حفل الأوسكار منح الكوريين أفضل جوائزه

بينها أفضل فيلم وأفضل فيلم أجنبي وأفضل مخرج

جانب من حفل توزيع جوائز الأوسكار في كاليفورنيا مساء أول من أمس (رويترز)
جانب من حفل توزيع جوائز الأوسكار في كاليفورنيا مساء أول من أمس (رويترز)
TT

حفل الأوسكار منح الكوريين أفضل جوائزه

جانب من حفل توزيع جوائز الأوسكار في كاليفورنيا مساء أول من أمس (رويترز)
جانب من حفل توزيع جوائز الأوسكار في كاليفورنيا مساء أول من أمس (رويترز)

باستثناء فوز «طفيلي» (Parasite) بأفضل فيلم وجائزة أفضل فيلم دولي في الدورة الثانية والتسعين من جوائز الأوسكار‬ التي أقيمت يوم أول من أمس، تحققت معظم التوقعات الأخرى وخرج بالجوائز الكبيرة كل فيلم وكل سينمائي تنبأ المتابعون بفوزه.
رينيه زلويغر أنجزت الأوسكار عن دورها في فيلم «جودي» وهذا كان متوقعاً بشدة، واكين فينكس وصل إلى السدّة وهذا بدوره كان مفروغاً من أمره بسبب دوره في «جوكر» لورا ديرن حظت بأوسكار أفضل ممثلة مساندة (أول أوسكار لها من 25 سنة) عن «حكاية زواج»، وبراد بت شق طريقه مجدداً ليفوز بأوسكار أفضل ممثل عن دوره في «ذات مرّة في هوليوود».
بالتالي من لم يفز كان شريكاً في هذه التوقعات: ليوناردو ديكابرو في مجال أفضل ممثل، كونتِن تارتينو في سباق أفضل مخرج، وكل فريق أفلام «الآيرلندي» و«حكاية زواج» و«نساء صغيرات» بين أفلام أخرى.

- سمات تاريخية
بذلك يمكن القول إن الفائز الأكبر هي التوقعات التي لم تكن بحاجة إلى بلورة سحرية للتنبؤ بها. بعد أشهر من التنافس والتطاحن والجوائز، انتهى الزخم أميركياً (وإلى حد بعيد عالمياً) بالجوائز التي أعلنت تباعاً وعلى نحو متسارع في بعض الأحيان كون البث مرتبطاً ببرامج أخرى منها ما انطلق يتداول النتائج وفي المقدّمة لماذا فاز «طفيلي» عنوة عن سواه ولماذا فاز بجائزتي أفضل فيلم (في السباق الأميركي كما في السباق العالمي) لجانب جائزة أفضل مخرج (بونغ دجون هو) وأفضل سيناريو (بونغ دجون هو وهان جيت - وون).
هل حقاً كان الفيلم الكوري يستحق الجائزة أكثر من فيلم «1917» أو من «الآيرلندي» أو سواهما؟ كيف يجوز للأعضاء المقترعين في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التصويت لصالح فيلم واحد مرتين متقاربين؟ هل هناك من خلل؟
هناك جواب على ما يبدو سؤالاً محيراً ومنيعاً وهو أن «طفيلي» هو الفيلم القوي الوحيد بين الأفلام التسعة الذي تقع أحداثه في عالم اليوم. فيلم آخر وحيد يشاركه هذا الوضع هو «حكاية زواج»، لكن أحداً يُذكر لم يعتبره منافساً شرساً ولا حتى قوياً. لذلك تعثر منذ أسابيع في الحفاظ على وهجه السابق وخبا وهو بعد ما زال في مرحلة الترويج له.
الأفلام السبعة كلها لها سمات تاريخية: إنها الستينات والسبعينات بالنسبة لفيلمي «فورد ضد فيراري» لجيمس مانغولد و«ذات مرّة في هوليوود» والأربعينات وما بعد في «الآيرلندي» ومطلع القرن الماضي في «نساء صغيرات» والفترة النازية في «جوجو رابِت» والثمانينات بالنسبة لـ«جوكر». أما «1917» فهو يعود إلى عشرينات القرن الماضي خلال الحرب العالمية الأولى.
في زمن مضى لم يكن لفيلم غير أميركي أن يدخل الترشيحات الرئيسية وإن فعل فإن الحافز الوطني كان سيحول دون وصول الفيلم إلى نيل أوسكار أفضل فيلم، ربما أوسكار أفضل فيلم عالمي (أو أجنبي كما كان يُطلق على هذه الجائزة حتى هذه الدورة) لكن أن يتم فوزه عنوة عن فيلم أميركي أو على الأقل ناطق بالإنجليزية، فإن هذا كان أمراً نشازاً واحتمالاً شبه مستحيل.
لكنه عالم مختلف الآن وغالبية أعضاء الأكاديمية (الذين يزيدون عن 8 آلاف عضو) هم من متوسطي الأعمار وما دون الذين يفكرون على عكس ما كان يفكر به ويحبذه القدامى. يفكرون بعالم واحد لا ضير فيه إذا ما ربح أوسكاره الأول فيلم آيسلندي أو مكسيكي أو كوري.
- مفارقة
ما يُثير التعجب هو التالي: إذا ما كان الوضع هو ما سبق شرحه من طغيان دم جديد يفكر بلغة جديدة وينظر إلى السينما بأعين مختلفة عن تلك التي للأجيال الثلاثة السابقة، لماذا إذن لم يتحسن الوضع بالنسبة للممثلين الأقليات؟
إنها معزوفة قديمة الآن الوقوف على منصة الأوسكار وانتقاد الأوسكار وأعضائه الفاعلين لغياب التنوع ولطغيان اللون الأبيض، لكن هذا ما قام به الكوميديان كريس روك وستيف مارتن. كلماتهما في الصميم لكنها ليست إلا من النوع اللاحق للحقيقة وليس السابق لها. بكلمات أخرى، كان السيف سبق العذل هذا العام عندما فوجئ الإعلام بأن وجها واحداً من أصول أفرو - أميركية تم ترشيحه بين الممثلين. إنها البريطانية سينثيا إريفو عن دورها في فيلم «هارييت» التي انضمت إلى كوكبة المرشحات لأوسكار أفضل تمثيل أول، الجائزة التي ذهبت إلى الممثلة رينيه زلويغر عن دورها في «جودي».
لكن لاحظ المفارقة: الدور الذي لعبته سينثيا في «هنرييت» هو دور المرأة التي حاربت العبودية البيضاء خلال سنوات ما قبل الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر، كما لو أن التقدير نتج عن تعاطف مع قضية تعود إلى أكثر من 150 سنة.
في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دفعت الأكاديمية بعدد من الأعراق المختلفة لتقديم الفقرات. لجانب كريس روك (الأفرو - أميركي) تمت الاستعانة بسبايك لي وزازي بيتز وسلمى حايك. واختارت الأكاديمية تقديم شرائح من أفلام حملت سمات ومشارب مختلفة مثل تلك المناظر التي تم الاستعانة بها من فيلم «لا بامبا» ومن فيلم «سلامدوغ مليونير». لكن لا شيء يكفي لطرح جديد أو لنقلة فعلية من عهد كان التنوع العرقي غائباً إجمالاً إلى عد يمارس هذا الغياب والتغييب ولو بنسبة أقل.
- أكبر الخاسرين
يأتي فوز «طفيلي» خارجاً عن المألوف. عوض فوزه بأوسكار أفضل فيلم أجنبي فقط (كما فعل فيلم «روما» لألفونسو كوارون في العام السابق) فاز بأوسكارين في هذا المجال (أفضل فيلم وأفضل فيلم عالمي) وبأوسكار أفضل مخرج وأوسكار أفضل سيناريو مكتوب خصيصاً. وهذا يقع للمرة الأولى في تاريخ الأوسكار.
هذا جاء مفاجئاً إلى حد من حيث إن الأسابيع الأخيرة عززت احتمال فوز فيلم سام مندِز «1917» خصوصاً بعدما التقط، وهو في الطريق إلى الأوسكار، بضع جوائز مهمة في مجال أفضل فيلم وأفضل إخراج بدأت بجائزة «غولدن غلوبز» كأفضل فيلم وبجائزة «جمعية مديري التصوير الأميركية» وجائزة «جمعية المنتجين الأميركية» واكتملت بجوائز «بافتا» مروراً بعشرات الجوائز النقدية من محافل مهمة. لكن الحال أن حكاية الجنديين اللذين ينطلقان لإيصال رسالة مهمة إلى قائد خلف خطوط العدو لتجنيبه ترك مواقعه، لم تنجز المهمة إلا على الشاشة. أما في حفلة الأوسكار فانضم إلى باقي الأفلام التي لم تثر ما يكفي من الأصوات.
لكن ما فقده «1917» في سباق أفضل فيلم وأفضل مخرج حققه في مجال أفضل تصوير، وهذا كان متوقعاً بشدة بسبب خبرة وموهبة مدير التصوير روجر ديكنز التي لم يجارِها أي عمل لأي مدير تصوير آخر هذا العام. ربما الأقرب إلى النتيجة الموازية نوعاً تصوير رودريغو برييتو لفيلم «الآيرلندي». وهذا الفيلم، الذي حققه مارتن سكورسيزي هو - لجانب «ذات مرّة في هوليوود» من أكبر الخاسرين. على الأقل فيلم كونتِ تارنتينو منح أحد ممثليه الرئيسيين (براد بت) مجالاً للفوز بأوسكار أفضل ممثل مساند، لكن كل من ظهر وترشح عن «الآيرلندي» في فئة التمثيل (آل باتشينو وجو بيشي) تواريا. أما بطل الفيلم (روبرت دي نيرو) فلم يظهر في عداد المرشحين أساساً.
ثلاثة أفلام ذات سمات عربية نجحت في اختراق الترشيحات وأخفقت في الحصول على الأوسكار هي «أخوان» لمريام جعبر (سباق الفيلم الروائي القصير) و«لأجل سما» لوعد الخطيب و«الكهف» (سباق الفيلم التسجيلي الطويل).
تبعاً لذلك، فإن من فاز ومن كان الأجدر له أن يفوز نقاش لا فائدة منه سيدخل طاحونة الأيام بعد حين قريب، وعندما يستوعب الجميع أن المسائل ليست على غرار ما يناسب كل سينمائي أو كل ناقد على حدة، بل إن هناك اقتراعاً عاماً وكبيراً وسرياً يدور بغية الوصول إلى النتائج النهائية سواء نالت رضا الجميع (أمر مستحيل) أو رضا البعض فقط.


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)