الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

2019 عام متأرجح لم يحقق وعد إخراج البلاد من «عنق الزجاجة»

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
TT

الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)

يقفل العام أبوابه أردنياً على مشهد اقتصادي وسياسي متأرجح، رغم ما حمله من محاولات رسمية وحكومية لدفع مسيرة الإصلاح في البلاد إلى الأمام، وسط استمرار لضغوطات إقليمية سعت إلى تحجيم الدور التاريخي الهاشمي في حماية القضية الفلسطينية والدفاع عنها، ولم تستطع حكومة رئيس الوزراء عمر الرزاز أن تخرج من عنق الزجاجة كما تعهدت في بداية توليها مهامها الدستورية منتصف عام 2018.
وبانقضاء هذا العام، تبدأ حكومة الرزاز في حساب العد التنازلي لانتهاء الدورة البرلمانية للمجلس الثامن عشر، تحضيراً لانتخاب المجلس المقبل، مما يحتم رحيلها بعد إجراء الانتخابات إن صدرت أوامر ملكية بإنفاذ المواعيد الدستورية لعقد الانتخابات.
وبين مرحلة سبقت قدوم حكومة الرزاز ومرحلة جني ثمار حصيلة نحو عامين من محاولات حثيثة للإصلاح، لم تهدأ الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية والقطاعات المختلفة، في التصدي للسياسات الحكومية التي رفعتها «حكومة النهضة» كما ارتأى الرزاز أن يسميها، وهو الذي أجرى 4 تعديلات وزارية على تشكيلة حكومته لم يلق أي منها ترحيباً شعبياً، بل تعديلات أرهقت أداءها.
وانقلبت حظوة الرئيس الرزاز الذي جاء على وقع احتجاجات شعبية تطالب بتغيير حكومة هاني الملقي، من دعم شعبي إلى سخط أذكته حالة الارتباك المستمرة للأداء الحكومي وخطابها المتضارب، ولم تكن الحزم الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2019، سوى استجابة لتوجيهات ملكية مباشرة قادها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، شخصياً، عبر مجلس أسسه عرف بـ«مجلس بسمان» خصص للالتقاء مع القطاعات المختلفة في بلاده والاستماع لهموم المواطنين بنفسه.
ومما زاد من الرصيد السلبي للحكومة، تمسك حراكات شعبية؛ وإن كانت محدودة، بوقفات أسبوعية رمزية بالقرب من مقر الحكومة، ورفع شعارات بسقوف مرتفعة طالت شخصيات عامة وبارزة بلغ بعضها أسوار القصر الملكي. وعلى محدودية هذا الحراك؛ كانت تسجل في المقابل عشرات التوقيفات والاعتقالات التي أقرت بها مؤسسات حقوقية وطنية معتمدة، مثل «المركز الوطني لحقوق الإنسان»، بينما تجاهلتها الحكومة جملة وتفصيلاً.
ورغم تراجع نطاق الحراك الشعبي كمّاً، فإن مسوغاته، بحسب مشاركين فيه، استندت إلى واقع معيشي متراجع في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى أكثر من 19 في المائة، ونسبة فقر بلغت نحو 15.5 في المائة، إضافة إلى رصد إحصائي موثق تحدث لأول مرة في تاريخ البلاد عن 8 آلاف حالة من حالات الفقر المدقع، ولم تعلن الحكومة حتى اللحظة عن خط الفقر الحقيقي أو تكشف عن منهجية تحديد نسب الفقر الجديدة.
وإيلاء الحكومة الإصلاح الاقتصادي أولوية قصوى في أجندتها 2019 لم يتكلل بتحقيق اختراقات بنيوية، بل رسخ حالة من الشكوى العامة من عجز رسمي مستمر، ظهر في مشروع قانون موازنة الدولة لسنة 2020 بسبب إيجاد حلول طارئة لأزمات متراكمة مزمنة، وهو ما يمثل عقدة ارتفاع العجز في الموازنة من 800 مليون دينار أردني في نهاية عام 2019 إلى 1.3 مليار دينار في عام 2020، وهو رقم تقديري قد يتجاوز ذلك مع نهاية العام.
وخلال عام 2019 تأثرت البلاد بموجة احتجاجات موسمية اختطف العنوان الاقتصادي مضامينها، وكانت عمّان العاصمة على موعد مع اعتصامات واحتجاجات متدرجة نقابية، ساهمت إلى حد كبير في تفجير أزمة نقابة المعلمين الأردنيين حديثة التأسيس في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، التي كادت تطيح بحكومة الرزاز بعد إضراب عام نفذه المعلمون استمر شهراً كاملاً وأدى إلى حدوث شلل في الحياة العامة، ولم ينته إلا باعتراف الحكومة الكامل بعلاوات مجزية، مما أحيا آمال النقابات المهنية الأخرى في الفوز بحصتهم المسكوت عنها في نظام الوظيفة العامة في البلاد.
وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا المنجز في تقديم زيادات مجزية على رواتب موظفي القطاع العام مع مطلع العام الجديد، أنتج ذلك الأمر عجزاً مبالغاً فيه بموازنة العام الجديد، مع استمرار الوعود الحكومية بتخفيض الضرائب على السلع والخدمات الأساسية. وهو ما جاء في مقدمة مشروع قانون الموازنة العامة الذي فتح باب التساؤلات عن مصادر تمويل الزيادات وسط عجز مستمر في موازنة البلاد.
هنا؛ تبدو الحكومة الأردنية كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهي تبحث عن ترميم شعبيتها، بتركة اقتصادية ستدفع الدين العام للبلاد نحو الارتفاع، فيما سيكون حساب عجز الموازنة عسيراً أمام إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي ما زال شاهراً سيف سياساته الاقتصادية على رقاب الأردنيين، بعد مَسّ تلك السياسات بقدسية تحرير السلع والخدمات الأساسية من الدعم الحكومي، وإقرار قانون ضريبة الدخل الذي أصاب الطبقة الوسطى بمزيد من تداعيات تراجع الأوضاع المعيشية.
سياسياً، فإن مقدمة عام 2020 ستشهد عراكاً قاسياً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ففيما تسعى الحكومة لمرور موازنتها المالية متسلحة بالزيادات على رواتب الموظفين في القطاع العام كرافعة شعبية، فإن مجلس النواب سيكون على بُعد كافٍ يسمح له بمناكفة الحكومة عبر مطالبته بزيادات مجزية، وهو بذلك يريد أن يغلق مدته الدستورية على إنجازات تسجل له وحده عند قواعده الانتخابية.
أما دستورياً فيُنهي مجلس النواب مدته في 10 مايو (أيار) المقبل، ويعني ذلك ضرورة تنسيب الحكومة بحل المجلس القائم، وتقديم استقالتها، حتى تتسنى لحكومة جديدة إدارة مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدتها الأربعة أشهر، وهو ما سيلهب مطلع صيف العام الجديد، بالتحضير للانتخابات المتوقع أن يكون موعد إجرائها في سبتمبر المقبل.
المواقيت الدستورية أعلاه تتطلب تغييراً متوقعاً لرئيس الحكومة عمر الرزاز، في موعد قد لا يتجاوز شهر يونيو (حزيران)، بانتظار أن يكلف العاهل الأردني رئيساً جديداً قد ينجح بعد إدارته المرحلة الانتقالية، في البقاء إذا ما حصل على ثقة المجلس الجديد.
وفي هذا السياق، فإنه وإن منحت الخيارات الدستورية الحق للملك الأردني في التمديد للمجلس الحالي، فإن مصادر مطلعة ذكرت أن إجراء الانتخابات في موعدها وبصيغة قانون الانتخاب الحالي هو الخيار الأوحد على طاولة صانع القرار.
ووسط انشغال المملكة ببرنامجها المحلي اقتصادياً وسياسياً، والحديث عن تغيير جذري في شكل النخب التقليدية من بوابة الانتخابات المقبلة، يظل الأردن محاصراً بظروف جواره، فحتى اللحظة لم تأتِ سياسة فتح الحدود مع سوريا والعراق، بعد الحد من نفوذ تنظيم «داعش»، بالحسابات الاقتصادية المتوقعة، فيما يظل التهديد الإسرائيلي قائماً بعد إعلان نتنياهو نيته ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
السلام البارد مع إسرائيل قد يصبح مهدداً في حال نفذت تل أبيب سياسات التطرف اليميني التي انتهجتها حكومة بنيامين نتنياهو بدعم أميركي من خلال الرئيس دونالد ترمب، ضاربة تل أبيب بالمصالح الأردنية عرض الحائط، وهو ما حذر منه العاهل الأردني عبد الله الثاني في خلواته مع نخب وطنية. الأمر الذي فسره مراقبون بأن التزام الأردن بتعهداته بملفي الباقورة والغمر وفرض السيادة عليهما، بإنهاء عقود الإيجار للإسرائيليين على مدى الـ25 عاماً الماضية، هو رسالة باتجاه رد الفعل الأردني على الممارسات الإسرائيلية الأحادية. وأضافت عمّان على رسائل الغضب تجاه تل أبيب من خلال محاكمة علنية لمتسلل مدني إسرائيلي استثمرت قصته لضرب سياسات اليمين المتطرف وممارساته.
ولم يكن الملف الحقوقي للمملكة في 2019 أكثر إيجابية، فقد أظهر تقرير «المركز الوطني لحقوق الإنسان» الجهة الوطنية المعتمدة دولياً، أرقاماً صادمة في تراجع مستوى الحريات العامة في البلاد والتوسع في الاعتقالات، وتكييف جرائم لنشطاء على خلفية قضايا «تعبير» على أنها قضايا تندرج ضمن قوانين منع الإرهاب وتقويض نظام الحكم، كما أن التقرير الذي قدم حالة تقييم لحقوق الإنسان في البلاد عن 2018، خلص إلى أن السلطات التنفيذية قد تغوّلت على حق التجمهر السلمي في البلاد، وسجلت أيضاً عدد قضايا غير مسبوق في التوقيف على النشر الإلكتروني.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.