زمن «كورونا» يقلب أجندة شركات إنتاج المسلسلات

ورد الخال
ورد الخال
TT

زمن «كورونا» يقلب أجندة شركات إنتاج المسلسلات

ورد الخال
ورد الخال

تعيش شركات إنتاج الأعمال الدرامية موقفاً لا تحسد عليه أسوة بباقي مجالات العمل التي تأثرت به مصالحها مباشرة جراء جائحة «كورونا». فهي ملتزمة بموعد مسبق لتسليم أعمالها لمحطات تلفزة عربية تزامناً مع وصول موسم رمضان. وجاءت تداعيات «كورونا» لتقلب أجندتهم العملية وليقفوا أمامها غير قادرين على اتخاذ القرار المناسب لأنّهم وقعوا بين المطرقة والسندان. فإذا ما امتثلوا لنداءات النقابات التي ينتمون إليها يخسرون تحدياتهم، وإذا ما أكملوا عملهم فإنهم يعرضون فريقهم من ممثلين وفنيين للخطر.
ولذلك قرّرت غالبية شركات الإنتاج، إيقاف تصوير المسلسلات لعدة أيام إلى حين وضوح الصورة. فيما اتخذت أخرى إجراءات وقائية علّها تستطيع تجاوز هذه المرحلة بأقل خسائر مطلوبة.
وكانت نقابات الفنانين في لبنان قد أصدرت بياناً توجهت به إلى المنتجين والفنانين بضرورة التوقف عن العمل وأخذ إجراءات احترازية لمنع تفشي «كورونا» بينهم. وجاء البيان بمثابة تمنٍّ من ناحية وتحذير من ناحية أخرى من قبل مجموعة نقابات فنية، وعلى رأسها نقابة الفنانين المحترفين ونقابة الممثلين ونقابات محترفي الموسيقى والغناء وغيرها. وتكون بذلك قد رفعت المسؤولية عنها مطبقة مقولة «وقد أعذر من أنذر». ومما جاء في البيان: «بناء على مقررات مجلس الوزراء الصادرة بتاريخ 15 من الشهر الجاري، وإعلان التعبئة العامة وتأكيد وجوب التزام المواطنين منازلهم... تلتقي صرخة النقابات الفنية، ونتضامن ونؤكد على ما ورد بالبيان الصادر عنها إضافة إلى ما صدر عن وزيري الثقافة والبيئة بكل ما يتعلق بالتجمعات والحفلات، خصوصاً التوقف عن تصوير المسلسلات والبرامج حرصاً على سلامة العاملين فيها. وبناءً عليه تتوجه النقابة والنقابات الفنية إلى السادة المنتجين والفنانين الالتزام بهذه التوصيات والمقررات».
ومن بين شركات الإنتاج التي تجاوبت مع هذه النداءات «إيغل فيلمز» التي أوقفت عملية تصوير مسلسلاتها لمدة 6 أيام في بيروت. وبينها «دانتيل» و«أولاد آدم» وذلك منذ تاريخ قرار التعبئة العامة الذي اتخذته الدولة اللبنانية قبل أيام قليلة. وهي لا تزال حتى الساعة تجهل طبيعة ما ستحمله قراراتها حول الموضوع بعد انتهاء هذه المهلة. وكذلك الأمر بالنسبة لشركة «أي سي ميديا» التي أعلنت تعليقها أعمال التصوير لمسلسليها «النحات» و«الساحر» للمدة نفسها. وكانت شركات عدة اتبعت إجراءات احترازية من تعقيم ووقاية طبية في ظل عمليات التصوير التي تقوم بها إلى حين تجاوز مرحلة خطر انتشار «كورونا».
وفي حديث مع نقيب الفنانين المحترفين في لبنان الممثل المخضرم جهاد الأطرش، أكّد أنّ البيان الصادر عن النقابة يحمّل الكل من موقعه الفني المسؤولية. «لقد تمنينا على شركات الإنتاج إيقاف التصوير لأنّ الحالة الراهنة التي نعيشها هي بمثابة ظرف قاهر يتطلب منا أخذ الحيطة والحذر. وارتكزنا في البيان على حالة التعبئة العامة التي أعلنتها الدولة اللبنانية لنجاريها حفاظاً منا على تطبيقها أيضاً في مجال الفن».
ورأى النقيب الأطرش في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنّ عدداً من الممثلين اتصلوا به يعبرون عن مخاوفهم الكبيرة من جراء عدم تعليق أعمال التصوير. ويعلّق: «كلنا نعلم أن هناك التزامات لشركات الإنتاج تجاه موزعي أعمالها من شاشات تلفزة ومنصات إلكترونية. ولكن لا يجب الاستخفاف بما نمر به ومسؤوليتنا كبيرة للحفاظ على مجتمعنا الفني. وجميعنا نعلم أن عمليات تصوير المسلسلات تتطلب أحياناً كثيرة اجتماع أكثر من 20 شخصاً في موقع تصوير واحد، بحيث لا يفصل بينهم لا أمتار ولا حواجز بلاستيكية. وهو أمر يحمل الكثير من الخطورة على أصحابه في ظل انتشار وباء كورونا. فهل إذا طالبنا بضرورة الحفاظ على صحة الفنانين نكون أخطأنا؟ ويتابع: «لقد اتهمنا بأنّنا نشجع الممثلين على العصيان ولكن أليس الممثل إنسانا ولديه عائلة وعلينا مؤازرته في أوقات كهذه من باب تأمين سلامته الصحية؟».
وكانت نقابة الفنانين السينمائيين في لبنان قد أصدرت قرارا تطالب فيه أصحاب شركات الإنتاج والتلفزيونات والاستوديوهات العاملة في لبنان وكل من يتعاطى الأعمال الفنية تعليق كل الأعمال الفنية لمدة عشرة أيام اعتباراً من 13 - 03 - 2020 ولغاية 23 - 03 - 2020 حفاظاً على سلامة الجميع.
الفنان السوري معتصم النهار نشر على حسابه على موقع التواصل الإلكتروني «إنستغرام» الإجراءات التي يتخذها لمنع وصول كورونا إليه. فنشر فيديو مصوراً يظهره أثناء قيامه بفحص درجات حرارة زميلاته وزملائه في موقع تصوير الجزء الثاني من مسلسل «ما فيي».
أما النجمة اللبنانية سيرين عبد النور فشاركت متابعيها عبر تطبيق «إنستغرام» بمقطع فيديو لها خلال توجهها إلى تصوير مسلسلها الجديد «دانتيل». ظهرت فيه وهي تضع كمامة وترتدي قفازات في يديها، ويظهر أحد الأشخاص الذي يرش مادة معقمة عليها، وعلقت قائلة: «بليز ما تضحكو عليي بس هيك كنا نفوت على التصوير، الله يمضّي هالفترة على خير ونرجع نقدر نصور».
وأعلنت الممثلة ورد الخال بطلة مسلسل «عشيق أمي» - الذي يجري تصويره حالياً - وعبر حسابها الرسمي على «إنستغرام» إيقاف تصوير العمل المذكور وكتبت تقول: «نحنا وقفنا التصوير لأنو حياتنا واقفة حالياً وصحتنا أهم من أي شغل. وما بالنا بشي إلا كيف نقطع يومياتنا بأمان. مصير البلد ومصير عيلنا أهم من مصير مسلسل يمكن ما نكون موجودين لنحضرو».
أما الكاتبة السورية نور شيشكلي فقد توجهت إلى صناع الدراما العربية ونجومها حرصا على سلامة الفنيين المشاركين فيها من خلال نداء عنونته بـ«الفنيين كمان بشر» وذلك عبر حسابها على «فيسبوك». وتساءلت تقول إنّ «حملات توعية تطالب الناس بالتزام منازلها... ولوكايشينات التصوير لا تزال تشرع أبوابها أمام جيوش الفنيين... طيب الفني اللي عم يشتغل بمسلسل ما اله عايلة؟ زوجة؟ أهل؟ أطفال؟ أقل فريق عمل يتألف من 60 شخصاً، وبيكفي واحد ينصاب ليعدي الكل.
وبالوقت نفسه توقيف أعمال التصوير ممكن تكون دمار لهالناس اللي ما الن مصدر رزق آخر». وتساءلت: ماذا لو أن كاتب العمل ومخرجه تنازل كل منهما عن نصف أجره، وسدّد بها حساب الفنيين وطلب منهم الذهاب إلى بيوتهم، بدل أن نتركهم يخاطرون بحياتهم؟


مقالات ذات صلة

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

يوميات الشرق لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

حظي مسلسل «رقم سري» الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق زكي من أبرز نجوم السينما المصرية (أرشيفية)

مصر: تجدد الجدل بشأن مقتنيات أحمد زكي

تجدد الجدل بشأن مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، بعد تصريحات منسوبة لمنى عطية الأخت غير الشقيقة لـ«النمر الأسود».

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق تجسّد شخصية «دونا» في «العميل» (دانا الحلبي)

دانا الحلبي لـ«الشرق الأوسط»: لو طلب مني مشهد واحد مع أيمن زيدان لوافقت

تُعدّ تعاونها إلى جانب أيمن زيدان إضافة كبيرة إلى مشوارها الفني، وتقول إنه قامة فنية كبيرة، استفدت كثيراً من خبراته. هو شخص متعاون مع زملائه يدعم من يقف أمامه.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق آسر ياسين وركين سعد في لقطة من المسلسل (الشركة المنتجة)

«نتفليكس» تطلق مسلسل «موعد مع الماضي» في «القاهرة السينمائي»

رحلة غوص يقوم بها بعض أبطال المسلسل المصري «موعد مع الماضي» تتعرض فيها «نادية» التي تقوم بدورها هدى المفتي للغرق، بشكل غامض.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق مسلسل «6 شهور»   (حساب Watch IT على «فيسبوك»)

«6 شهور»... دراما تعكس معاناة حديثي التخرّج في مصر

يعكس المسلسل المصري «6 شهور» معاناة الشباب حديثي التخرج في مصر عبر دراما اجتماعية تعتمد على الوجوه الشابة، وتحاول أن ترسم الطريق إلى تحقيق الأحلام.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)