وفاة كريستوفر تولكين ابن مؤلف «سيد الخواتم» الذي نشر أدب والده بعد رحيله

القيّم على الإرث الأدبي لأبيه جي. آر. تولكين

كريستوفر تولكين توفي عن 95 عاماً (نيويورك تايمز)
كريستوفر تولكين توفي عن 95 عاماً (نيويورك تايمز)
TT

وفاة كريستوفر تولكين ابن مؤلف «سيد الخواتم» الذي نشر أدب والده بعد رحيله

كريستوفر تولكين توفي عن 95 عاماً (نيويورك تايمز)
كريستوفر تولكين توفي عن 95 عاماً (نيويورك تايمز)

توفي الأربعاء الماضي بمدينة «بروفانس» الفرنسية كريستوفر تولكين، نجل الكاتب جي. آر. تولكين، عن عمر ناهز 95 عاما بعد أن أفنى حياته في جمع وتنقيح إرث والده الأدبي وقام بنشر أعماله بعد وفاته تحت اسم «سليمارليون» بناءً على وصية والده قبل رحيله.
استمر تولكين طوال 50 عاماً بعد وفاة والده عام 1973 في العيش في العالم الذي خلفه والده من خلال روايات «ذا هوبيت» التي نشرت للمرة الأولى عام 1937 وروايات «سيد الخواتم» التي نشرت عام 1949، و«عنكبوت ميركوود»، و«عين موردور»، «رافينديل» ناهيك من آلاف الصفحات التي تضمنت شخصيات وأماكن وحبكات روائية متقنة. إجمالاً، قام تولكين بالتنقيح والإشراف على نشر عشرين إصداراً من أعمال والده والتي بات كثير منها من أكثر الكتب مبيعاً في الساحة الأدبية العالمية.
كان كريسوفر بمثابة الوصي الأدبي على إنتاج والده، لكن دوره كان أكبر بكثير مما يشير إليه هذا اللقب عادة. ففي الوقت الذي كان الأب يكتب فيه روايته الشهيرة «سيد الخواتم»، كان أيضا يقوم برسم عالم فسيح غني بالأساطير، لكنه كان من ذلك النوع الباحث عن الكمال ولم يكن قادراً على وضع هذا العمل في صورة قابلة للنشر قبل وفاته.
أمضى ابنه أربع سنوات في تنظيم وتجميع تلك الأساطير وقام بنشرها عام 1977 تحت اسم «سليمارليون».
وذكر كوري أولسن، القريب من جهود نشر أعمال تولكين، في مقابلة أن «من شأن هذا الجهد أن يفتح الباب على ثروة هائلة من أعمال تولكين الخيالية والمذهلة».
لكن أولسن، رئيس جامعة «سينجن» الأميركية عبر الإنترنت المتخصصة في دراسات تولكين، قال إن عشاق ومدرسي أدب تولكين كثيرا ما تساءلوا عن نسبة مساهمة الأب مقارنة بمساهمة الابن في إنتاج الأعمال التي حملت اسم «سليمارليون».
ورداً على هذا السؤال، يمكن القول إن كريستوفر أنتج كتاب «تاريخ الأرض الوسطى» عام 1996 الذي تكون من 12 مجلداً، وهو عبارة عن مجموعة من المسودات والأجزاء وإعادة الكتابة والملاحظات الهامشية والكتابات الأخرى التي حفظت في 70 صندوقاً من المواد غير المنشورة، والذي أظهر أن كل ما نشره الابن كان من إنتاج أبيه.
وقال أولسن: «لقد أظهر كريستوفر كيف تطورت أفكار والده مرور الوقت». لم تكشف المجلدات أفكار أبيه فحسب، بل عرضت بوضوح حالة الإبداع التي عاشها.
وقال توماس شيبي، الأستاذ البريطاني الذي ظل يكتب ويحاضر عن تولكين طوال 50 عاماً، في مقابلة صحافية: «من دون كريستوفر، لكان لدينا الآن القليل جداً من المعرفة حول تولكين وكيفية خلق أساطيره التي رأيناها في رواياته».
شأن والده الذي كان أستاذا في علم اللغة بجامعة أوكسفورد، فقد قضى تولكين معظم حياته منغمسا وسط الكتب. كان كلا الرجلين من علماء اللغة الإنجليزية القديمة والوسطى، وحاضر كلاهما في جامعة أكسفورد. لكن الأب كان متخصصاً في أدب تشاوسر ومرحلة «أنغلوا ساكسونز»، فيما عكف الابن على العمل على دراسة وجمع إنتاج أبيه الراحل.
قال أوستن أولني، المحرر بدار «هافتون مافلين» للنشر، عقب لقائه بتولكين في منزله في إنجلترا: «كان يتعامل مع هذا الأرشيف غير العادي كما لو أنه اكتشفه في قبر مغلق». وبحلول ذلك الوقت، تم نشر ما يقرب من مليون نسخة من كتاب «سليمارليون»، وكان هناك العديد من الكتب الأخرى على وشك الخروج من القبو.
ووصف صهره السيد كلاس، تولكين بأنه كان منضبطا بشكل غير عادي وأنه كان يغلق الباب على نفسه بمكتبه في الصباح الباكر ولا يخرج حتى وقت الغداء.
وقال كلاس: «كان عمل حياته هو تحويل تلك الكميات الضخمة من المواد المدونة على الأظرف والمناديل بخط يده غير القابلة للقراءة إلى مواد مقروءة».
وجاء رد فعل قراء تولكين لخبر وفاته عبر على وسائل التواصل الاجتماعي عاطفيا ومشحونا بالشجن.
وكتب أحد الأشخاص على «تويتر»: «لقد كرس رجل متواضع حياته لإنجاز عمل شخص آخر»، وأضاف: «أفكر في جميع الكتب التي لم تكن لترى النور من دون جهود كريستوفر. فهذه الكتب هي التي حددت طريقة نظرنا الآن لتراث هذا البروفسور».
- خدمة {نيويورك تايمز}


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)