احتجاجات لبنان تنهي الجمود السياسي وتعيد إنتاج معارضة فعلية

الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي رئيس الوزراء سعد الحريري بقصر بعبدا في 19 الشهر الحالي (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي رئيس الوزراء سعد الحريري بقصر بعبدا في 19 الشهر الحالي (أ.ف.ب)
TT

احتجاجات لبنان تنهي الجمود السياسي وتعيد إنتاج معارضة فعلية

الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي رئيس الوزراء سعد الحريري بقصر بعبدا في 19 الشهر الحالي (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي رئيس الوزراء سعد الحريري بقصر بعبدا في 19 الشهر الحالي (أ.ف.ب)

هشّمت الاحتجاجات التي اندلعت في لبنان في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حال الجمود السياسي الذي كان قائماً منذ العام 2014 مع دخول عاملين أساسيين، أولهما الأزمة الاقتصادية التي فتحت على مصراعيها، ولا أفق لإعادة تثبيتها، وثانيهما تثبيت المحتجين لمعادلة جديدة قوامها تشكيل معارضة من خارج النظام، ستلزم السلطة بإعادة إنتاج معارضة من داخل المؤسسات بعد تدجينها بفعل التسويات السياسية.
وتعد النتيجة الثانية أبرز ما أنتجته التحركات الاحتجاجية التي كشفت عن ثغرة أساسية في النظام السياسي القائم. فمنذ العام 2014، ثبتت التسويات بين الأفرقاء مبدأ الشراكة في داخل النظام، وتكرست في الانتخابات الرئاسية في 2016 وبلغت ذروتها في حكومة ما بعد الانتخابات النيابية 2018، حيث باتت الحكومة نسخة مصغرة عن البرلمان لجهة تمثيل القوى السياسية فيها بحسب حجمها في المجلس النيابي، وهو ما ألغى المبدأ الذي تقوم عليه الأنظمة البرلمانية الديمقراطية، لجهة وجود أكثرية تحكم، وأقلية تعارض. وعليه، لعب الشارع دور المعارضة الملغاة في داخل النظام، وفرض نفسه مراقباً وضاغطاً، ما أسفر عن إسقاط الحكومة في الشارع، وانسحاب قوى سياسية من المشهد في الحكومة التي يجري التحضير لتأليفها لتتحول فعلياً إلى صفوف المعارضة.
وفيما كرر «حزب القوات اللبنانية» رفضه للمشاركة في أي حكومة، دافعاً باتجاه تأليف حكومة من الاختصاصيين تلبي مطالب المنتفضين، وتنهض بالبلاد من أزماتها الاقتصادية والمالية، بقي الرئيس سعد الحريري على موقفه لجهة تأليف حكومة من الاختصاصيين، مدفوعاً بدعم من «تيار المستقبل»، بحيث يتعزز دور البرلمان في مراقبة الحكومة. وإثر فشل المشاورات لتشكيل حكومة من الوزن السياسي الثقيل، على غرار الحكومات السابقة، أعلن «التيار الوطني الحر» عن توجهه لعدم المشاركة في الحكومة، والانحياز إلى صفوف المعارضة، رغم أن رئيس الجمهورية ميشال عون، المؤسس لـ«التيار الوطني الحر» سيحتفظ بحصة له في الحكومة.
في المقابل، تنازلت كل القوى السياسية عن مطالبها بتشكيل حكومات تشبه النماذج السابقة، تحت ضغط الشارع وضغط الأزمات الاقتصادية، وهو تغيير أساسي تحقق في الأزمة الأخيرة، رغم أن حكومات لا تتضمن تمثيلاً سياسياً بالحد الأدنى ستواجه تحديات كثيرة في ظل التركيبة السياسية اللبنانية وتوزع القوى في البرلمان. فأي حكومة تؤلف على قاعدة الخصومة الكاملة مع القوى السياسية، من الصعب أن تحظى بثقة البرلمان، ومن الصعب أيضاً أن يوافق البرلمان على مشاريع قوانين تقترحها، ومن ضمنها مشروع موازنة المالية العامة، وهو واقع يعرفه المحتجون الذي يراهنون على تغيير في نتائج الانتخابات عبر المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة.
وبينما يكافح الشارع للحفاظ على زخمه في الضغط لتحقيق مطالبه، يرزح السكان تحت ضغط اقتصادي كبير، يتمثل في إقفال الكثير من المؤسسات التي بلغ عددها في الشهر الأخير نحو 70 مؤسسة أبلغت وزارة العمل بالاستغناء عما يزيد على 1500 موظف، لترتفع نسبة البطالة، بحسب التقديرات، إلى 50 في المائة من القوى العاملة في البلاد.
وترافقت تلك التطورات مع تدني القدرة الشرائية وإجراءات مصرفية تواكب التحديات المستجدة، وأبرزها تراجع تدفق التحويلات الأجنبية والودائع الأجنبية المالية. وشهدت البلاد ندرة في توافر الدولار إثر إجراءات اتخذتها المصارف لتقليص التداول بالعملة الصعبة، وهو ما رفع سعر الدولار في السوق الموازية 25 في المائة من قيمته الفعلية، ما انعكس على أسعار السلع. وتفاوت ارتفاع الأسعار بين سلعة وأخرى، وبين تاجر وآخر. وبالمجمل ارتفعت أسعار بعض السلع بنسبة 40 - 60 في المائة، وأسعار أخرى بنسبة 100 في المائة. واستغل التجار الوضع الراهن في لبنان، حيث أقدم بعضهم على تبديل أسعار السلع مرات كثيرة خلال فترة الـ15 يوماً الأخيرة، ولم يعد يلتزم بعضهم بهوامش الأرباح، ما أسهم في تفلت الأسعار في السوق.
وارتفعت تكلفة الفوائد على الشركات من 7.5 إلى 12 في المائة، والرسوم على الدفع بالبطاقة الائتمانية، التي كانت تتراوح تكلفتها على المحال التجارية بين 0.85 و1.25 إلى 2 في المائة، ومن ثم فرض 3 في المائة كرسوم جمركية على مواد استهلاكية مستوردة، وفرض رسم جمركي تراوح بين 10 و20 في المائة على بعض المواد المستوردة الأخرى.
هذه الوقائع دفعت باتجاه شكل جديد من الحكم سيتمثل في الحكومة الجديدة التي ستتضمن اختصاصيين يتولون الحقائب الوزارية الأساسية ويساهمون في النهوض بالبلد، ويعزز وجودهم ثقة المجتمع الدولي بلبنان، تمهيداً لمرحلة أخرى في العام 2020 تحمل آمالاً كثيرة بالنسبة للبنانيين. لكن هذه الآمال ستكون مشروطة. فقد حدد المجتمع الدولي شكلها، إذ أكدت «مجموعة دعم لبنان» التي انعقدت في باريس في 11 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن المحافظة على استقرار لبنان وأمنه واستقلاله السياسي تتطلب تشكيل حكومة فاعلة وذات صدقية وقادرة على الاستجابة لتطلعات جميع اللبنانيين، وتتوافر لها الإمكانيات لإطلاق حزمة الإصلاحات الاقتصادية، وأن تكون ملتزمة سياسة النأي بالنفس عن التوترات والأزمات الإقليمية. ودعت المجموعة إلى أن ترى هذه الحكومة النور في أسرع وقت.
وإلى جانب المساعدات العاجلة التي يمكن أن ترسل إلى حكومة موثوقة لتخفيف الأزمة الاقتصادية، ستدفع حكومة تطمئن المجتمع الدولي، إلى تنفيذ مقررات «سيدر» الذي سيضخ نحو 13 مليار دولار على شكل مشاريع متوسطة وبعيدة الأمد تعيد تشغيل العجلة الاقتصادية وتضخ أموالاً بالعملة الصعبة في البلاد.
الرهان الثاني في 2020 سيكون على الأرقام التي ستتمخض عن حفر أول بئر للغاز في البلوك رقم 4 في المياه الاقتصادية اللبنانية، حيث سيبدأ تحالف الشركات الثلاث (توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتيك الروسية) بحفرها مطلع العام، ومن المتوقع أن تصدر نتائجها بعد 60 يوماً. فوجود غاز أو نفط في المياه الاقتصادية اللبنانية، من شأنه أن يرفع قيمة السندات السيادية اللبنانية ويزيد ثقة المجتمع الدولي بلبنان، وهو ما يراهن عليه لبنان، بحسب ما تقول مصادر سياسية لـ«الشرق الأوسط».
أما أزمة وجود الدولار النقدي في الأسواق، فهي تحد آخر، لا يرتبط بالأزمات المحلية فقط، بل يتعداها إلى أزمات إقليمية. وتقول مصادر مصرفية إن العملة الصعبة الورقية «قليلة في الأسواق الآن»، وهناك «إجراءات استثنائية تتخذها المصارف، تتمثل في إعطاء الناس حاجاتها، وإتاحة المعاملات المصرفية عبر الشيكات والبطاقات الائتمانية»، لافتة إلى تحول الورقة النقدية بالعملة الصعبة (الدولار) إلى «سلعة يتم تداولها والاتجار بها عبر الصرافين بغياب رقابة قوانين حماية المستهلك». ولا تنفي المصادر أن تحول العملة الصعبة إلى سلعة، أدى إلى استفادة التجار السوريين منها عبر تهريبها إلى الداخل السوري الذي يعاني من أزمة الدولار إثر العقوبات عليه.
ورغم المخاوف من إجراءات مصرفية قاسية بحق المودعين، تنفي مصادر مصرفية ذلك، مؤكدة أن المصارف اللبنانية «تمتلك خارج لبنان 21 مليار دولار، بينها 9.5 مليار على شكل ودائع يمكن إحضارها كسيولة إلى البلاد، وقد طالبها حاكم مصرف لبنان بذلك لتعزيز الثقة بالقطاع المصرفي وزيادة الملاءة بالعملة الصعبة وضخها بالأسواق».
ويراهن اللبنانيون على تغييرات سياسية تعزز ثقة المجتمع الدولي بلبنان، لتغيير إجراءات اعتمدتها المصارف عموما وهي تدابير أكثر تشددا تمثلت في تقييد التحويلات إلى الخارج المشروطة بتوفر السيولة لدى المصرف والتوقيت الذي يحدده لإمكانية التنفيذ. وتم خفض السقوف بحيث لا تتجاوز 500 دولار أسبوعيا كحد أقصى، كما أن أغلب المصارف يمنع تنفيذ أي سحوبات من الودائع المربوطة بأجل قبل الاستحقاق، بعدما كان متاحاً التصرف بنسبة 10 في المائة من إجمالي المبلغ.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.