كيف نشتري العطور في ظل «كورونا»؟

مبيعاتها عبر الإنترنت تراجعت والمتاجر تبحث عن حل

صناعة العطور تواجه مشكلة في ظل انتشار «كورونا» (غيتي)
صناعة العطور تواجه مشكلة في ظل انتشار «كورونا» (غيتي)
TT

كيف نشتري العطور في ظل «كورونا»؟

صناعة العطور تواجه مشكلة في ظل انتشار «كورونا» (غيتي)
صناعة العطور تواجه مشكلة في ظل انتشار «كورونا» (غيتي)

لم تتغير طريقة الإعلان عن العطور الجديدة والتسويق لها وبيعها للعالم، منذ ما يقرب من قرن من الزمان، فطريقة تسويق عطر «رقم 5»، الذي تنتجه شركة المصممة الفرنسية الشهيرة كوكو شانيل، بوصفه بأنه «ذو رائحة جذابة للمرأة العصرية» منذ عشرينات القرن العشرين، هي شبيهة لطريقة تسويق عطر «بلاك أوركيد» الذي تم إنتاجه في 2006 من قبل دار المصمم الأميركي توم فورد، والذي يتم وصفه أيضاً بأنه ذو رائحة عصرية وجذابة، ويعتمد كلا العطرين التابعين لشانيل وفورد على تجربته في المتجر، مما يجعل الزبائن يستحضرون الأفكار والمشاعر من خلال شم الرائحة، الأمر الذي يجذبهم بطريقة ما ويدفعهم إلى إنفاق أكثر من 100 دولار أميركي على زجاجة من الماء المعطر.
وتقول عالمة الأعصاب ومؤلفة كتاب «الرائحة: اكتشاف حاسة الشم الغامضة»، راشيل هيرز، إنه «نظراً لأن الرائحة هي شيء غير مرئي، فإننا نعتمد بشكل كبير على الإشارات الخارجية لكيفية تفسيرنا لما نشمه. فالمعلومات اللفظية والمرئية هي بالضبط ما نحتاج إليه لمساعدتنا على تفسير الرائحة التي نشمها، وإيجاد معنى لها».
وصحيح أنه يمكنك الحصول على المعلومات اللفظية والمرئية عن رائحة ما عبر الإنترنت على جهاز الكومبيوتر الخاص بك؛ لكنك لن تتمكن من شمها عبر الإنترنت، وفي ظل انتشار وباء فيروس «كورونا» المستجد الذي أجبر الناس على التسوق عبر الإنترنت، فإن صناعة العطور قد باتت تواجه مشكلة اليوم.
وتقول نائبة رئيس مجموعة «إن بي دي» الأميركية لأبحاث السوق، لاريسا غينسين، إن أداء بيع العطور على الإنترنت هو بالفعل الأسوأ بين منتجات التجميل الأخرى. ووصفت عملية بيع العطور داخل المتاجر بأنها أمر حاسم بشكل خاص في بيع العطور في الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن المبيعات في مارس (آذار) الماضي كانت أقل بنسبة 45 في المائة عن المبيعات في الشهر نفسه في 2019. وقالت غينسين إنه «بمجرد إغلاق المتاجر، انخفضت مبيعات العطور على الفور».
وأكدت ليفي أن الطريقة التي تعتمدها الماركات العالمية وتجار التجزئة لتسويق وبيع العطور ستتغير حتماً بشكل كبير، بعد القضاء على فيروس «كورونا»، موضحة أنه «سيكون عليهم أن يقرروا الإنفاق على التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى العينات التي تستخدم لتجربة العطر، والتفكير في كيفية تغيير الوضع في المتاجر لتكون أكثر ملاءمة للمستهلكين». وتمتلئ صفحات المنتجات العطرية عبر الإنترنت بالجمل المضحكة، حول الأوصاف غير المنطقية للمكونات والعواطف التي يفترض أن يستحضرها الشخص بعد شم العطر. وفي هذا الشأن تقول هيرز: «إن القدرة اللغوية على وصف العطور عادة ما تكون فقيرة للغاية مقارنة بتجاربنا الحسية الأخرى، ولكننا لن ندرك حقاً ما هي الرائحة إلا إذا قيلت لنا مكوناتها».
وفي ظل أزمة فيروس «كورونا» فإن هناك أيضاً كثيراً من الأشخاص الذين لا يريدون شراء العطور على الإطلاق في هذه الفترة، وذلك نظراً لأنهم لم يغادروا منازلهم منذ ما يقرب من شهرين، معتبرين أن العطر لن يضيف شيئاً لمظهرهم الخارجي في المكالمات التي يجرونها عبر الإنترنت على تطبيق «زوم» على سبيل المثال.
ولكن بالنظر لوجود أشخاص لا يزالون يستخدمون العطور في حياتهم اليومية، فإنه ما زالت أمام العلامات التجارية الفرصة لتحويل الأشخاص الرافضين لفكرة التسوق الإلكتروني إلى متسوقين لا يخافون من فكرة التسوق عبر الإنترنت، وسيعتمد ذلك على ما إذا كان بإمكان الشركات تغيير سلوك العملاء.
وتقول مؤسسة ماركة «غلوسيير» لأدوات التجميل ورئيستها التنفيذية، إميلي فايس، إن المستثمرين الذين التقت بهم منذ عدة سنوات لم يكونوا متأكدين من فكرة ما إذا كان الناس قد يشترون المنتج من العلامات التجارية المتخصصة في أدوات التجميل بشكل مباشر عبر الإنترنت، ولكنها أثبتت لهم أنهم كانوا مخطئين؛ حيث إنها بعد 4 سنوات استطاعت تحدي معايير البيع بالتجزئة مرة أخرى، من خلال تقديم عطر «You» الذي تم بيعه فقط على الموقع الإلكتروني لـ«غلوسيير»، وقد تمكن المستهلكون من تجربة العطر من خلال إرسال عينات منه مع الطلبات الأخرى، أو من خلال وضع ملصقات على المجلات المطبوعة تمكنهم من شم الرائحة بعد خدش الملصق.
وقد فاز عطر «You» الذي يبلغ سعره 65 دولاراً أميركياً، وهو السعر الذي يزيد بأكثر من 3 أضعاف عن سعر معظم منتجات شركة «غلوسيير» الأخرى، بجائزة «عطر العام» في حفل توزيع جوائز «مؤسسة العطور».
واستفاد عطر «غلوسيير» من تسويق المستهلكين أنفسهم له، من خلال الثناء عليه عبر تطبيق «إنستغرام» ومنصات أخرى؛ لكن لوريس رهمي المؤسسة والرئيسة التنفيذية لـ«بوند نامبر 9» وهي مجموعة من العطور التي تحمل أسماء الأحياء والشوارع والمعالم في مدينة نيويورك والشواطئ المحيطة بها، تعتقد أن مسألة شم رائحة العطر قبل الشراء لا تزال أمراً غير قابل للتفاوض.
وتقول رهمي عن الموظفين العاملين في المتاجر: «على الرغم من قيامنا بتدريبهم بشكل جيد، فإنهم لا يستطيعون توصيل المعلومات الحقيقية عن العطر للمستهلك، فهم لا يقولون المعلومات بشكل صحيح، كما يضيع كثير من المعاني في الترجمة، فموظفونا ليسوا من حملة درجة الدكتوراه في الأدب».
وقررت رهمي أن تعيد تخصيص ميزانية موظفيها في المتجر لإنتاج 6 ملايين عينة من العطور هذا العام، وذلك بعدما كانت تنتج مليوني عينة فقط كل عام في السنوات السابقة، وستقوم رهمي بإرسال هذه العينات إلى العملاء في المنازل، مؤكدة: «على العميل أن يشم العطر قبل الشراء، فلا توجد وسيلة أخرى لمعرفة رائحته».
بينما تقول جيسيكا ريتشاردز، صاحبة متجر «شين بيوتي»، وهو متجر شهير في بروكلين، بالولايات المتحدة، إن مبيعات عطر «فانكشنال فراجرانس» الذي يعمل على «القضاء على التوتر» حسبما تزعم الشركة المصنعة له «Nue Co»، قد تضاعفت 3 مرات منذ فبراير (شباط) الماضي. وتقول ريتشاردز إنه «من المفترض أن هذا العطر يعمل على تهدئة من يشم رائحته، فهو يحتوي على البنفسج والياسمين، ويبلغ سعره 30 دولاراً أميركياً».
وفي الوقت الذي سيتم فيه القضاء على فيروس «كورونا» ويبدأ الناس في مغادرة منازلهم والعودة إلى الشراء من المتاجر، فإن الأجزاء التي تباع فيها مستحضرات التجميل، والتي عادة ما يتم فيها لمس كثير من العينات وشمها، ستكون قد شهدت تحولاً كبيراً.
ويتدافع الآن تجار التجزئة لتحديد الشكل الذي ستبدو عليه المتاجر بعد مرحلة الحجر الصحي المنزلي الحالية، وقبل إنتاج اللقاح، وذلك لأنه بعد دخول الشخص إلى متجرك، فإن التخلص من مخاوفه المتعلقة بالنظافة قد بات أولوية.
وفي «بروتوكول الجمال» المؤلف من 6 صفحات، والذي أرسلته شركة «ساكس فيفث أفينيو» إلى متاجرها مؤخراً، واطلعت عليه صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن الشركة قد حددت ممارسات جديدة لتجربة العطور، والتي ستدخل حيز التنفيذ بمجرد إعادة فتح المتاجر.
ويتطلب البروتوكول من موظفي المبيعات تعقيم اليدين أمام العميل، وتعقيم زجاجة العطر عن طريق رش الكحول عليها ومسحها بمنديل، ثم رش العطر على ورقة مخصوصة وتسليمها إلى العميل لشم الرائحة، بينما ستظل عينات الاختبار موضوعة على الرفوف فقط لغرض العرض وليس للتجربة.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.


100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)