40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

تنسيق بين الإدارة الكردية شرق سوريا وبغداد لإعادتهم (2 من 3)

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
TT

40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

يؤوي مخيم الهول، الواقع أقصى شمال شرقي سوريا، عشرات آلاف النازحين ومنهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال العراقيين. منهم من جاء برغبته، وعددهم قليل، بعد فراره من موطنه إثر سيطرة تنظيم داعش المتطرف، أو هجمات معاكسة من ميليشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران. ومنهم أيضاً أفراد عائلات مسلحي داعش، ويشكلون الغالبية، الذين خرجوا من مناطق التنظيم بعد القضاء على سيطرته الجغرافية ربيع العام الماضي.
ويضم مخيم الهول اليوم أكثر من 40 ألفاً من العراقيين، وهم نحو 9 آلاف عائلة، من أصل 68 ألفاً، ويؤوي نساءً وأطفالاً تخلى عنهم آباؤهم من عناصر التنظيم، إما بالذهاب إلى جبهات القتال حيث لقوا مصرعهم، وإما لأنهم استمروا بالقتال، واستسلموا في معركة الباغوز بريف دير الزور، لدى القضاء على آخر معقل للتنظيم في مارس (آذار) العام الماضي. ومن بقي على قيد الحياة من الرجال ظل محتجزاً خلف القضبان، وبات مصيرهم مجهولاً. كما تخلت حكومة بغداد عنهم، وهي ترفض استعادتهم، رغم مطالبات السلطات الكردية والولايات المتحدة بذلك.
- عائلة عراقية
تروي شيمة، وهي في منتصف عقدها الخامس، المنحدرة من مدينة الموصل العراقية، كيف فروا في أثناء المعارك في مسقط رأسها صيف 2015، وكيف قتل زوجها وابنها الأكبر، وكانا مقاتلين في صفوف تنظيم داعش، إذ نزحت هي ومن تبقى من عائلتها إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا. وبعد اشتداد المعارك هناك، دخلت الأراضي السورية، وقصدت قرية أبو حمام، بريف دير الزور الشمالي، بداية، ثم هجين والسوسة والشعفة، وآخر مكان كانوا فيه بلدة الباغوز.
ومن تحت خيمتها التي لا تقيها برودة الطقس وسخونة فصل الصيف التي تتعدى درجات الحرارة فيه 45 درجة مئوية، بدأت رواية قصتها، وكانت يداها متشابكتين، لتقول: «خرجت أنا وبناتي الثلاث، وبقي عندي ولدان، أحدهما عمره 10 سنوات، والأصغر عمره 5 سنوات، يسكنون معي في هذه الخيمة».
وحولت خيمتها إلى شبه منزل، بأثاث بسيط، حيث خصصت قسماً للمطبخ، ووضعت بعض الأواني والملاعق وكاسات الشاي، وقسماً آخر لحمام معزول بغطاء رمادي داكن، فيما افترشت مدخله، وبات صالون بيتها، ببساط عربي قديم، وزاوية صغيرة لوضع الحاجات الشخصية، وخزانة رسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وطلبت ابنتها البكر الحديث لتعرف عن نفسها، قائلة: «أنا هيفاء، عمري 30 سنة، متزوجة من مقاتل لا يزال بصفوف التنظيم، ولا أعلم عنه شيئاً، وربما يكون قد قتل، وقد رزقت منه بطفلة ولدت بالباغوز، وعمرها اليوم عام وشهران»، لتتحمس أختها الثالثة وتتحدث قائلة: «أنا وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة من مقاتل مغربي قتل بمعركة هجين قبل عامين. عندما تزوجت، كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 17، وقد أنجبت منه طفلة عمرها سنة». وسكتت برهة واغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى ابنتها الوحيدة، وأعربت عن مشاعرها المشوشة، لتزيد: «لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر: من كان والدها؟ وكيف قتل؟ وهل سأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
في هذه البقعة الصحراوية من سوريا، التي تبعد نحو 30 كلم عن حدود العراق، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية. فالمخيم الذي صمم في تسعينات القرن الماضي لاستقبال 20 ألف شخص، تجاوز عدد قاطنيه 70 ألفاً بعد معركة الباغوز العام الفائت.
- غضب وأسئلة
وقد تحول هذا المكان منذ عام إلى إناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية. فالمخيم يقطن فيه نسوة وأطفال تنظيم داعش الإرهابي، الذين تخلى عنهم أزواجهم وآباؤهم، وخلافتهم المزعومة التي التحقوا بها، علاوة على حكوماتهم. ووسط السوق، تجمع كثير من النسوة العراقيات، وصرخن بصوت مرتفع: «أين هم أزواجنا؟ لماذا لا يفرجون عنهم؟ لماذا لا تسمح حكومة بغداد بإعادتنا؟». أسئلة تكررت كثيراً دون وجود أجوبة شافية.
ويستقبل مخيم الهول العراقيين منذ سنة 2016. وبحسب عدنان العبيدي، رئيس مجلس مخيم الهول للاجئين العراقيين: «عاد إلى العراق أكثر من 50 ألفاً طواعية حتى نهاية 2018. لكن منذ عام ونصف العام، ترفض السلطات الحكومية في بغداد استقبال مواطنيها الراغبين بالعودة».
وذكرت إدارة المخيم أن أكثر من 20 ألفاً من العراقيين يريدون العودة إلى بلدهم، شريطة نقلهم تحت إشراف ومراقبة منظمات الأمم المتحدة، والجهات الدولية الإنسانية، خشية من عمليات انتقامية من الحشد الشعبي الذي بات يسيطر على مناطق كثيرة بالعراق.
وأخبر العبيدي أن القوائم المسجلة لدى المكتب وصلت نسخة منها إلى حكومة بغداد، وقال: «الأسماء رفعت عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والصليب الأحمر الدولي. وفي كل مرة، يصلنا إخطار بالموافقة وبدء الترحيل، لكن يتم إيقافه لأسباب نجهلها».
وعلى مد النظر، تمتد صفوف متراصة من الخيام، رسم عليها شعار المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، وسط هبوب رياح جافة مغبرة، وتلبد الغيوم، وأكوام من النفايات، وخزانات ضخمة حمراء اللون، يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه. فاللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت هذه الصهاريج، إلى جانب بناء المطابخ في كل قسم، مع دورات المياه والحمامات.
وحولت عائشة، ذات الثلاثين عاماً، خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية سكان المخيم، لا سيما النساء والفتيات منهنّ، فروا بملابسهم التي عليهم. وتنحدر هذه السيدة من مدينة القائم العراقية، وقد فرت إلى سوريا رفقة زوجها الذي كان بصفوف التنظيم، وقتل في معارك دير الزور قبل عام، وقالت: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة. كنا نحلم أيام (الدواعش) بلبسها، لأنهم كان يجبروننا على ارتداء السواد، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات للتقيد بما سموه بـاللباس» المسموح به.
وعلى كل حبل أو سور خيمة، تشاهد مزيجاً من الألوان الزاهية، غير الأسود الذي كانت ترتديه جميع النساء والفتيات اللواتي يعشن في هذه البقعة: الوردي، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، وهي ألوان الملابس المغسولة من فساتين وبيجامات وقمصان وجوارب أطفال.
بيد أنّ خديجة (28 عاماً)، المنحدرة من بلدة الحديثة العراقية، وصلت للمخيم قبل سنتين. ورغم وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي مقر للتنظيم، أشاهد عناصره يومياً، وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين». أما اليوم، فهي تنتظر العودة لبلدها، وتضيف: «نجوت من التنظيم، برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت هذه الخيمة على العيش تحت حكم (الدواعش)، أو العودة لبلد تحكمه ميليشيات طائفية وحشد شيعي».
وتحدثت مديرة المخيم، ماجدة أمين، لـ«الشرق الأوسط»، من مكتبها بالمخيم، عن وجود تنسيق دبلوماسي عالي المستوى بين «الإدارة الذاتية - شمال شرقي» سوريا، والحكومة العراقية، حيث زارت وفود رسمية المنطقة، واطلعت على شؤون اللاجئين، وتعهدت بدرس وضع اللاجئين العراقيين في المخيمات السورية، وإعادتهم بإشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقالت: «منذ بداية العام الماضي، توقفت رحلات إعادة العراقيين الراغبين بالعودة إلى بلدهم لأسباب تتعلق بالجانب العراقي. سلمنا قوائم الراغبين، ومنذ أشهر ننتظر الموافقة، دون نتيجة».
ووصفت مديرة المخيم الوضع بأنه «شديد الصعوبة وكارثي» في مخيم الهول، لوجود عشرات الآلاف من الأشخاص في حاجة حقيقية إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع، وشهدوا حروباً ومشاهد موت يعجز عنها الوصف، ومعاناة بدنية ونفسية، وتشير إلى أن هؤلاء العراقيين يحتاجون إلى «الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، إذ يفتقر المخيم لمراكز ومؤسسات تعليمية وترفيهية. وبإمكانات بسيطة، قمنا بافتتاح حديقة، كمتنفس لهذه الأسر والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة». وينتظر عزو عناد، البالغ من العمر ستين عاماً، وزوجته وأفراد أسرته، استقرار مناطقه، وسماح الحكومة العراقية. وهذه الأسرة تنحدر من منطقة جبال سنجار (شمال العراق)، التي تحكمها جهات عسكرية عدة، من بينها الحكومة المركزية في بغداد، وقال: «نعيش هنا منذ صيف 2017، ولا نريد العودة قبل بسط الأمن والأمان».
وفي سوق المخيم بسطات شعبية ومحال يتوفر فيها كل ما يطلبه الزبون، من مواد غذائية ومستحضرات، إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها معظم المدن العراقية. وأصحاب المحال عراقيون أو سوريون، ويتعالى ضجيج الأطفال والنساء اللواتي يتحدثن بلهجات متعددة.
وكحال الأخريات من العرقيات، قالت جواهر (45 سنة) إن صبرها قد نفد، وأصبحت حالة الانتظار كابوساً تعيشه مرغمة، وارتسمت علامات الحيرة على وجهها، وتساءلت قائلة: «إلى متى نبقى هنا؟ هل يشاهد العالم مأساتنا؟ هل تعلم الحكومة العراقية كيف نعيش في هذا المكان؟ متى سنعود؟».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».