فيروس مجهريّ ضرب النظام العالمي... فهل تقوم عولمة من أجل الإنسان؟

إقامة مستشفى لمعالجة مرضى «كوفيد - 19» في مركز المعارض بالعاصمة المجرية بودابست (إ.ب.أ)
إقامة مستشفى لمعالجة مرضى «كوفيد - 19» في مركز المعارض بالعاصمة المجرية بودابست (إ.ب.أ)
TT
20

فيروس مجهريّ ضرب النظام العالمي... فهل تقوم عولمة من أجل الإنسان؟

إقامة مستشفى لمعالجة مرضى «كوفيد - 19» في مركز المعارض بالعاصمة المجرية بودابست (إ.ب.أ)
إقامة مستشفى لمعالجة مرضى «كوفيد - 19» في مركز المعارض بالعاصمة المجرية بودابست (إ.ب.أ)

ستنتهي أزمة كورونا من الناحية الصحية عاجلاً أم آجلاً، لكن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون بالتأكيد طويلة المدى، بل دائمة. وهناك رأيان في هذا المجال، الأول يقول إن العولمة ستزول، والثاني يعتبر أنها ستبقى لكن بشكل مختلف. فأيهما الصحيح؟
الإجابة سهلة في ما يخص الرأي الأول، فإذا زالت العولمة سيبدو ذلك واضحاً لكل عين، خبيرة أو غير خبيرة. أما الرأي الثاني فيحتاج إلى كثير من التفكير والبحث للوصول إلى رسم ملامح العالم ما بعد كورونا.
الواضح حتى الآن أن فيروس «كوفيد - 19» أدى إلى ارتفاع حواجز جديدة بسرعة مذهلة خالفت كل ما يمكن وصفه بأنه من ثوابت العولمة التي عرفها العالم في العقدين الماضيين، فأُقفلت حدود، ومُنع السفر، وتعطّلت سلاسل الإمداد، وقُيّد التصدير، وسوى ذلك مما وضع وجود العولمة نفسها موضع شكّ.
إضافة إلى هذه الشؤون الكبيرة، تفرض الأسئلة نفسها على المستوى الفردي، وهو ما يدور حتماً في ذهن كل شخص قابع في الحجر المنزلي: أين سأكون بعد ستة أشهر أو سنة أو عقد من الزمان؟ ماذا سيحصل على صعيد العمل أو الدراسة أو مستوى المعيشة؟ هل ستصمد الأنظمة الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي ربطتُ حياتي بها؟ هل أثق بالمنظومات السياسية وإدارتها لحاضر الأزمة وآثارها المستقبلية؟

*ما هي العولمة؟
شاع استخدام مصطلح العولمة ضمن إطار العلوم الاجتماعية في التسعينات. وهو مستمدّ من ظهور شبكة دولية من النظم الاقتصادية المترابطة.
عام 2000، حدد صندوق النقد الدولي أربعة جوانب أساسية للعولمة: التجارة والتعاملات، حركة رؤوس الأموال والاستثمار، الهجرة وحركة الناس، ونشر المعرفة. وبالتالي، نرى جانبين اقتصاديين للتعريف، وآخرين اجتماعيين، وفوق الأربعة وتحتها وحولها السياسة طبعاً.
من جهته، يقول عالم الاجتماع البريطاني المخضرم البارون أنطوني غيدنز، الذي أدار لسنوات جامعة «لندن سكول أوف إيكونوميكس»، في كتابه «عواقب الحداثة»، إن العولمة هي «تكثيف العلاقات الاجتماعية في كل أنحاء العالم بحيث تترابط المناطق المتباعدة بطريقة تجعل الأحداث المحلية تتشكّل وفقاً لأحداث تقع على مسافات بعيدة».
ويذهب موقع جامعة يال الأميركية المرموقة أبعد من ذلك، فيعرّف العولمة تاريخياً بقوله: «العولمة هي عملية تاريخية بدأت مع أول خروج للناس من أفريقيا إلى أجزاء أخرى من العالم. فبالسفر لمسافات قصيرة أو طويلة، قدم المهاجرون والتجار وغيرهم أفكارهم وعاداتهم ومنتجاتهم إلى بلاد أخرى».
بمعنى آخر، العولمة موجودة منذ وجود التواصل البشري والتبادل التجاري بأشكاله الأولى. وتعززت أكثر مع انتشار طرق التجارة وخضوعها لسيطرة الأقوى. هكذا تكون العولمة هي سيطرة القوي على طرق التجارة، سواء كان هذا القوي الأمبراطورية الرومانية أو الأمبراطورية العثمانية أو الأمبراطورية البريطانية...
بنسختها الأحدث، توسّعت طرق التجارة لتشمل إضافة إلى البر والبحر والجو، الفضاء الإلكتروني، فدخلت الإنترنت على الخط بقوة. ودانت السيطرة طبعاً للقوة الأميركية، التي فرضت نفسها بمقدّراتها الاقتصادية وجبروتها العسكري وعملتها القوية.
وقد تضافرت عوامل السفر الأسهل، وشبكة الإنترنت، ونهاية الحرب الباردة، والشركات المتعددة الجنسية، والاقتصادات الناشئة المتوثّبة، في تعزيز الترابط الاقتصادي الذي نجحت في إطاره الصين في قضم قطعة كبيرة من الحصة الأميركية من «كعكة العولمة».

*الضربة التاجيّة
عاش العالم في ظل هذا الواقع راضياً، وإن على مضض في أحيان كثيرة، قبل أن يأتي ذلك الكائن المجهريّ ويقلب كل المعادلات...
وسرعان ما كان للكارثة الصحية تداعيات اقتصادية ضخمة: ضَمُر الطلب ليلامس الاضمحلال، اضطربت سلاسل التوريد، استفحلت الضائقة في كل مكان، وانكمشت الاقتصادات في طول الكرة الأرضية وعرضها إلى حد غير معروف بعد وإن يكن من المؤكد أنه الأكبر منذ الأزمة العالمية الكبرى في 1920 - 1921.
وإذا كان الانهيار الذي حدث في 2008-2009، قد بقي بعيداً عن دول عدة ذات اقتصادات متينة، منها الصين والهند، واصلت تسجيل نمو قوي وساهمت في انتشال العالم من الركود، فإن الوضع مختلف هذه المرة لأن الانهيار شامل. وما تدحرج أسعار النفط بشكل يثير الذهول سوى دليل على ذلك.
هنا يمكن القول إن مقتل العولمة كان من صلب جوهرها، فالترابط العضوي بين اقتصادات العالم مثلما يبث العافية ينشر المرض أيضاً. وإقفال مصنع في الصين قد يؤدي إلى إقفال آخر في ألمانيا وبالتالي اضطراب بورصة فرانكفورت، وربما لندن...
بعبارة أخرى، في حين ساعدت العولمة على زيادة الدخل العالمي، وتطوير الاقتصادات بسرعة وانتشال الملايين من الفقر، فإنها عرّضت البشر أجمعين لخطر العدوى الاقتصادية والمرَضية في آن واحد.
يقول الأكاديمي الأميركي ريتشارد بورتس، أستاذ الاقتصاد في «لندن بيزنس سكول» التابعة لجامعة لندن، إن الاقتصاد العالمي سيتغيّر حتماً بعد هذه الأزمة، «لأن الشركات والناس أدركوا الآن الأخطار التي كانوا يتحملونها». ويضيف أنه بمجرد أن تعطلت سلاسل الإمداد بسبب وباء كورونا، بدأ الناس البحث عن مورّدين محليين، حتى لو كانت سلعهم أعلى كلفة، «فإذا وجد الناس موردين محليين سوف يلتزمون بهم»، وبالتالي يكون عنصر أساسي من عناصر العولمة قد سقط.
يضاف إلى ذلك، أنه عندما تجد كل دولة فجأة نفسها وحيدة في مواجهة «كوفيد - 19»، حتى وإن كانت تنتمي إلى تكتل «مثالي» كالاتحاد الأوروبي، تعود فكرة الدولة القومية ذات الحدود الصلبة إلى الواجهة بقوة. وتبدو إيطاليا هنا مثالاً ساطعاً من حيث مأساوية ما حلّ بها.

*نحو عولمة جديدة؟
أثبتت هذه الجائحة المدمّرة، إذاً، أن العولمة الاقتصادية وحدها لا تقي العالم شرور الكوارث غير المتوقعة، ولا تبعد شبح المجاعة والاضطرابات الاقتصادية التي قد تستتبع أخرى سياسية وصدامات أهلية أو حروباً بين دول.
والثابت أيضاً أن العولمة لن تزول إنما يجب أن يتغير – وسوف يتغير – شكلها. إذ على الدول أن تأخذ العبرة مما حصل وتولي إنسانها الأهمية الأولى في كل السياسات، بدل أن يكون همها رأس المال وحده. فالنمو بلا تنمية لا قيمة له لأن هبّة ريح عاتية تطيحه بلمح البصر.
بالتالي، ضروري أن يحيد النقاش عن الحروب التجارية، والتهافت على السيطرة خارج الحدود، واتساع النزعات المتطرفة، وإطلاق سباقات تسلّح جديدة... ويعود الإنسان في المقابل إلى دائرة الاهتمام الحقيقي. الإنسان في صحته، وسلامته، ورفاهه، وتعليمه، وحريته...
وبدل أن يكون الاقتصاد قائماً على إنفاق المال من جهة وجمعه من جهة أخرى، في ما يسميه الخبراء «تبادل القيمة»، فليكن قائماً على تبادل المساعدة سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول. فبدل أن تتقاذف الصين والولايات المتحدة المسؤولية عن إطلاق هذا الفيروس أو ذاك، فلتتبادل الدول المعلومات الصحية والطبية، ولتتعاون كلها مع المنظمات الدولية المعنية، لوقف مرض هنا، وتجنّب مجاعة هناك، ودرء إفلاس هنالك.
قال ألبرت آينشتاين: «في خضمّ كل أزمة تكمن فرصة عظيمة»... فلتكن فرصة الإنسان هذه المرة.


مقالات ذات صلة

الجدعان من واشنطن: التوترات التجارية تزيد حالة عدم اليقين

الاقتصاد الجدعان وغورغييفا في مؤتمرهما الصحافي المشترك في ختام اجتماع اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية (أ.ف.ب)

الجدعان من واشنطن: التوترات التجارية تزيد حالة عدم اليقين

قال رئيس اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية التابعة لصندوق النقد الدولي وزير المالية السعودي محمد الجدعان إن التوترات التجارية تزيد حالة عدم اليقين عالمياً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد شاشة تعرض الرقم الختامي لمؤشر «داو جونز» الصناعي في بورصة نيويورك (أ.ب)

صناديق الأسهم العالمية تشهد تدفقات إيجابية للأسبوع الثاني

استقطبت صناديق الأسهم العالمية تدفقات مالية للأسبوع الثاني على التوالي حتى 23 أبريل (نيسان)، مدعومةً بمؤشرات على احتمال تهدئة حرب الرسوم الجمركية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد يواكيم ناغل يتحدث إلى وسائل الإعلام خلال المؤتمر الصحافي السنوي لـ«المركزي الألماني» في فرانكفورت (أرشيفية - رويترز)

ناغل: استقلالية البنوك المركزية أساسية... ورسوم ترمب تثير الغموض

شدّد يواكيم ناغل، عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، يوم الأربعاء، على أهمية استقلالية البنوك المركزية.

«الشرق الأوسط» (برلين )
الاقتصاد الجدعان خلال الاجتماع في غرفة التجارة الأميركية وإلى جانبه الأميرة ريما بنت بندر (منصة إكس)

الجدعان يناقش مع وزير الخزانة الأميركي دعم جهود صندوق النقد والبنك الدوليين

بحث وزير المالية السعودي محمد الجدعان، في واشنطن، مع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، عدداً من الموضوعات المرتبطة بتعزيز التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد أوراق لفئة نقدية من الجنيه الإسترليني (رويترز)

الجنيه الإسترليني يقفز لأعلى مستوى في 7 أشهر

سجل الجنيه الإسترليني أعلى مستوى في 7 أشهر أمام الدولار، الثلاثاء، مدعوماً بتراجع العملة الأميركية وسط مخاوف متصاعدة بشأن استقلالية «بنك الاحتياطي الفيدرالي».

«الشرق الأوسط» (لندن)

ترمب يمارس ضغوطاً على زيلينسكي لتوقيع اتفاقية المعادن

معادن أوكرانيا.. ماذا نعرف عنها ولماذا يريدها ترمب؟
0 seconds of 3 minutes, 44 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
03:44
03:44
 
TT
20

ترمب يمارس ضغوطاً على زيلينسكي لتوقيع اتفاقية المعادن

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلتقي نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض يوم 28 فبراير 2025 (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلتقي نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض يوم 28 فبراير 2025 (أ.ب)

يمارس الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضغوطاً متزايدة على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتوقيع اتفاق بشأن المواد الخام.

وكتب ترمب على منصته الاجتماعية «تروث سوشيال» وهو في طريقه لحضور جنازة البابا فرنسيس في روما: «لم توقع أوكرانيا، برئاسة فولوديمير زيلينسكي، على الوثائق النهائية بشأن الاتفاق المهم جداً بخصوص المعادن النادرة مع الولايات المتحدة».

وأضاف: «إنه متأخر عن موعده بثلاثة أسابيع على الأقل».

وقد وقع الجانبان مذكرة تفاهم بشأن هذا الاتفاق الأسبوع الماضي. وجاء في المذكرة أنه من المقرر الانتهاء من صياغة نص الاتفاق النهائي بحلول غد السبت.

وليس من المؤكد ما إذا كان سيتم التوقيع غداً، ومن غير المعروف ما هو وضع الاتفاق في الوقت الحالي، وفق ما ذكرته «وكالة الأنباء الألمانية».

ويهدف اتفاق المواد الخام إلى منح الولايات المتحدة حرية الوصول إلى الموارد المعدنية في أوكرانيا، وبالأخص المعادن النادرة، التي تعد بالغة الأهمية لصناعات التكنولوجيا المتقدمة.

وبالنسبة لأوكرانيا، يمثل هذا الاتفاق محاولة لضمان استمرار الولايات المتحدة كحليف يوفر لها الحماية على المدى الطويل، وهو ما لم توافق عليه إدارة ترمب.