فيروس «كورونا»... ماذا عليك توقعه إذا سافرت جواً؟

عمليات التنظيف والتعقيم في مطار جون إف كينيدي في نيويورك تضاعفت كثيراً (أ.ب)
عمليات التنظيف والتعقيم في مطار جون إف كينيدي في نيويورك تضاعفت كثيراً (أ.ب)
TT

فيروس «كورونا»... ماذا عليك توقعه إذا سافرت جواً؟

عمليات التنظيف والتعقيم في مطار جون إف كينيدي في نيويورك تضاعفت كثيراً (أ.ب)
عمليات التنظيف والتعقيم في مطار جون إف كينيدي في نيويورك تضاعفت كثيراً (أ.ب)

أصبحت القيود على السفر أكثر صرامة وأوسع نطاقاً على مدار الأيام القليلة الماضية. واليوم، وضعت مراكز مكافحة الأمراض واتقائها حوالي 30 دولة في «مستوى التحذير 3» وتستلزم من أي شخص عائد من أي من هذه البلدان المكوث داخل المنزل لمدة 14 يوماً. كما أغلق الرئيس دونالد ترمب معظم خطوط النقل الجوي من أوروبا إلى الولايات المتحدة بدءا من 13 مارس (آذار).
ومع هذا، فما يزال كثير من الأفراد بحاجة للانتقال دولياً ومحلياً، سواء أكانوا عائدين إلى ديارهم بعد أن أغلقت الجامعات أبوابها، أو عائدين من إجازات أو مسافرين في رحلات طارئة. ومن المحتمل أن يدخل هؤلاء المسافرون في اتصال مع كثير من الأشياء التي يلمسها الكثيرون، مثل الأكشاك الإلكترونية للفحص ودرابزين السلالم المتحركة والطاولات؛ لذلك، بدأت مطارات وشركات طيران في إجراء تغييرات ترمي إلى تقليص انتشار العدوى بين المسافرين.
وتعمل المطارات والشركات بالتنسيق مع مراكز مكافحة الأمراض واتقائها ومنظمة الصحة العالمية والمسؤولين المحليين المعنيين بالصحة العامة من أجل التوصل إلى أفضل السياسات والإجراءات بهذا المجال، مع إدخال تعديلات حال ظهور معلومات جديدة. وفيما يلي الأشياء التي من المحتمل أن يراها ويعايشها الركاب داخل المطارات وعلى متن الطائرات:
- تكثيف جهود التنظيف
من الممكن أن تصبح الأسطح مرتعاً للفيروسات؛ لذلك تبذل فرق خدمات النظافة بالمطارات عبر أرجاء البلاد جهوداً مضاعفة في التنظيف باستمرار مع توجيه اهتمام خاص بتطهير أكثر المناطق التي لمسها الأفراد مثل الدرابزين وأزرار المصاعد ومقابض الأبواب ومناطق تناول الطعام. على سبيل المثال، أعلن مسؤولو مطار سياتل - تاكوما الدولي أن الحافلات التي تقل المسافرين من وإلى الطائرات، والحافلات التي تقل الموظفين ومنشآت تأجير السيارات، سيجري تنظيفها يومياً مرات عدة.
كما أعلن مطار سان فرانسيسكو الدولي أنه تولى تخزين مطهرات تكفي لمدة ثلاثة أشهر وبدأ في استخدام بخاخات تعمل بالبطارية، علاوة على معدات التنظيف القائمة بالفعل. كما تولى نشر 850 ملصقاً من إنتاج قسم الصحة العامة بولاية سان فرانسيسكو، توضح خطوات الحماية ضد الإنفلونزا الموسمية والبرد، بما في ذلك فيروس كورونا المستجد. وداخل مطار سانت بيت - كليرووتر في فلوريدا، تقف هذه اللوحات باللغتين الإنجليزية والإسبانية. ويعمل بعض أفراد أطقم النظافة على تطهير مناطق العمل مثل البوابات ومناطق فحص المسافرين قبل وبعد إتمام المهام.
- معقمات الأيدي في كل مكان
من المحتمل أن يعاين المسافرون هذه الأيام وجود معقمات للأيدي بأماكن حجز التذاكر وعند بوابات الصعود إلى الطائرة ومكاتب خدمة العملاء ومكاتب خدمة الأمتعة وأماكن الانتظار.
وأعلن مطار سياتل تاكوما تركيب 119 جهاز تعقيم للأيدي داخل وحول المطار، بما في ذلك المساحات المخصصة لانتظار السيارات ومحطات السيارات والحافلات المستأجرة والجسور الرابطة بين المطار وساحة انتظار السيارات. أيضاً، تولت شركات الطيران تركيب أجهزة تعقيم أيدي بأماكن مثل مناطق فحص الركاب والبوابات، بجانب الأجهزة الأخرى التي تولت سلطات المطار تركيبها. وذكرت شركة «دلتا إير لاينز» أنها ستشرع في زياد أعداد هذه الأجهزة داخل المناطق الخاصة بها من المطارات، بما في ذلك مطار هارتسفيلد - جاكسون في أتلانتا وديترويت إنترناشيونال ولوس أنجليس إنترناشيونال وجون إف. كينيدي إنترناشيونال في نيويورك؛ نظراً لأنها تخدم العدد الأكبر من الركاب.
- تغييرات في تسجيل إجراءات الوصول
يعني استخدام أكشاك الخدمة الذاتية أنك ستلمس الشاشات مرات عدة؛ لذا، عليك أن تتوقع تلقي رسائل تذكير من شركة الطيران الخاصة بك بأن باستطاعتك تنفيذ هذه العملية عبر الهاتف. وبدلاً من تسليم هاتفك وأوراقك الثبوتية إلى عميل عند نقطة تسليم الأمتعة، ربما يطلب منك إظهارها فقط.
وسيجري تنظيف أكشاك تسجيل إجراءات الوصول ذاتية الخدمة عدة مرات يومياً، ومع ذلك ربما تحتاج إلى حمل معقم اليدين والمناديل المبللة الخاصة بك خلال رحلتك.
- إلغاء مسح البصمات في صالات الانتظار
تشهد صالات الانتظار بالمطارات، أو تلك المناطق التي تخصصها شركات الطيران للمسافرين بالدرجة الأولى أو عملائها المهمين وحاملي بطاقات اعتماد شركات الطيران، توقف أعداد كبيرة من المسافرين بها لتناول مشروب مجاني أو وجبة خفيفة، وقد بدأ بعضها الاعتماد على أجهزة مسح بصمات الأصابع للتأكد من هوية الأعضاء. ومع هذا، جمدت شركتا «ألاسكا» و«دلتا» استخدام أجهزة مسح بصمات الأصابع عند الدخول وتكتفي حالياً بأن تطلب من المسافرين إظهار تراخيص المرور الخاصة بهم والأوراق الثبوتية أمام طاقم الضيافة، بدلاً من تسليمها. ومن المنتظر خلال الفترة المقبلة أن يزداد معدل تنظيف هذه الأماكن وتغيير أدوات الطعام، ولن يسمح بإعادة ملء القدح الذي تشرب فيه، وإنما سيجري إعطاؤك قدحاً جديداً بدلاً من ذلك.
- لن يجري تخفيف الإجراءات الأمنية
من جانبها، لم تقر وكالة أمن النقل أي تعديلات على إجراءات الفحص الخاصة بها. أما التغيير الأكبر الذي طرأ على هذا الصعيد فهو أنه أصبح ينبغي للراكب وضع محفظته ومفاتيحه وهاتفه والأشياء الأخرى الموجودة بجيبه داخل حقيبته المحمولة، وليس داخل الأوعية البلاستيكية التي تمر عبر جهاز المسح مباشرة.
وتستلزم إجراءات التشغيل الخاصة بوكالة أمن النقل من الأفراد ارتداء قفازات لدى إجراءات مهام مسح مع الركاب. أما الركاب الذين يقرر مسؤولو أمن النقل تفتيش حقائبهم فيحق لهم أن يطلبوا من المسؤول تغيير قفازات يده قبل الشروع في عملية التفتيش. فيما يخص الركاب الذين يستخدمون محطات الإجازة الأمنية، والتي تمكنهم من الوقوف في مقدمة صفوف وكالة أمن النقل، فإن باستطاعتهم الاختيار بين إما أن يضعوا أصبعين على جهاز مسح زجاجي للأصابع أو النظر إلى قزحية العين. في ضوء تفشي فيروس «كورونا»، تحول الموظفون إلى استخدام مسح القزحية. فيما يخص الركاب الذين ما يزالون يفضلون مسح بصمات الأصابع، سيوفر الموظفون معقمات للأيدي ومطهر بعد كل استخدام.
- المضيفات بقفازات، وإلغاء وضع مناشف دافئة بالدرجة الأولى
طلب اتحاد مضيفي الطائرات، الذي يمثل حوالي 50000 مضيف بـ20 شركة طيران، من الحكومة وشركات الطيران تنفيذ قائمة من التغييرات لتعزيز معايير الصحة والسلامة للمعاونة في وقف انتشار «كوفيد - 19». وبدأت بعض الشركات الطيران في إقرار هذه التغييرات بالفعل.
وعليه، فإنه في بعض شركات الطيران، ومنها «يونايتد»، ربما يرتدي المضيفون قفازات داخل قمرة القيادة. كما لم يعد مسموحا لهم بإعادة ملء أقداح الشراب، وإنما يتعين عليهم تقديم أقداح جديدة. وتحث شركة «ألاسكا إيرلاينز» الركاب على ملء زجاجات مياه قبل الصعود إلى الطائرة، بحيث لا يحتاجون إلى أكواب. كما أنهت «ألاسكا» خدمة المناشف الدافئة التي كانت توفرها في الدرجة الأولى، وسيجري تجميد عملية إعادة التدوير كي لا يضطر طاقم الضيافة إلى لمس أشياء لمسها الركاب. وتشجع الشركة الركاب على مسح طاولات الطعام وأذرع المقاعد بمناديل مبللة مطهرة خاصة بهم. كما ذكرت العديد من الشركات أنه سيجري تعزيز أعمال النظافة على متن الطائرات. بدأت شركة «دلتا إير لاينز» تطهير الأجزاء الداخلية من بعض طائراتها التي تأتي من بلاد أخرى بمطهرات. وأعلنت «يونايتد» عزمها على اتخاذ خطوة مماثلة. وقالت «دلتا» إنها تولي أولوية في أعمال التطهير للطائرات القادمة من أكثر الدول تضرراً من الفيروس المستجد وتعمل على شراء مزيد من أجهزة التطهير لتغطية أعداد أكبر من الطائرات. وتتخذ بعض شركات الطيران إجراءات احترازية إضافية. مثلاً، تفرض شركة الخطوط الجوية السنغافورية على أطقم الطائرات حالياً ارتداء أقنعة طبية على الوجه.
- الإبقاء على مسافات صحية آمنة بين القادمين من خارج الولايات المتحدة
يوجد لدى مراكز مكافحة الأمراض واتقائها مكاتب ومحطات حجر صحي في 20 مطارا أميركيا. وفي 12 مارس، أعلنت المراكز أن الأشخاص الذين كانوا في دول تنتمي لتصنيف «المستوى الثالث» - الصين وإيران وكوريا الجنوبية وغالبية أوروبا - خلال الأسبوعين السابقين، لكن لا تظهر عليهم أعراض، سيتعين عليهم البقاء في منازلهم مدة 14 يوماً بعد العودة من السفر ومراقبة أوضاعهم الصحية والحرص على الإبقاء على مسافات آمنة بينهم وبين الآخرين.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

إصابة 7 ركاب... هبوط اضطراري لطائرة أميركية بسبب «اضطرابات شديدة»

الولايات المتحدة​ طائرة تابعة لشركة «يونايتد إيرلاينز» الأميركية (رويترز)

إصابة 7 ركاب... هبوط اضطراري لطائرة أميركية بسبب «اضطرابات شديدة»

أُصيب 7 أشخاص عندما اضطرت طائرة تابعة لشركة «يونايتد إيرلاينز» الأميركية في طريقها إلى شيكاغو إلى تحويل مسارها إلى ممفيس؛ بسبب «اضطرابات شديدة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق طائرات تابعة لطيران «كانتاس» (رويترز)

بسبب خلل تقني... مسافرون يحصلون على خصم 85% لتذاكر طيران من الدرجة الأولى

تسبب خلل تقني حدث لفترة قصيرة يوم الخميس الماضي في حصول المسافرين على خصم هائل بلغت نسبته 85 في المائة لتذاكر الطيران من الدرجة الأولى من أستراليا إلى أميركا.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق طائرة من طراز «بوينغ 737» في سياتل (أرشيفية - أ.ب)

انفجار إطار طائرة «بوينغ» يقتل شخصين في مطار أميركي

لقي موظف بشركة «دلتا إيرلاينز»، ومتعاقد في منطقة الصيانة بمطار هارتسفيلد جاكسون أتلانتا الدولي مصرعهما، الثلاثاء، جراء انفجار إطار طائرة «بوينغ 757».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق طائرة تابعة لـ«خطوط جنوب الصين الجوية» (رويترز)

وُلدت في الجو... ممرضة تنقذ حياة طفلة خديجة خلال رحلة إلى بكين

حازت ممرضة في الصين إعجاباً وثناءً واسعين بسبب سرعة بديهتها التي أنقذت حياة طفلة خديجة وُلدت في الجو داخل مرحاض طائرة.

«الشرق الأوسط» (بكين)
أوروبا طائرة تابعة لشركة الطيران الأوروبية «لوفتهانزا» 15 سبتمبر 2022 (د.ب.أ)

«لوفتهانزا» تمدّد تعليق رحلاتها إلى تل أبيب وطهران وبيروت واستئناف عمَّان وأربيل

أعلنت «لوفتهانزا» أنها ستمدّد تعليق رحلاتها إلى بيروت حتى 30 سبتمبر (أيلول)، وإلى تل أبيب وطهران حتى الثاني من سبتمبر، في مواجهة مخاطر تفاقم الصراع في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (برلين)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)