40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

تنسيق بين الإدارة الكردية شرق سوريا وبغداد لإعادتهم (2 من 3)

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
TT

40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

يؤوي مخيم الهول، الواقع أقصى شمال شرقي سوريا، عشرات آلاف النازحين ومنهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال العراقيين. منهم من جاء برغبته، وعددهم قليل، بعد فراره من موطنه إثر سيطرة تنظيم داعش المتطرف، أو هجمات معاكسة من ميليشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران. ومنهم أيضاً أفراد عائلات مسلحي داعش، ويشكلون الغالبية، الذين خرجوا من مناطق التنظيم بعد القضاء على سيطرته الجغرافية ربيع العام الماضي.
ويضم مخيم الهول اليوم أكثر من 40 ألفاً من العراقيين، وهم نحو 9 آلاف عائلة، من أصل 68 ألفاً، ويؤوي نساءً وأطفالاً تخلى عنهم آباؤهم من عناصر التنظيم، إما بالذهاب إلى جبهات القتال حيث لقوا مصرعهم، وإما لأنهم استمروا بالقتال، واستسلموا في معركة الباغوز بريف دير الزور، لدى القضاء على آخر معقل للتنظيم في مارس (آذار) العام الماضي. ومن بقي على قيد الحياة من الرجال ظل محتجزاً خلف القضبان، وبات مصيرهم مجهولاً. كما تخلت حكومة بغداد عنهم، وهي ترفض استعادتهم، رغم مطالبات السلطات الكردية والولايات المتحدة بذلك.
- عائلة عراقية
تروي شيمة، وهي في منتصف عقدها الخامس، المنحدرة من مدينة الموصل العراقية، كيف فروا في أثناء المعارك في مسقط رأسها صيف 2015، وكيف قتل زوجها وابنها الأكبر، وكانا مقاتلين في صفوف تنظيم داعش، إذ نزحت هي ومن تبقى من عائلتها إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا. وبعد اشتداد المعارك هناك، دخلت الأراضي السورية، وقصدت قرية أبو حمام، بريف دير الزور الشمالي، بداية، ثم هجين والسوسة والشعفة، وآخر مكان كانوا فيه بلدة الباغوز.
ومن تحت خيمتها التي لا تقيها برودة الطقس وسخونة فصل الصيف التي تتعدى درجات الحرارة فيه 45 درجة مئوية، بدأت رواية قصتها، وكانت يداها متشابكتين، لتقول: «خرجت أنا وبناتي الثلاث، وبقي عندي ولدان، أحدهما عمره 10 سنوات، والأصغر عمره 5 سنوات، يسكنون معي في هذه الخيمة».
وحولت خيمتها إلى شبه منزل، بأثاث بسيط، حيث خصصت قسماً للمطبخ، ووضعت بعض الأواني والملاعق وكاسات الشاي، وقسماً آخر لحمام معزول بغطاء رمادي داكن، فيما افترشت مدخله، وبات صالون بيتها، ببساط عربي قديم، وزاوية صغيرة لوضع الحاجات الشخصية، وخزانة رسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وطلبت ابنتها البكر الحديث لتعرف عن نفسها، قائلة: «أنا هيفاء، عمري 30 سنة، متزوجة من مقاتل لا يزال بصفوف التنظيم، ولا أعلم عنه شيئاً، وربما يكون قد قتل، وقد رزقت منه بطفلة ولدت بالباغوز، وعمرها اليوم عام وشهران»، لتتحمس أختها الثالثة وتتحدث قائلة: «أنا وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة من مقاتل مغربي قتل بمعركة هجين قبل عامين. عندما تزوجت، كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 17، وقد أنجبت منه طفلة عمرها سنة». وسكتت برهة واغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى ابنتها الوحيدة، وأعربت عن مشاعرها المشوشة، لتزيد: «لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر: من كان والدها؟ وكيف قتل؟ وهل سأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
في هذه البقعة الصحراوية من سوريا، التي تبعد نحو 30 كلم عن حدود العراق، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية. فالمخيم الذي صمم في تسعينات القرن الماضي لاستقبال 20 ألف شخص، تجاوز عدد قاطنيه 70 ألفاً بعد معركة الباغوز العام الفائت.
- غضب وأسئلة
وقد تحول هذا المكان منذ عام إلى إناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية. فالمخيم يقطن فيه نسوة وأطفال تنظيم داعش الإرهابي، الذين تخلى عنهم أزواجهم وآباؤهم، وخلافتهم المزعومة التي التحقوا بها، علاوة على حكوماتهم. ووسط السوق، تجمع كثير من النسوة العراقيات، وصرخن بصوت مرتفع: «أين هم أزواجنا؟ لماذا لا يفرجون عنهم؟ لماذا لا تسمح حكومة بغداد بإعادتنا؟». أسئلة تكررت كثيراً دون وجود أجوبة شافية.
ويستقبل مخيم الهول العراقيين منذ سنة 2016. وبحسب عدنان العبيدي، رئيس مجلس مخيم الهول للاجئين العراقيين: «عاد إلى العراق أكثر من 50 ألفاً طواعية حتى نهاية 2018. لكن منذ عام ونصف العام، ترفض السلطات الحكومية في بغداد استقبال مواطنيها الراغبين بالعودة».
وذكرت إدارة المخيم أن أكثر من 20 ألفاً من العراقيين يريدون العودة إلى بلدهم، شريطة نقلهم تحت إشراف ومراقبة منظمات الأمم المتحدة، والجهات الدولية الإنسانية، خشية من عمليات انتقامية من الحشد الشعبي الذي بات يسيطر على مناطق كثيرة بالعراق.
وأخبر العبيدي أن القوائم المسجلة لدى المكتب وصلت نسخة منها إلى حكومة بغداد، وقال: «الأسماء رفعت عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والصليب الأحمر الدولي. وفي كل مرة، يصلنا إخطار بالموافقة وبدء الترحيل، لكن يتم إيقافه لأسباب نجهلها».
وعلى مد النظر، تمتد صفوف متراصة من الخيام، رسم عليها شعار المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، وسط هبوب رياح جافة مغبرة، وتلبد الغيوم، وأكوام من النفايات، وخزانات ضخمة حمراء اللون، يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه. فاللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت هذه الصهاريج، إلى جانب بناء المطابخ في كل قسم، مع دورات المياه والحمامات.
وحولت عائشة، ذات الثلاثين عاماً، خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية سكان المخيم، لا سيما النساء والفتيات منهنّ، فروا بملابسهم التي عليهم. وتنحدر هذه السيدة من مدينة القائم العراقية، وقد فرت إلى سوريا رفقة زوجها الذي كان بصفوف التنظيم، وقتل في معارك دير الزور قبل عام، وقالت: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة. كنا نحلم أيام (الدواعش) بلبسها، لأنهم كان يجبروننا على ارتداء السواد، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات للتقيد بما سموه بـاللباس» المسموح به.
وعلى كل حبل أو سور خيمة، تشاهد مزيجاً من الألوان الزاهية، غير الأسود الذي كانت ترتديه جميع النساء والفتيات اللواتي يعشن في هذه البقعة: الوردي، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، وهي ألوان الملابس المغسولة من فساتين وبيجامات وقمصان وجوارب أطفال.
بيد أنّ خديجة (28 عاماً)، المنحدرة من بلدة الحديثة العراقية، وصلت للمخيم قبل سنتين. ورغم وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي مقر للتنظيم، أشاهد عناصره يومياً، وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين». أما اليوم، فهي تنتظر العودة لبلدها، وتضيف: «نجوت من التنظيم، برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت هذه الخيمة على العيش تحت حكم (الدواعش)، أو العودة لبلد تحكمه ميليشيات طائفية وحشد شيعي».
وتحدثت مديرة المخيم، ماجدة أمين، لـ«الشرق الأوسط»، من مكتبها بالمخيم، عن وجود تنسيق دبلوماسي عالي المستوى بين «الإدارة الذاتية - شمال شرقي» سوريا، والحكومة العراقية، حيث زارت وفود رسمية المنطقة، واطلعت على شؤون اللاجئين، وتعهدت بدرس وضع اللاجئين العراقيين في المخيمات السورية، وإعادتهم بإشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقالت: «منذ بداية العام الماضي، توقفت رحلات إعادة العراقيين الراغبين بالعودة إلى بلدهم لأسباب تتعلق بالجانب العراقي. سلمنا قوائم الراغبين، ومنذ أشهر ننتظر الموافقة، دون نتيجة».
ووصفت مديرة المخيم الوضع بأنه «شديد الصعوبة وكارثي» في مخيم الهول، لوجود عشرات الآلاف من الأشخاص في حاجة حقيقية إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع، وشهدوا حروباً ومشاهد موت يعجز عنها الوصف، ومعاناة بدنية ونفسية، وتشير إلى أن هؤلاء العراقيين يحتاجون إلى «الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، إذ يفتقر المخيم لمراكز ومؤسسات تعليمية وترفيهية. وبإمكانات بسيطة، قمنا بافتتاح حديقة، كمتنفس لهذه الأسر والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة». وينتظر عزو عناد، البالغ من العمر ستين عاماً، وزوجته وأفراد أسرته، استقرار مناطقه، وسماح الحكومة العراقية. وهذه الأسرة تنحدر من منطقة جبال سنجار (شمال العراق)، التي تحكمها جهات عسكرية عدة، من بينها الحكومة المركزية في بغداد، وقال: «نعيش هنا منذ صيف 2017، ولا نريد العودة قبل بسط الأمن والأمان».
وفي سوق المخيم بسطات شعبية ومحال يتوفر فيها كل ما يطلبه الزبون، من مواد غذائية ومستحضرات، إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها معظم المدن العراقية. وأصحاب المحال عراقيون أو سوريون، ويتعالى ضجيج الأطفال والنساء اللواتي يتحدثن بلهجات متعددة.
وكحال الأخريات من العرقيات، قالت جواهر (45 سنة) إن صبرها قد نفد، وأصبحت حالة الانتظار كابوساً تعيشه مرغمة، وارتسمت علامات الحيرة على وجهها، وتساءلت قائلة: «إلى متى نبقى هنا؟ هل يشاهد العالم مأساتنا؟ هل تعلم الحكومة العراقية كيف نعيش في هذا المكان؟ متى سنعود؟».


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.