40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

تنسيق بين الإدارة الكردية شرق سوريا وبغداد لإعادتهم (2 من 3)

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
TT

40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

يؤوي مخيم الهول، الواقع أقصى شمال شرقي سوريا، عشرات آلاف النازحين ومنهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال العراقيين. منهم من جاء برغبته، وعددهم قليل، بعد فراره من موطنه إثر سيطرة تنظيم داعش المتطرف، أو هجمات معاكسة من ميليشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران. ومنهم أيضاً أفراد عائلات مسلحي داعش، ويشكلون الغالبية، الذين خرجوا من مناطق التنظيم بعد القضاء على سيطرته الجغرافية ربيع العام الماضي.
ويضم مخيم الهول اليوم أكثر من 40 ألفاً من العراقيين، وهم نحو 9 آلاف عائلة، من أصل 68 ألفاً، ويؤوي نساءً وأطفالاً تخلى عنهم آباؤهم من عناصر التنظيم، إما بالذهاب إلى جبهات القتال حيث لقوا مصرعهم، وإما لأنهم استمروا بالقتال، واستسلموا في معركة الباغوز بريف دير الزور، لدى القضاء على آخر معقل للتنظيم في مارس (آذار) العام الماضي. ومن بقي على قيد الحياة من الرجال ظل محتجزاً خلف القضبان، وبات مصيرهم مجهولاً. كما تخلت حكومة بغداد عنهم، وهي ترفض استعادتهم، رغم مطالبات السلطات الكردية والولايات المتحدة بذلك.
- عائلة عراقية
تروي شيمة، وهي في منتصف عقدها الخامس، المنحدرة من مدينة الموصل العراقية، كيف فروا في أثناء المعارك في مسقط رأسها صيف 2015، وكيف قتل زوجها وابنها الأكبر، وكانا مقاتلين في صفوف تنظيم داعش، إذ نزحت هي ومن تبقى من عائلتها إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا. وبعد اشتداد المعارك هناك، دخلت الأراضي السورية، وقصدت قرية أبو حمام، بريف دير الزور الشمالي، بداية، ثم هجين والسوسة والشعفة، وآخر مكان كانوا فيه بلدة الباغوز.
ومن تحت خيمتها التي لا تقيها برودة الطقس وسخونة فصل الصيف التي تتعدى درجات الحرارة فيه 45 درجة مئوية، بدأت رواية قصتها، وكانت يداها متشابكتين، لتقول: «خرجت أنا وبناتي الثلاث، وبقي عندي ولدان، أحدهما عمره 10 سنوات، والأصغر عمره 5 سنوات، يسكنون معي في هذه الخيمة».
وحولت خيمتها إلى شبه منزل، بأثاث بسيط، حيث خصصت قسماً للمطبخ، ووضعت بعض الأواني والملاعق وكاسات الشاي، وقسماً آخر لحمام معزول بغطاء رمادي داكن، فيما افترشت مدخله، وبات صالون بيتها، ببساط عربي قديم، وزاوية صغيرة لوضع الحاجات الشخصية، وخزانة رسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وطلبت ابنتها البكر الحديث لتعرف عن نفسها، قائلة: «أنا هيفاء، عمري 30 سنة، متزوجة من مقاتل لا يزال بصفوف التنظيم، ولا أعلم عنه شيئاً، وربما يكون قد قتل، وقد رزقت منه بطفلة ولدت بالباغوز، وعمرها اليوم عام وشهران»، لتتحمس أختها الثالثة وتتحدث قائلة: «أنا وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة من مقاتل مغربي قتل بمعركة هجين قبل عامين. عندما تزوجت، كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 17، وقد أنجبت منه طفلة عمرها سنة». وسكتت برهة واغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى ابنتها الوحيدة، وأعربت عن مشاعرها المشوشة، لتزيد: «لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر: من كان والدها؟ وكيف قتل؟ وهل سأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
في هذه البقعة الصحراوية من سوريا، التي تبعد نحو 30 كلم عن حدود العراق، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية. فالمخيم الذي صمم في تسعينات القرن الماضي لاستقبال 20 ألف شخص، تجاوز عدد قاطنيه 70 ألفاً بعد معركة الباغوز العام الفائت.
- غضب وأسئلة
وقد تحول هذا المكان منذ عام إلى إناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية. فالمخيم يقطن فيه نسوة وأطفال تنظيم داعش الإرهابي، الذين تخلى عنهم أزواجهم وآباؤهم، وخلافتهم المزعومة التي التحقوا بها، علاوة على حكوماتهم. ووسط السوق، تجمع كثير من النسوة العراقيات، وصرخن بصوت مرتفع: «أين هم أزواجنا؟ لماذا لا يفرجون عنهم؟ لماذا لا تسمح حكومة بغداد بإعادتنا؟». أسئلة تكررت كثيراً دون وجود أجوبة شافية.
ويستقبل مخيم الهول العراقيين منذ سنة 2016. وبحسب عدنان العبيدي، رئيس مجلس مخيم الهول للاجئين العراقيين: «عاد إلى العراق أكثر من 50 ألفاً طواعية حتى نهاية 2018. لكن منذ عام ونصف العام، ترفض السلطات الحكومية في بغداد استقبال مواطنيها الراغبين بالعودة».
وذكرت إدارة المخيم أن أكثر من 20 ألفاً من العراقيين يريدون العودة إلى بلدهم، شريطة نقلهم تحت إشراف ومراقبة منظمات الأمم المتحدة، والجهات الدولية الإنسانية، خشية من عمليات انتقامية من الحشد الشعبي الذي بات يسيطر على مناطق كثيرة بالعراق.
وأخبر العبيدي أن القوائم المسجلة لدى المكتب وصلت نسخة منها إلى حكومة بغداد، وقال: «الأسماء رفعت عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والصليب الأحمر الدولي. وفي كل مرة، يصلنا إخطار بالموافقة وبدء الترحيل، لكن يتم إيقافه لأسباب نجهلها».
وعلى مد النظر، تمتد صفوف متراصة من الخيام، رسم عليها شعار المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، وسط هبوب رياح جافة مغبرة، وتلبد الغيوم، وأكوام من النفايات، وخزانات ضخمة حمراء اللون، يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه. فاللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت هذه الصهاريج، إلى جانب بناء المطابخ في كل قسم، مع دورات المياه والحمامات.
وحولت عائشة، ذات الثلاثين عاماً، خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية سكان المخيم، لا سيما النساء والفتيات منهنّ، فروا بملابسهم التي عليهم. وتنحدر هذه السيدة من مدينة القائم العراقية، وقد فرت إلى سوريا رفقة زوجها الذي كان بصفوف التنظيم، وقتل في معارك دير الزور قبل عام، وقالت: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة. كنا نحلم أيام (الدواعش) بلبسها، لأنهم كان يجبروننا على ارتداء السواد، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات للتقيد بما سموه بـاللباس» المسموح به.
وعلى كل حبل أو سور خيمة، تشاهد مزيجاً من الألوان الزاهية، غير الأسود الذي كانت ترتديه جميع النساء والفتيات اللواتي يعشن في هذه البقعة: الوردي، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، وهي ألوان الملابس المغسولة من فساتين وبيجامات وقمصان وجوارب أطفال.
بيد أنّ خديجة (28 عاماً)، المنحدرة من بلدة الحديثة العراقية، وصلت للمخيم قبل سنتين. ورغم وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي مقر للتنظيم، أشاهد عناصره يومياً، وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين». أما اليوم، فهي تنتظر العودة لبلدها، وتضيف: «نجوت من التنظيم، برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت هذه الخيمة على العيش تحت حكم (الدواعش)، أو العودة لبلد تحكمه ميليشيات طائفية وحشد شيعي».
وتحدثت مديرة المخيم، ماجدة أمين، لـ«الشرق الأوسط»، من مكتبها بالمخيم، عن وجود تنسيق دبلوماسي عالي المستوى بين «الإدارة الذاتية - شمال شرقي» سوريا، والحكومة العراقية، حيث زارت وفود رسمية المنطقة، واطلعت على شؤون اللاجئين، وتعهدت بدرس وضع اللاجئين العراقيين في المخيمات السورية، وإعادتهم بإشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقالت: «منذ بداية العام الماضي، توقفت رحلات إعادة العراقيين الراغبين بالعودة إلى بلدهم لأسباب تتعلق بالجانب العراقي. سلمنا قوائم الراغبين، ومنذ أشهر ننتظر الموافقة، دون نتيجة».
ووصفت مديرة المخيم الوضع بأنه «شديد الصعوبة وكارثي» في مخيم الهول، لوجود عشرات الآلاف من الأشخاص في حاجة حقيقية إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع، وشهدوا حروباً ومشاهد موت يعجز عنها الوصف، ومعاناة بدنية ونفسية، وتشير إلى أن هؤلاء العراقيين يحتاجون إلى «الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، إذ يفتقر المخيم لمراكز ومؤسسات تعليمية وترفيهية. وبإمكانات بسيطة، قمنا بافتتاح حديقة، كمتنفس لهذه الأسر والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة». وينتظر عزو عناد، البالغ من العمر ستين عاماً، وزوجته وأفراد أسرته، استقرار مناطقه، وسماح الحكومة العراقية. وهذه الأسرة تنحدر من منطقة جبال سنجار (شمال العراق)، التي تحكمها جهات عسكرية عدة، من بينها الحكومة المركزية في بغداد، وقال: «نعيش هنا منذ صيف 2017، ولا نريد العودة قبل بسط الأمن والأمان».
وفي سوق المخيم بسطات شعبية ومحال يتوفر فيها كل ما يطلبه الزبون، من مواد غذائية ومستحضرات، إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها معظم المدن العراقية. وأصحاب المحال عراقيون أو سوريون، ويتعالى ضجيج الأطفال والنساء اللواتي يتحدثن بلهجات متعددة.
وكحال الأخريات من العرقيات، قالت جواهر (45 سنة) إن صبرها قد نفد، وأصبحت حالة الانتظار كابوساً تعيشه مرغمة، وارتسمت علامات الحيرة على وجهها، وتساءلت قائلة: «إلى متى نبقى هنا؟ هل يشاهد العالم مأساتنا؟ هل تعلم الحكومة العراقية كيف نعيش في هذا المكان؟ متى سنعود؟».


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.