«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (5): ترشيحات الأوسكار يغلب عليها العنصر الرجالي والنجاح التجاري

الموضوع السوري يعود إلى الواجهة هذا العام أيضاً

TT

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (5): ترشيحات الأوسكار يغلب عليها العنصر الرجالي والنجاح التجاري

بإعلان الترشيحات الرسمية لجوائز الأوسكار يبدأ العد التنازلي للجائزة التي ما زالت، رغم كل ما أحيطت به من مصاعب، الحدث الذي يتخطى كل الأحداث السينمائية ولو مرّة في العام.
من بين تلك المصاعب بالطبع أن أكثر من عشر مؤسسات أخرى تعلن جوائزها في الفترة ذاتها. بالتالي فإن معظم هذه الجوائز تذهب للأفلام نفسها التي تعاود الإطلال من نافذة ترشيحات الأوسكار وجوائزه، كذلك الحال بالنسبة للسينمائيين الذين يظهرون، مرشحين أو فائزين، في هذه المناسبة وتلك قبل وصول القطار الذي يستقلونه للمحطة الأخيرة.
ما يمكن أن يُضاف الآن بعد الإعلان عن الترشيحات هو النظر إلى ما تعنيه لأصحابها وللمتابعين على اختلاف آرائهم تجاه الأوسكار وهي آراء متفاوتة بين الإعجاب المطلق وصولاً إلى السخرية والرفض المطلقين كذلك.

- القضية وجهة نظر
الارتياب في قيمة الجائزة ليس جديداً. مارلون براندو ذاته رفضها فما البال برعيل كبير من المتابعين الذين يتساءلون كيف يمكن لهم احترام وتقدير جائزة حُجبت عن مبدعين أمثال ألفرد هيتشكوك وستانلي كوبريك أو أندريه تاركوفسكي.
ذات الارتياب يمتد اليوم ليشمل ترشيحات الأوسكار في قسم الأفلام التسجيلية. هناك فيلمان عن الموضوع السوري مليئان بالمشاهد اليومية للصراع الدائر. الفيلمان هما «الكهف» لفراس فياض و«لأجل سما» لوعد الخطيب وإدوارد ووتس.
ولم ينتظر المتابعون العرب طويلاً قبل أن ينقسموا، كما الحال دائماً، بين مؤيد ومعارض. المؤيدون يباركون خطى السينما السورية «الكاشفة للنظام» التي «تعرض للعالم مشاهد عن المحنة التي يتعرض لها الشعب السوري»، والمعارضون يتحدثون عن مؤامرة سياسية بين هذه الأفلام وأكاديمية العلوم والفنون السينمائية الأميركية لتشويه صورة الواقع.
ما هو واقع بالفعل هو أن الموضوع السوري لم يعد ملكية سورية بحتة من حيث التداول. المشكلة بحد ذاتها كبيرة ومتفاقمة وتتداخل فيها رؤوس كثيرة. لذلك من السهل على صانعي الأفلام المعارضة بيع المنتج إلى الخارج بما يحمله من مشاهد تعكس سياسة الموقع المعارض للحكومة السياسية ونظامها. فالعالم ما زال يريد أن يعرف، ربما ليس بالنسبة التي كانت عليه أبان السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من المحنة، ماذا يدور وكيف، وبعضه يريد أن يشاهد المعاناة التي ترسمها تلك الأفلام بريشة تكاد تكون سوريالية من حيث تفاصيل الواقع الذي تعرضه.
في المقابل، لا تستطيع السينما المصنوعة بموافقة أو تأييد الحكومة مضاهاة ما وصلت إليه الأفلام المعارضة لبضعة أسباب جوهرية. من بينها أنها إذ تتحدث عن معاناة شعب كامل (كحال أفلام جود سعيد) لا توفر نقداً فعلياً لأي اتجاه في تلك الحرب. تملك موضوعات مثيرة للاهتمام لكنها مسالمة ومهادنة أكثر قليلاً مما يجب لإثارة الاهتمام خارج الحدود.
سبب قوي آخر هو أن أفلام النظام منتجة من قِبل النظام الذي لا علاقة مشادة بينه وبين شركات التوزيع العالمية وممولي الأفلام من الشركات الأوروبية. إنها «مشموسة» بكونها تنتمي إلى النظام من دون النظر إلى ما يمكن لها أن تضيفه. الأهم من كل ذلك، هو أنها مقصّرة في تحقيق فيلم ضد أعداء الدولة بالنبرة والقوّة ذاتيهما التي تتمتع بها الأفلام «الثورية». فيلم واحد يغوص سياسيا ليكشف تطرف بعض الفصائل أو ليبحث عميقاً في العلاقة بين تركيا وبين تلك الفصائل كفيل بفتح باب ربما لا يكون أكثر من ثغرة لكن من المحتمل له أن يؤدي إلى طرح وجهة النظر المناوئة.
الحال، إذا ما أردنا التمحيص، هو أن كلا من «لأجل سما» و«الكهف» ليسا فيلمين سوريين. نعم الموضوع سوري لكن الإنتاج ليس كذلك. «الكهف» هو إنتاج دنماركي- أميركي (ما بين Danish DocumentaryProductions وNational Geographich Documentary Films). «لأجل سما» هو بريطاني (إنتاج Chanel 4 News). القول بأنهما فيلمان سوريان هو كالقول بأن فيلم «موت على النيل» هو فيلم مصري لمجرد أن تصوير هذا الفيلم الأميركي تم في مصر، أو أن فيلم سيرجيو ليوني «الجيد والسيء والبشع» أميركي لكونه فيلم وسترن.
حال نصرف النظر عن هذه الحقيقة ونتخذ موقفاً حيادياً من الصراع بأسره، يمكن لنا النظر إلى كل من هذين الفيلمين على نحو تقييمي خال من العواطف والانفعالات مؤيدة كانت أو معارضة.

- تحليل الترشيحات
جائزة أفضل فيلم تسجيلي، التي تضم هذين الفيلمين، لا تشغل كثيراً بال السينمائيين الغربيين ولا الجمهور حول العالم. ما تم شرحه أعلاه هو خصوصية عربية من ناحية وشعور بالحماسة والأمل يعتمل صدور صانعي الفيلمين سوريين وأجانب. أما الاهتمام الأكبر فيبقى في إطار الفيلم الروائي ومن دخل محراب ترشيحاته وماذا سيقع له في التاسع من الشهر المقبل عندما تعلن النتائج.
دفع المقترعون (أكثر من 9000 سينمائي) صوب دورة مهمّة وحاسمة بالنسبة للأفلام التسعة المرشحة في مجال أفضل فيلم تبدأ بـ«فورد ضد فيراري» وتنتهي بـ«فطري» وتشمل بينهما «الآيرلندي» و«جوجو رابت» و«جوكر» و«نساء صغيرات» و«حكاية زواج» و«1917» و«ذات مرة في هوليوود».
ثلاثة من هذه الأفلام من بطولة ممثلين نراهم مرشحين لأوسكار أفضل تمثيل أول وهم ليوناردو ديكابريو عن «ذات مرة في هوليوود» وأدام درايفر عن «حكاية زواج» وواكين فينكس عن «جوكر». الآخران في قائمة الخمسة هما أنطونيو بانديراس عن «ألم ومجد» وجوناثان برايس عن «البابوان».
في المقابل النسائي، فيلمان من تلك المرشحة لأوسكار أفضل فيلم تسببا في ترشيح بطلتيهما لأوسكار أفضل تمثيل أول هما ساويرس رونان عن «نساء صغيرات» وسكارلت جوهانسن عن «حكاية زواج».
يُعاد ذكر «الآيرلندي» في قائمة الممثلين المساندين إذ تم ترشيح آل باتشينو وجو بيشي عن هذا الفيلم، كما تم ترشيح براد بت عن «ذات مرّة في هوليوود» ولدينا توم هانكس عن «يوم جميل في الجيرة» وأنطوني هوبكنز عن «البابوان».
بالنسبة للممثلات فإن «حكاية زواج» يحمل لورا ديرن كمرشحة لأفضل ممثلة مساندة ونجد اسم سكارلت جوهانسن عن فيلم «جوجو رابت» وفلورنس بوف عن «نساء صغيرات». المرشحتان الرابعة والخامسة يأتي بهما إنتاجان من خارج قائمة أفضل فيلم وهما كاتي بايتس عن «رتشارد جووَل» ومارغوت روبي عن «بومبشل».
أخيراً، في ترشيحات المخرجين، نلاحظ أن كل المرشحين الخمسة لهذه الجائزة المهمة وصلوا بفضل أفلامهم التي دخلت الترشيحات بدورها. هذا عادة لا يحدث بهذا القدر من الشمولية إذ نجد دوماً مخرجين مرشحين لجائزة أفضل إخراج عن أفلام لم يجر ترشيحها لجائزة أفضل فيلم.
تبعاً لذلك، يتنافس كل من مارتن سكورسيزي عن «الآيرلندي» وتود فيليبس عن «جوكر» وسام مندِز عن «1917» وكونتِن تارنتينو عن «ذات مرة في هوليوود» وبونغ دجون هو عن «طفيلي».
في الظاهر فإن كل هذه الأفلام تردد ذكرها في جوائز الغولدن غلوبز وفي ترشيحات المخرجين ومديري التصوير وجمعية كتاب السيناريو. لكن هذا ليس سوى جزء من تحصيل الحاصل، فمن الطبيعي ألا يستقدم الأوسكار أفلاماً لم يتم لها الحضور في موسم الجوائز.
لكن الصورة خلف الصورة أكثر إثارة.
على سبيل المثال، فإن ترشيح «جوكر» لتسعة أوسكارات (بينها ما تم ذكره)، هو أعلى قدر من الترشيحات التي نالها فيلم مستوحى من مصادر شخصيات الكوميكس.
كذلك فإن هناك فيلمان من التسعة المرشحة لأفضل فيلم من إنتاج نتفلكس («حكاية زواج» و«الآيرلندي») بينما السبعة الأخرى لشركات سينمائية بالفعل. هذه الأفلام جمعت فيما بينها 747 مليون دولار في أميركا وكندا والمكسيك (الدول التي تشكل شمال القارة الأميركية) يتقدمها «جوكر» (الذي حصد 334 مليون دولار محلياً ومليار و70 مليون دولار عالميا) ثم «ذات مرة في هوليوود» وهذا الأخير يستحق وقفة في هذا المجال.
عادة ما تخفق أفلام كونتِن تارنتينو في خطف أكثر من 50 إلى 150 مليون دولار نسبة لاختلافها عن الإنتاجات السائدة. فيلمه الأخير هذا بقي مختلفاً لكنه جمع 372 مليون دولار حول العالم.

- عالم من الرجال
ملاحظة أخرى شديدة العلاقة، ستة من الأفلام المرشحة (وستكون لنا وقفات مع كل سباق على حدة) تتمحور حول وحدة الرجال وطموحات بعضهم. ثلاثة أفلام فقط تضم عناصر العائلة وما يدور في أرجائها من مشاكل أو حكايات.
العالم ما زال رجالي الحضور على الشاشة من خلال «الآيرلندي» وشخصياته التي تعيش في عالم الجريمة والشعور بالذنب. القتل والقتل المضاد. هنا المرأة لا حضور لها إلا من خلال لقطات صامتة. عينان تتكلمان لكن الفم (كما عند شخصية ابنة روبرت دي نيرو) مغلق.
«فورد ضد فيراري» يدور حول فارسي سباق سيارات. تنافسهما. مراجعهما كشخصيتين تطمحان للفوز كل على الآخر، ناهيك عن باقي المتسابقين، يدفع الحكاية إلى الأمام. المرأة موجودة في حدود. بطلا الفيلم مات دامون وكرستيان بايل يشتركان في أن أي منهما لم ينل ترشيحاً في قائمة أفضل ممثل أول.
«1917» لا نساء فيه على الإطلاق. هو عن جنديين يحاولان إيصال رسالة لجنرال يزمع القيام بمغامرة ستكلفه كل جنوده. عليهما تحذيره.
في «جوجو رابِت» حكاية كوميدية حول هتلر وصبي يتعرف على عناصر الفتنة العنصرية التي تُحاك. المرأة محدودة في الدور الذي تؤديه سكارلت جوهانسن.
ثم هناك «جوكر» حول ذلك اللامنتمي الذي كان يبحث عن إثبات موهبة ما في إسعاد الآخرين قبل أن ينتهي معادياً لكل البشر باستثناء امرأتين: أمه التي تموت قبل بلوغ الفيلم منتصفه وجارته الوحيدة التي تتفهمه. على أهمية دوريهما، هما حالتان بعيدتان عن جوهر الصراع القائم.
أما «ذات مرّة في الغرب» فهو عن صديقين (الثنائي الوارد في «فورد ضد فيراري» متكرراً). الأول ممثل يودع أيام عزّه والثاني يحاول منع جريمة قتل من جماعة تشارلز ماسون. هناك وجود نسائي شبه وحيد متمثل بالشخصية التي تؤديها مارغوت روبي إذ تلعب دور الممثلة الناشئة شارون تايت التي قُتلت (خارج الفيلم) على أيدي أتباع ماسون.
الفيلمان الباقيان يحملان تعويضاً عن هذا الخلل في التوازن (خلل غير مقصود وبل طبيعي كحال معظم الإنتاجات السينمائية حول العالم) فـ«حكاية زواج» عن عائلة من زوجين يتنازعان بعدما اقتنعا بضرورة الطلاق، و«طفيلي» يدور في رحى عائلي كامل يشمل 8 شخصيات (تنتمي لأسرتين). أما «نساء صغيرات» فكله عن النساء تبعاً لرواية لويزا ماي إلكوت والرجال حفنة قليلة في الخلفية.
من سيفوز... من سيبقى جالساً في مكانه كديكور طبيعي للحفل الكبير فإن ذلك موعده بعد أسابيع قليلة. خلال هذه الأسابيع نعود إلى هذا السباق وسواه بالتحليل، فلربما نصل إلى نقطة قريبة من النتائج المرجوّة.


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)