حركات نسوية وتغيرات اقتصادية واجتماعية غيرت وجه الموضة إلى الأبد

العقد الذي فرضت فيه المرأة الشرقية أسلوبها والجيل الصاعد ميوله الإنسانية

قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
TT

حركات نسوية وتغيرات اقتصادية واجتماعية غيرت وجه الموضة إلى الأبد

قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»

أحداث كثيرة شهدها عام 2019، من موت كارل لاغرفيلد إلى انضمام المغنية ريهانا إلى مجموعة «إل في إم إتش» كمصممة في بادرة غير مسبوقة، وما شابه من أمور.
لكن سنة واحدة غير كافية لتحديد مسار الموضة ونحن نحتفل بنهاية عقد وبداية آخر، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العقد الأخير شهد أحداثاً درامية غيرت وجه الموضة إلى الأبد. وهذا يعني أنه يمكن القول إن عالم الموضة، بحلول عام 2020، سيدخل عهداً جديداً تُكتب فصوله منذ عام 2010، ولا تزال نهايته غير مكتملة تماماً. فخلال هذه السنوات العشر، وُضعت أساسات مفهوم الاستدامة وحماية البيئة والمناخ واحتضان التنوع بكل أشكاله وأحجامه وألوانه، إلى جانب تغيير النظرة إلى الأناقة ككل من خلال تعاملنا معها من زاوية لا تحركها الرغبة في الاستهلاك أو التباهي بقدر ما تحركها رغبة إنسانية حقيقية تفكر في الآخر وفي مستقبل الأجيال القادمة.
- هيمنة الأسلوب «السبور»
من أهم ما شهده العقد الأخير هيمنة الأسلوب «السبور» على منصات وشوارع الموضة. فمنذ ظهوره بداية هذا العقد وهو يرفض أن يبقى سجين الملاعب والنوادي الرياضية. كانت الموضة بدورها تتوق إلى التغيير، لهذا فتحت له الأبواب على مصراعيها ليدخل منها باسم الراحة والانطلاق. ومع ظهور كيني ويست ومصممين من أمثال فيرجيل أبلو، مصمم علامة «أوف وايت»، جاء الأسلوب السبور ليكون مضاداً حيوياً للموضة التقليدية كما كنا نعرفها لعقود. المغني كيني ويست لم يقدم شيئاً ثورياً من حيث الابتكار؛ كل ما قام به أنه غير تلك العلاقة التي كانت تربط المشاهير بصناع الموضة. لم يعد النجم مجرد متلقٍ يستعرض ما تمليه عليه الموضة، بل فرض أسلوبه الخاص، رغم غرابته أو خروجه عما ألفته العين. بداية هذا العقد، ربط علاقة تعاون مع المصمم الإيطالي ريكاردو تيشي، مصمم دار «جيفنشي» آنذاك، وظهر في مجموعة جريئة من تصاميمه، مثل «تي-شيرتات» وبنطلونات جينز تباع بمئات الدولارات، إن لم نقل الآلاف. نجاح هذه العلاقة كانت إشارة إلى أن الوقت كان جاهزاً لاستقبال نوع جديد من المصممين، من أمثال فازاليا ديمنا مصمم «فيتمون»، وفيرجل أبلو مصمم «أوف وايت» الذي تعامل مع كيني ويست، ويقال إن هذا الأخير كان له فضل كبير في تعريف العالم به. تصاميمهما، أي ديمنا وأبلو، كانت صادمة في بعض الأحيان، لكنها كانت معاصرة تنبض بروح الشارع. وربما لها السبب لم يُثر تعيين دار «لويس فويتون» لفيرجل أبلو مصمماً لقسمها الرجالي كثيراً من الاستغراب، خصوصاً أنه سبق للدار أن تعاونت مع المغني كيني ويست في عهد مارك جايكوبس، بطرحها مجموعة أحذية رياضية بأسعار نارية وجدت هوى في نفوس الشباب، وأكدت أن الوقت قد آن لتغيير دفة الموضة باتجاه يعانق ثقافة الشارع، ويحقق المعادلة الصعبة بين الأنيق والمريح. وتوالت التعاونات، ومعها أحذية رياضية بأشكال وألوان متنوعة تصب كلها في الخانة والهدف نفسيهما. وتعاونت دار «ألكسندر ماكوين» مع «بوما»، والمصمم يوجي ياماموتو مع «أديداس»، وكثير من المصممين الآخرين أكدوا استعدادهم للنزول عند رغبة الشارع، فحتى من لم تكن لهم رغبة في دخول الميادين «السبور» انتبهوا إلى أن عليهم أن ينزلوا من أبراجهم العالية إلى الشارع.
انتبهوا أيضاً إلى أن القرارات لم تعد بأياديهم؛ أي أنهم لم يعودوا هم من يؤثرون على ذوق المستهلك، بل أصبح هذا الأخير هو من يفرض ذوقه عليهم. وتجدر الإشارة إلى أن حركة مماثلة ولدت في السبعينات من القرن الماضي، ومن الشارع أيضاً، ألا وهي حركة «البانكس». الفرق بينها وبين الحركة المعاصرة أن هذه الأخيرة يقودها شباب يطالبون بتبني التنوع وتقبل الآخر، بدءاً من لونه إلى ثقافته، وليس فقط التمرد على المتعارف عليه من تابوهات اجتماعية.
- المرأة العربية تفرض نفسها
يمكن القول إن هذا العقد هو الذي فرضت فيه المرأة العربية نفسها على ساحة الموضة. فرغم أنها كانت من أهم زبونات «الهوت كوتير» منذ سبعينات القرن الماضي، ويُرد لها فضل كبير في الإبقاء على هذا الجانب منتعشاً حياً لسنوات، إلا أنها لم تأخذ حقها كاملاً. كانت تُعتبر مجرد مستهلكة تصرف أموالاً طائلة من دون أن يكون لها رأي أو ذوق خاص. كل هذا تغير، وبشكل واضح، من خلال ربط الموضة معها علاقة تفاعلية مبنية على الاحترام، بعد أن كانت مجرد مونولوج. دار «شانيل» عبرت عن هذا الاحترام بإقامة عرضها الخاص بـ«الكروز» عام 2015 لأول مرة في بلد عربي (دبي)، وهذا العام بإقامة دار «ديور» عرضها من الخط نفسه في مدينة مراكش المغربية، بيد أن التأثير الأكبر تجلى فيما أصبح يُعرف بـ«موديست فاشن». أسلوب يتميز بياقات عالية وأكمام طويلة وفساتين أو تنورات تتراوح بين «الميدي» و«الماكسي»، حتى الرأس أصبحت له أكسسواراته المبتكرة التي تتراوح بين إيشاربات الحرير الملفوفة بأشكال مبتكرة والعمامات العصرية.
البعض يُرجع هذه الظاهرة إلى الأحداث السياسية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة ككل، بينما يُرجعها البعض الآخر إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وصور شابات من المنطقة العربية بملابسهن المحتشمة وأكسسواراتهن الغالية الثمن وهن يتجولن في شوارع لندن أو لوس أنجلوس أو باريس. لم تعد الصورة ترتبط بالجانب الديني، بل تعكس جانباً ثقافياً ظل متجاهلاً يعاني طويلاً من النمطية. لا يختلف اثنان أيضاً على أن الأزمة الاقتصادية العالمية كان لها تأثيرها. فالجيل الجديد من زبونات الشرق الأوسط عارفات ومتذوقات للموضة مثل أمهاتهن، لكن على العكس من أمهاتهن يسألن عن كل صغيرة وكبيرة، ولا يقبلن بأن يكن مجرد مستهلكات. بعبارة أخرى، أصبح لهن صوت يتوقعن أن يسمعه المصممون جيداً، وإلا فإن السوق يزخر بغيرهم. أغلب بيوت الأزياء العالمية أنصتت، وركبت موجة الاحتشام، بدءاً من «فالنتينو» و«غوتشي» إلى «شانيل» و«بيربري» و«دولتشي أند غابانا» وكارولينا هيريرا، وهلم جرا. وحتى من لم يركبها علانية، اعتمد على أسلوب الطبقات المتعددة.
فمن كان يتصور منذ عقد من الزمن أن تتصدر صور محجبات أغلفة مجلات عالمية مثل «فوغ»، أو أن تصبح حليمة آيدن، وهي فتاة مسلمة محجبة، واحدة من أهم عارضات الأزياء في العالم؟ لم تقتصر هذه الموجة على الغرب، ففي الشرق ظهرت عدة مواقع تسوق إلكترونية تستغل الإقبال العالمي على هذا الأسلوب، مثل موقع «ذي موديست دوت كوم» الذي انطلق في دبي، مُسوقاً إطلالات تلعب على جمال الطبقات المتعددة لخلق صورة مفعمة بالجمال والحشمة. واللافت أن السوق الأولى للموقع هي السوق الأميركية، حسب قول غزلان غينيز، مؤسسة الموقع، وهو ما يؤكد أن هذه الظاهرة أصبحت عالمية لا تقتصر على المرأة العربية أو المسلمة فحسب.
فرغم أن السوق الصينية لا تزال الأقوى، من حيث عدد سكانها وإمكانياتهم التسوقية، فإنه من الخطأ الاستهانة بالمنطقة العربية، بحسب تقرير الاقتصاد الإسلامي العالمي، الذي أعدته وكالة «رويترز»، بالتعاون مع «دينار ستاندرد»، وأفاد بأن المسلمين أنفقوا ما يقدر بنحو 243 مليار دولار على الأزياء في عام 2015، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 368 مليار دولار في عام 2021؛ أي بزيادة قدرها 51 في المائة عن عام 2015.
البعض قرأ هذه الدراسة بشكل حرفي، ونهل من موروثات الشرق بشكل أثار كثيراً من الجدل، مثل الثنائي الإيطالي «دولتشي أند غابانا» عندما طرحا مجموعة عباءات في عام 2015، رأى فيها البعض تودداً ميكيافيلياً مبالغاً فيه، من دون تقديم أو إضافة أي جديد. لكن على العكس من «دولتشي أند غابانا»، اكتفى مصممون آخرون، مثل فيبي فيلو مصممة دار «سيلين»، و«إرديم» و«ديور» و«شانيل» وغيرهم، بإبداع تصميمات تجمع الحشمة بالأناقة العصرية، لتصبح التيار الرئيسي المميز للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
- الحركة النسوية
تزامنت هذه الموضة «المحتشمة» مع حركة نسوية جديدة قادتها المرأة من خلال حملة «#مي تو» ضد التحرش الجنسي والتمييز في أماكن العمل. ففي ظل فترة تسودها حالة من التوتر، ورغبة المرأة في استرداد حقوقها وفرض نفسها من جديد، أصبحت التصاميم التي تخفي تفاصيل الجسد بمثابة دروع تحتمي بها. هذا إلى جانب تمردها على ثقافة تلفزيون الواقع، فكلما انتشرت صور فضح كل لحظة حميمة وكل جزء من الجسد للاستهلاك العام، جاءت ردود أفعال مضادة تطالب بالعكس. وأكثر من قاد هذه الحركة النسوية المصممة الٍإيطالية ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور».
- تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
لا يختلف اثنان على قوة وسائل التواصل الاجتماعي في هذا العقد. فقد غيرت لغة الموضة، ومعها طريقة الشراء والاستهلاك. ما قامت به هذه الوسائل أنها فككت قوة المؤسسات الكبيرة التي كانت تعتمد على الإعلانات لفرض سطوتها على الذوق العام، كما غيرت طرق البيع والشراء تغييراً جذرياً. فبعد أن وضعت المؤسسات الكبيرة في مأزق، لم تجد هذه الأخيرة حلاً سوى تخصيص جزء لا يستهان به من إعلاناتها للمواقع الإلكترونية، وأيضاً لشراء ود وآراء المؤثرين، بعد أن كانت تقتصر على المجلات والصحف. أما بالنسبة للبيع، فقد بدأت ظاهرة الشراء مباشرة بعد العرض، عوض الانتظار 6 أشهر قبل طرحها في الأسواق. فقد كشفت وسائل التواصل الغموض الذي كان يحيط بهذه العروض سابقاً، كما فتحت الأبواب أمام محلات مثل «زارا» وغيرها لأن تستنسخ تصاميم مشابهة تطرحها بسرعة، وبأسعار زهيدة بالمقارنة. فجأة، أصبح ما يقدمه المصممون على المنصات بعد عرض كلفهم عشرات، وأحياناً مئات، الآلاف من الدولارات، وأشهراً من التحضيرات، يبدو قديماً بعد وصوله إلى المحلات. ومن جانب آخر، ساعدت هذه الوسائل مصممين شباب في الوصول إلى العالمية، من دون أن يتقيدوا بقواعد اللعبة التقليدية، لا سيما منهم من دخلوا مجال البيع الإلكتروني. انتبهوا أنهم لا يحتاجون إلى الوجود في محلات أسمنتية لكي تباع بضائعهم أو يشتهرون، فالإنستغرام أو اليوتيوب يقوم بهذه المهمة على أحسن وجه.
نتيجة لهذا، كان من البديهي أن تنتعش مواقع التسوق الإلكترونية، مثل «نيت أبورتيه» و«ماتشز فاشن»، وأن يُصبح لكل دار موقع خاص بها، عدا عن ظهور منصات تسوق ضخمة، مثل «فارفيتش».
- الثقافة الشعبوية... بين السلبي والإيجابي
سحابة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تخيم على مصممي العالم. فلندن معروفة باحتضانها كل من تتوسم فيه الموهبة، وتفتح له أحضانها، بغض النظر عن جنسياتهم. الثقافة الشعبوية التي ظهرت مؤخراً والبريكست قد يدفعان بالبعض للعودة إلى بلدانهم أو تغيير مقرات أعمالهم. الصعوبات المرتقبة بالنسبة لهؤلاء لا تتعلق بتأشيرات الدخول والخروج أو الإقامة فحسب، بل أيضاً بالضرائب الجمركية على استيراد الأقمشة وعلى المعامل. فهذه قد تكلف هذا القطاع نحو 900 مليون جنيه إسترليني تقريباً.
بيد أنه، ومن ناحية أخرى، خصوصاً بالنسبة لمن يروون دائماً أن الفنجان نصف ممتلئ، فإن حركات الشعبوية خلفت ردود فعل إيجابية من ناحية إقبال أكبر على تقبل الآخر. فعندما تصدرت عارضة الأزياء أدوت أكيش أغلفة 5 نسخ من مجلة «فوغ» في شهر واحد هذا العام، كان الأمر تتويجاً لجهود أكثر من عقد من الزمن لإلغاء التمييز العنصري، ثم جاء موقع «بيزنيس أوف فاشن» ليؤكد هذه الحقيقة، عندما تصدرت أدوت غلاف مجلته التي تصدر سنوياً متضمنة لائحة بأسماء أكثر الشخصيات تأثيراً على الموضة. أديت أكيش لمن لا يعرفها لاجئة من أصول سودانية، أي أن لون بشرتها داكن، لهذا لم يكن يخطر على البال منذ أكثر من عقد أن تتصدر غلاف مجلة «فوغ» على الإطلاق، بدليل أن العارضة ناعومي كامبل اشتكت في بداية مشوارها إلى الراحل إيف سان لوران من أن النسخة الفرنسية من المجلة رفضت أن تتصدر غلافها بسبب لونها. فقط عندما تدخل مستغلاً قوته الإعلانية، حصلت على أول غلاف لها في المجلة. نظرة سريعة حالياً على حال الموضة تؤكد أن الفرق شاسع بين ثقافة الأمس التي كانت تحتفل بالجمال الأشقر، وثقافة اليوم.
- احترام ثقافة الآخر ومشاعره
في صناعة كانت إلى عهد قريب تعتمد على النخبوية، وعلى مفاهيم جمالية تقليدية، أصبح التغيير ضرورة يُحركها جيل جديد يؤمن بأن التنوع والاختلاف واقع لا يجب تجاهله. ورغم أن العملية لا تزال في بدايتها، فإن من لا يحترم قواعدها الجديدة يدفع الثمن غالباً.
أكبر دليل على هذا ما تعرضت له كل من «غوتشي» و«برادا» و«دولتشي آند غابانا» من هجمات في نهاية العام الماضي. هذه الأخيرة عندما صورت حملة دعائية أثارت حفيظة الصينيين، كانت عبارة عن حملة إعلانية ظهرت فيها نجمة صينية في كامل أناقتها وهي تتناول السباغيتي بعيدان الأكل، وهو ما اعتبره الصينيون إهانة لتقاليدهم وانتقاصاً منهم. الشيء نفسه تعرضت له «غوتشي» عندما طرحت كنزة صوفية بياقة عالية تغطي نصف الوجه، تتخللها فتحة واسعة مرسومة على شكل شفاه مكتنزة، فسرها البعض على أنها تلميح لوجه «زنجي». فسارعت الدار الإيطالية بسحب التصميم من كل محلاتها ومواقعها الإلكترونية مباشرة. ومع ذلك، لم تسلم من الانتقادات ومن تهديدات المقاطعة إلا بعد تعيينها المصمم دابر دان، كمستشار لها لتلافي الوقوع في أخطاء مماثلة. وفي تغريدة لدابر دان، الذي كان واحداً من الذين قادوا الحملة ضد غوتشي في البداية، كتب: «لا يمكن أن يكون هناك احتضان للاختلاف من دون محاسبة». ومن جهتها، تعرضت «برادا» لهجمة مماثلة بسبب تزيينها واجهات محلها بنيويورك بتماثيل صغيرة لها شفاه مكتنزة ذكرت البعض بالصورة التي كان يرسمها العنصريون لوجوه الأفارقة في الماضي. كل هذه المطبات لم تعد تمر مرور الكرام، فالأعين بالمرصاد، وما كان يعتبر استقاء من مناهل ثقافات أخرى، أصبح يُفسر على أنه انتحال فني وأدبي يجب أن يُدفع ثمنه. المكسيك، مثلاً، اتهمت مؤخراً دار الأزياء «كارولينا هيرّيرا» بالانتحال الثقافي لاستخدامها رسوماً منسوخة من تراث الشعوب الأصلية المكسيكية ظهرت في مجموعة أزيائها الأخيرة. كما أن دار «لويس فويتون» الفرنسية سبق لها أن تعرّضت لتنبيهات وانتقادات من السلطات المكسيكية لاقتباساتها المتكررة من تراث الشعوب الأصلية في المكسيك لتصميم منتوجاتها من الحقائب الجلدية من دون أن يستفيد السكان الأصليون من أي شيء. وفي أواخر العام الماضي، قررت دار «نايكي» (Nike) سحب أحد أحذيتها من السوق، بعد أن احتجت مجموعة «Guna» للسكان الأصليين في باناما على «سرقة» تصميم الحذاء من رسوم «Mola» التي تعتبر جزءاً من تراثها الفولكلوري.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة والمنظمة العالمية للملكية الفكرية تنشطان منذ عامين في التفاوض حول اتفاقية دولية لحماية التراث الثقافي التقليدي، وتنظيم الاستفادة من محتواه لأغراض تجارية. ويعود ذلك بشكل أساسي للصحوة التي شهدتها الشعوب الأصلية في العقود الثلاثة المنصرمة، وما رافقها من وعي بأهمية تراثها وحقها في الدفاع عنه، وما نشأ عن ذلك من اتفاقات ومعاهدات دولية.
الطريف أن هذا لم يكن يخطر على بال أحد قبل 2010. فجون غاليانو قدم في عام 1997 تشكيلة مستوحاة بشكل كبير من ثقافة الهنود الحمر. ولم يرها النقاد انتحالاً لثقافتهم، حيث تركز الانتقادات على كونها مسرحية وصعب ترويضها وبيعها بسهولة. لكن شتان بين ذلك العهد وما تعاني منه بيوت أزياء كثيرة من انتقادات سلبية. ومن بين ضحايا هذه الانتقادات كل من «فكتوريا سيكريت» في عام 2012، و«جيفنشي» في عام 2015، ومارك جايكوبس في عام 2016، وحتى «ديور» في بداية هذا العام، عندما اضطرت إلى سحب حملتها الترويجية لعطر «سوفاج» التي كانت من بطولة النجم جوني ديب؛ جريمتها أنها استعملت رقصة خاصة بالهنود الحمر رآها البعض إهانة لهم.
ولا يختلف اثنان على أن الجيل الجديد من الزبائن وراء أغلب هذه الحركات. سلاحهم هو وسائل التواصل الاجتماعي التي يُتقنونها جيداً. أما دافعهم فهو تصحيح أوضاعاً يروون أنها لم تكن «أخلاقية»، لتتعالى أصواتهم مطالبة بموضة مستدامة تحترم البيئة والإنسان على حد سواء. فحتى عام 2016، كانوا يعبرون عن استيائهم وسخطهم، لكن لم يكن يصل بهم الحد إلى المقاطعة، بدليل أن الثنائي «دولتشي أند غابانا» صرحا من قبل بتصريحات مثيرة للجدل، و«فكتوريا سيكريت» كانت أيضاً تثير كثيراً من الاستياء بسبب طريقتها في تسويق المرأة، ومع ذلك لم تتأثر مبيعات أي من هذه البيوت إلا مؤخراً؛ «فكتوريا سيكريت» ألغت عرضها الأخير.
- الدور الإيجابي للإنترنت
انتعاش الإنترنت فتح الأبواب على مصراعيها أمام مصممين شباب ليست لديهم إمكانيات كبيرة لافتتاح محلات أسمنتية. بعضهم حقق نجاحاً كبيراً بتفاعله مع الزبون مباشرة، سواء تعلق الأمر بالأزياء أو الأكسسوارات أو مستحضرات التجميل. ولأن مصاريفهم أقل، كان بإمكانهم أن يوفروا منتجات جيدة بأسعار أقل من تلك التي تقدمها الأسماء الكبيرة التي لها محلات، لا سيما في ظل عزوف كثير من زبائن الجيل الجديد عن هذا المحلات، واقتصارهم على التسوق الإلكتروني. وربما يكون هذا هو العقد «الأسود» بالنسبة للمحلات ومجمعات التسوق الضخمة التي ازدهرت في ثمانينات القرن الماضي.
ويبدو أن الزبون نفسه الذي فرض فكرة التسوق الآني، أي «البيع بعد العرض مباشرة»، وفرض الموضة المستدامة والأخلاقية والمحتشمة، هو أيضاً من فرض فكرة أن تتحول محلات التسوق إلى أماكن تُوفر الترفيه والمتعة. لم يعد افتتاح محل ضخم وأنيق كافياً لجذبه، بل يجب أن يترافق مع فعاليات وإغراءات أخرى، مثل أن يكون هناك تفاعل أكبر وتسهيلات أكثر، إلى جانب حصوله على ذلك الإحساس بأنه مهم وله صوت مسموع.
- انتعاش منتجات التجميل
سيسجل تاريخ الموضة أنه في هذا العقد ولدت مليونيرات التجميل، مثل كايلي جينر وهدى قطان؛ الأخيرة بدأت برموش مستعارة وتوسعت إلى مستحضرات التجميل لتصبح مليارديرة. قوتها تكمن في أنها بدأت كإنفلونسر تُعلم كيفية وضع الماكياج على الإنستغرام، أتبعتها بقناة على يوتيوب خاصة بها. بدورها، حققت كايلي جينر ثروة طائلة من وراء منتجات روجت لها هي شخصياً على وسائل التواصل الاجتماعي. ولا شك أن مدوني التجميل من الإنفلونسرز، وأغلبهم من فناني التجميل، استفادوا من هذه العملية. أرقام المبيعات بدورها تؤكد أنه كان لهم مفعول السحر على بعض هذه الماركات، وهو ما لا يمكن قوله على الموضة التي لا تزال تتخبط بسبب عدم قدرتها على التمييز بين المؤثرين الحقيقيين والدخلاء. ما نجح فيه هؤلاء أنهم أخرجوا عالم التجميل من نخبويته، من خلال تقديمهم أسراراً عن كيفية وضع الماكياج كانت حكراً على النجوم. طرق سهلة تحول فتاة عادية جداً إلى فاتنة بعد كل جلسة ماكياج. ومما يُذكر في عام 2012، ظهور كيم كارداشيان في برنامجها الواقعي بوجه غريب، مخطط بألوان تتباين بين الداكن والباهت. وكانت هذه بداية انتشار أسلوب الـ«كونتورينغ» لتنحيف الوجه أو منحه التألق حسب الجزء الذي يتم التركيز عليه. بعد البرنامج، تحول إلى ظاهرة تُطبقها كل فتيات العالم. وكان لا بد أن تجعل شركات التجميل هذه الألوان المتدرجة عنصراً مهماً في كل مجموعة ماكياج تطرحها. وغني عن القول أن هذه الدروس سلطت الضوء على ماركات جديدة، وأنعشت أخرى قديمة مثل «بينيفت». بسرعة غيرت شركات التجميل وسائلها للتسويق والترويج ليتحول بعض الخبراء والإنفلونسرز إلى نجوم يوتيوب يؤثرون على مبيعات هذه الشركات، في حال اختاروا استعمال منتجاتها، طبعاً لقاء مبالغ طائلة جعلت بعضهم، خصوصا من تعدى عدد متابعيهم الـ100 ألف متابع، يتركون وظائفهم ويتفرغون للعمل كإنفلونسرز.
- الموضة المستدامة أصبحت واقعاً
قبل عام 2013، كان صناع الموضة يتكلمون على الاستدامة والموضة الأخلاقية كثيراً، لكن أفعالهم كانت تقول عكس ما يقولون، إلى أن حصلت كارثة «رانا بلازا». معمل بداكا أودى بحياة أكثر من ألف شخص كانوا يعملون لصالح شركات عالمية في ظروف صعبة جداً، وبرواتب لا تسد حاجتهم.
النيران التي اندلعت فيه كانت إيذاناً بضرورة التغيير الفعلي، فقد انكشف المستور ولم يعد بإمكان الماركات العالمية في باريس أو ميلانو أن تتغاضى عن الأمر أو تُبرره، كما تغيرت النظرة إلى الموضة الجاهزة الرخيصة التي تطرحها محلات بأسعار رخيصة. لأول مرة، بدأت النقاشات حول من يُنفذونها ويدفعون ثمن أسعارها الزهيدة من حياتهم. انشغلت وسائل التواصل، وأثيرت حفيظة الجيل الجديد من الزبائن، وبدأت مطالبهم بتغيير الوضع جذرياً، وتهديداتهم بمقاطعة أي علامة لا تحترم هذه المطالب. ولأول مرة، انتقلت النقاشات إلى قاعات أصحاب القرار من الرؤساء التنفيذيين. بات عليهم تحمل المسؤولية، وتبني طرق إنسانية جديدة. ومع مرور الوقت، توسعت هذه النقاشات لتشمل تأثيرات الموضة على البيئة والتغيرات المناخية، ومدى تأثيراتها على مستقبل الكون. في قمة المناخ عام 2015، وصلت هذه النقاشات ذروتها بعد قرار الأمم المتحدة الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وإلزام الحكومات بالعمل المناخي في قمة المناخ.
غيرت كل من «إل في إم إتش» و«كيرينغ» طرقها في التعامل مع الموضة، واعتذرت دار «بيربري» على إتلافها سنوياً فائضاً يقدر بنحو 40 مليون دولار من منتجاتها. ورغم أن البعض غير مقتنع تماماً بهذه الخطوات، على أساس أن تبني الموضة المستدامة من قبل المجموعات الكبيرة ما هو إلا عملية تسويقية جديدة، فإنها فعلاً بدأت تتحرك باتجاه صحيح، وإن بخطوات بطيئة. في عام 2017، أعلنت دار «غوتشي» توقفها عن استعمال الفرو في تصاميمها، لتليها بيوت أخرى كثيرة، مثل شانيل وبيربري، وهلم جرا.
2020 سيكون عام التحديات بالنسبة لصناع الموضة، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. والسؤال المطروح حالياً هو: كيف ستواجه هذه التحديات من دون أن تتأثر أرباحها؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة.


مقالات ذات صلة

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

لمسات الموضة جانب من جلسات العام الماضي في الرياض (هارودز)

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

في ظل ما تمر به صناعة الترف من تباطؤ وركود مقلق أكدته عدة دراسات وأبحاث، كان لا بد لصناع الموضة من إعادة النظر في استراتيجيات قديمة لم تعد تواكب الأوضاع…

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة أبدعت فيها «ديور» والمغنية لايدي غاغا في أولمبياد باريس (غيتي)

2024... عام التحديات

إلى جانب الاضطرابات السياسية والاقتصادية، فإن عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض لا تُطمئن صناع الموضة بقدر ما تزيد من قلقهم وتسابقهم لاتخاذ قرارات استباقية.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة ماثيو بلايزي مصمم «بوتيغا فينيتا» سابقاً (غيتي)

2024...عام الإقالات والتعيينات

تغييرات كثيرة شهدتها ساحة الموضة هذا العام، كانت من بينها إقالات واستقالات، وبالنتيجة تعيينات جديدة نذكر منها:

جميلة حلفيشي (لندن)

ميغان ماركل وكايلي جينر والصراع على المرتبة الأولى

بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)
بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)
TT

ميغان ماركل وكايلي جينر والصراع على المرتبة الأولى

بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)
بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)

ما الذي يمكن أن يجمع دوقة ساسكس، ميغان ماركل وكايلي جينر، صُغرى الأخوات كارداشيان؟ فالأولى ترتبط بالعائلة المالكة البريطانية بحكم زواجها من الأمير هاري، والثانية تنتمي إلى عائلة بَنَتْ شهرتها على تلفزيون الواقع. خبراء الموضة يجيبون بأن هناك فعلاً مجموعة من القواسم المُشتركة بينهما؛ فإلى جانب الجدل الذي تثيرانه لدى كل ظهور لإحداهما، بسبب ما تُمثلانه من ثقافة يرفضها بعض الناس ويدعمها بعضهم الآخر، فإن تأثيرهما على صناعة الموضة من الحقائق التي لا يختلف عليها اثنان. ما تلبسه ميغان يتصدر العناوين وصفحات المجلات البراقة وقد ينفد من المحلات، وما تنشره كايلي جينر على صفحاتها ينتشر انتشار النار في الهشيم، في دقائق، ويلهب رغبة متابعاتها في الشراء.

كايلي في فستان «فريز» من «غالفان» (خاص) وميغان في حفل بلوس أنجليس (أ.ب)

وهذا ما يجعل المصممين لا يمانعون ظهورهما بتصاميمهم، بغض النظر عما إذا اتفقوا مع الثقافة التي ترتبط بهما أم لا، على أساس أنه مهما وصلت نسبة الجدل والانتقادات؛ فهي نافعة تعود عليهم بالربح. أو، على أقل تقدير، تسلِّط الضوء عليهم.

في عام 2018، ظهرت كل منهما بفستان مستوحى من «التوكسيدو» باللون نفسه، ومن الماركة النيوزيلندية نفسها، ماغي مارلين. ظهرت به ماركل في زيارتها الرسمية لأستراليا ونيوزيلندا رفقة زوجها الأمير هاري، من دون أكمام، بعد أن طلبت من المصممة تعديله خصيصاً لها. كايلي، وبعد مدة قصيرة، ارتدته كما هو بأكمام، الأمر الذي يشي بأنها اشترته جاهزاً. في الحالتين، أسعدتا المصممة ماغي هيويت، التي تغنَّت بهما على صفحتها بالصورتين معبرة عن إعجابها بالشخصيتين؛ خصوصاً أن المبيعات زادت بشكل ملحوظ.

الجانب التجاري

لكن هناك أيضاً اختلافات بينهما؛ فكايلي تستفيد مادياً وترويجياً، لأنها تتلقى مبالغ طائلة لقاء منشور واحد، على العكس من ميغان التي لا تستطيع ذلك، لحد الآن على الأقل، لدواعي الحفاظ على صورة راقية تعكس لقبها كدوقة بريطانية، مع العلم بأن هذا اللقب لم يمنعها من دخول مضمار أعمال تجارية لم تحقق النجاح الذي تطمح إليه.

تغريدة واحدة من كايلي جينر تحقق ما لا يحققه عرض بكامله من ناحية تسليط الأضواء (رويترز)

في المقابل، فإن كايلي جينر، ورغم سنها الغضة، تجاوزت في فترة من الفترات حاجز المليار دولار لتُصبح واحدة من أصغر سيدات الأعمال بفضل علامتها «كاي (KHY)» لمستحضرات التجميل والعناية بالبشرة. أكدت، منذ بدايتها، أن الحس التجاري يجري في دمها؛ إذ شقت لنفسها خطأً مختلفاً عن أخواتها، ربما لأنها كانت تعرف أن منافستهن صعبة. ما نجحت فيه أنها استغلَّت اسم العائلة وشهرة أخواتها لتخاطب بنات جيلها بلغة تُدغدغ أحلامهن وطموحاتهن. وسرعان ما أصبحت نجمة قائمة بذاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. تغريدة واحدة منها يمكن أن تغير مسار علامة تماماً.

زِيّ من ماركة «ألتوزارا» الأميركية ظهرت بها خلال مناسبة خاصة بالصحة النفسية والعقل اعتبره كثيرون غير مناسب للمكان والزمان (رويترز)

ميغان ماركل، رغم استثماراتها ومغازلتها صُنَّاع الموضة، لا تزال تستمد بريق صورتها من ارتباطها بالأمير هاري. على المستوى الربحي، لم تنجح في أن تنتقل من رتبة مؤثرة إلى درجة سيدة أعمال، كما لم تنجح في كسب كل القلوب، وهذا ما يجعل شريحة مهمة ترفض وصفها بأيقونة موضة، وتصف اختياراتها بـ«غير الموفقة». هذه الشريحة تستشهد إما بارتدائها تصاميم بمقاسات أكبر أو أصغر من مقاسها الحقيقي، أو تصاميم من ماركات عالمية لا تناسب شكلها أو طولها، وهلمّ جرّا.

ميغان ماركل رغم تأثيرها تثير كثيراً من الجدل بين رافض ومعجب (كارولينا هيريرا)

بيد أن قوتها، بالنسبة للمعجبات بها، كانت، ولا تزال، تكمن في عيوبها؛ فلأنها لا تتمتع بمقاييس عارضات الأزياء، ولا تشبه «كنَّتها»، أميرة ويلز، كاثرين، رشاقةً وطولاً، فإنها تُعبِّر عنهن. كل فتاة أو امرأة، بغض النظر عن عيوبها ومقاييسها، ترى نفسها في إطلالاتها. فعندما ظهرت بصندل من شركة «كاستنر» الإسبانية مثلاً ارتفعت مبيعاتها بنسبة 44 في المائة مباشرة، لأنها خاطبت شرائح من الطبقات المتوسطة، نظراً لأسعارها المعقولة. علامات محلية كثيرة لم تكن معروفة اكتسبت عالمية بمجرد أن ظهرت بها، لا سيما في السنوات الأولى من زواجها، حين كانت بالنسبة للبعض بمثابة «سندريلا» معاصرة. ساهمت أيضاً في تسليط الضوء على علامة «Club Monaco»، بعد ظهورها بفستان مستوحى من القميص، أي بإزار من الصدر إلى الأسفل، حين ظهرت به أول مرة خلال زيارتها الرسمية لجنوب أفريقيا.

لم يكن التصميم ثورياً أو جديداً، لكنه فتح عيون المرأة عليه، ليزيد الإقبال عليه بنسبة 45 في المائة وينفذ من الأسواق خلال 24 ساعة. كان لها نفس التأثير الإيجابي على علامات مثل «جي كرو» و«جيفنشي» و«ستيلا ماكارتني» وغيرهم. منصة «ليست»، وهي أيضاً شركة تسوُّق أزياء عالمية تربط العملاء بتجار تجزئة الأزياء رشحتها «كأهم مؤثرة لعام 2018». بيد أن تأثيرها ظلَّ مستمراً حتى بعد خروجها من المؤسسة البريطانية في عام 2020، وإن خفَّ وهج صورتها بعض الشيء.

البحث عن الجاكيت الذي ظهرت به ميغان في ألمانيا لدى حضورها ألعاب «إنفيكتوس» عطل موقع «جي كرو» (رويترز)

موقع «جي كرو» مثلاً تعطَّل في سبتمبر (أيلول) 2023، بسبب البحث عن سترة بيضاء ظهرت بها لدى مرافقتها زوجها، الأمير هاري، إلى ألمانيا، لحضور ألعاب «إنفيكتوس».

ولأنها باتت تَعرِف قوة تأثيرها على الموضة، استثمرت مؤخراً في علامة «سيستا كوليكتيف»، وهي علامة حقائب تصنعها نساء من رواندا، وتكتمل تفاصيلها في إيطاليا، لتحمل صفة «صُنع باليد». قالت إنها اكتشفتها بالصدفة وهي تقوم بعملية بحث عبر الإنترنت على حقائب مستدامة. ظهرت بالحقيبة أول مرة في مايو (أيار) من عام 2023 لدى حضورها حفل عشاء مع كل من غوينيث بالترو وكاميرون دياز في لوس أنجليس.

عروض الأزياء العالمية

ومع ذلك، لم نرَ ميغان ماركل بأي عرض أزياء في نيويورك أو في باريس أو ميلانو حتى الآن، باستثناء حضورها في عام 2018 حفل توزيع جوائز الموضة البريطانية ضيفةَ شرفٍ لتقديم جائزة العام لمصممة فستان زفافها، كلير وايت كيلر، التي كانت مصممة «جيفنشي» آنذاك. لكن كان هذا حفلاً وليس عرض أزياء.

اختتمت عرض «كوبرني» كسندريلا في فستان من التافتا أسود (رويترز)

كايلي جينر، ورغم رفض الثقافة التي تمثلها هي وأخواتها من قبل شريحة مهمة، أصبحت في السنوات الأخيرة وجهاً مألوفاً في عروض باريس. تُستقبل فيها استقبال نجمات الصف الأول. في الموسم الماضي، وخلال «أسبوع باريس لربيع وصيف 2025»، سجَّلَت في 3 ظهورات لها فقط ما يوازي ما قيمته أكثر من 20.3 مليون دولار، حسب بيانات «إنستغرام» وحده، إذا أخذنا أن «لايك» واحداً يساوي دولاراً.

لهذا ليس غريباً أن يتهافت عليها المصممون. نعم، هي مثيرة للجدل وأسلوبها لا يروق لكل الزبونات، لكنها في آخر المطاف توفر المطلوب من ناحية تسليط الضوء عليهم. ففي عالم الموضة والتجارة «أي دعاية حتى وإن كانت سلبية هي دعاية مجدية وأفضل من لا شيء». لم يقتصر حضورها في الموسم الباريسي ضيفةً فحسب، بل عارضة في عرض «كوبرني» المستلهم من عالم «ديزني». كانت هي مَن اختتمته في فستان من التافتا بإيحاءات قوطية تستحضر صورة «سندريلا».

تأثير إيجابي

3 مقاطع فقط من فيديو العرض، ولقطات من خلف الكواليس حققت 14.4 مليون مشاهدة؛ ما جعل علامة «كوبرني» تحقق 66 في المائة من إجمالي قيمة التأثير الإعلامي. كانت مشاركتها مخاطرة، لكنها أعطت ثماراً جيدة حسب تصريح الدار. تجدر الإشارة إلى أن «كوبرني» لمست تأثيرها القوي في عام 2022، عندما ظهرت في دعاية لمستحضرات التجميل الخاصة بها، وهي تحمل حقيبة من «كوبرني». ما إن نُشرت الصور، حتى زادت مبيعات الحقيبة بشكل كبير. في عرض الدار لخريف وشتاء 2023. لم تتمكن كايلي من الحضور إلى باريس، لكنها لم تغب؛ إذ نشرت صورة لها في زي من التشكيلة المعروضة، شاهدها الملايين من متابعيها، وحقَّقت ما لم يحققه العرض بالكامل من ناحية المشاهدات و«اللايكات».

كايلي جينر لدى حضورها عرض «سكاباريلي» بباريس (سكاباريلي)

وإذا كان الشك لا يزال يراود البعض على مدى تأثيرها على أساس أن علامة «كوبرني» لها شعبيتها الخاصة التي تستمدها من قدرة مصمميها على الإبداع وخلق الإثارة المسرحية أمام الضيوف، فإن تأثيرها الإيجابي على علامة «أتلين» الفرنسية الناشئة تُفند هذه الشكوك. وجودها في عرضها لربيع وصيف 2025 كان له مفعول السحر؛ حيث حققت لها ما يوازي 11.6 مليون دولار من المشاهدات واللايكات. طبعاً لا ننسى حضورها عرض «سكاباريلي» بتصميمٍ أثار انتباه العالم لغرابته وسرياليته.

رغم محاولاتها أن تُصبح أيقونة موضة لا تزال ميغان تستمد بريقها وقوة تأثيرها من ارتباطها بالأمير هاري (أ.ف.ب)

«كايلي» لا تقوم بأي حركة أو فعل من دون مقابل. حتى عندما تختار علامات ناشئة للتعاون مع علامتها الخاصة «كاي (Khy)»؛ فهي تؤمن بأنه لا شيء بالمجان. وهذا تحديداً ما يجعلها تتفوق على ميغان ماركل من ناحية التأثير التجاري حسب الأرقام والخوارزميات. الفضل يعود أيضاً إلى نجاحها في استقطاب شريحة مهمة من بنات جيلها تخاطبهن بلغة تُدغدغ أحلامهن. ماركل في المقابل لم تنجح لحد الآن في الخروج من جلباب لقبها كدوقة ساسكس.