانضمام إلى المسيرة العالمية إلى غزة عند معبر رفح في مصر».

وفي منشور آخر أشارت هند إلى أن غزة من دون «إنترنت» لليوم الرابع على التوالي، وخلال الـ24 ساعة الماضية قتلت إسرائيل ما يقارب 100 شخص، والكثير تعرض لإطلاق النار، ومن بينهم أطفال، بينما العالم ينشغل بإيران، في حين تكثف إسرائيل هجماتها على غزة، وفق ما نشرت.

المخرج خالد يوسف (صفحته على فيسبوك)

وكتب المخرج خالد يوسف عبر حسابه الشخصي بموقع «فيسبوك»، معبراً عن رأيه حول أزمة «قافلة الصمود»، وتأييده للموقف الرسمي المصري المناهض لتهجير أهل غزة، موضحاً أن «القافلة تواصلت مع بعض الشخصيات السياسية، للتنسيق بشأن مرورها ووصولها إلى رفح، لكن طلبهم قوبل بالرفض بعد دراسة الموقف الأمني والسياسي».

وأضاف المخرج المصري أنه «لا يستطيع الجزم بأن قرارهم بالاستمرار في المسيرة، رغم إبلاغهم برفض السلطات المصرية، هو إخلاص وحماس في السعي بوازع وطني وإنساني أم لإحراج مصر، أم لأهداف أخرى، وفي كل الأحوال لا بد أن نشيد بأي جهد في العالم لكشف وفضح الحصار الجائر وإدانة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة».

وعبر يوسف عن أمنيته بمرور القافلة في حال كان غرضها دعم ومناصرة القضية الفلسطينية.

ويرى نقاد أن الفنان لا بد أن يشارك برأيه في كل قضايا مجتمعه بشكل إيجابي، والتعبير عما بداخله، وقال الناقد الفني المصري، عماد يسري، إن «الفنان إنسان في المقام الأول، وتفاعله مع قضايا وطنه العربي الأكبر أمر طبيعي»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه المشاركات والآراء المهمة، تجاه القضايا، لا تنطبق على نجوم مصر فقط، بل إنها موجودة في العالم أجمع، ولهم دور مهم وملموس تجاه كل القضايا الإنسانية المختلفة».

ويوضح يسري أنه «في عصر (السوشيال ميديا)، أصبحت مواقف الفنانين أسرع وصولاً من قبل ولها شعبية ومتابعة واسعة، وهذا يدعم القضية المطروحة».

ولفت إلى أن «آراء الفنان ربما تؤثر بالسلب أو الإيجاب على مسيرته وجماهيريته، ولدينا نجوم كثر تأثروا بهذا الأمر»، وقال إن «قافلة الصمود جعلت الآراء منقسمة بشكل واضح بين الرفض والقبول والدعم والقلق، ولكن بالنهاية أمن مصر يجب أن يكون فوق كل شيء».

الفنان صبري فواز (صفحته على فيسبوك)

في السياق ذاته، أكد الفنان صبري فواز على حرية الرأي سواء كانت بالرفض أو الدعم، وكذلك للدول التي سمحت لمواطنيها بالمشاركة في القافلة، أو الرفض، مؤكداً أن الحرية أمر رائع.

وكتب طه دسوقي عبر حسابه الشخصي في «فيسبوك»، تعليقاً على أزمة «قافلة الصمود»، منشوراً تضمن فقدان الأمل في الإنسانية، وفق تعبيره. وكتب دسوقي أنه «متضامن مع الحركات الشعبية التي تهدف لكسر الحصار على غزة، وكذلك مع بلده الذي يقع على عاتقه مسؤولية كبيرة».

ويرى الناقد الفني المصري طارق الشناوي أن الفنان جزء من المجتمع، ومن حقه التعبير عن رأيه في كل القضايا وليست السياسية فقط، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «أؤيد إبداء الرأي، ولكن لا بد من وعي الفنان وإلمامه بكل تفاصيل القضية التي يدافع عنها أو يرفضها، وما هي تحفظاته عليها، خصوصاً القضايا الشائكة والمتعددة الأوجه التي تحتمل أكثر من قراءة».