بلغ هوس تأليف قوائم بما هو أفضل أفلام السنة إلى حد أن البعض (كما الحال في مواقع محترمة مثل «التايم» و«الغارديان»)، أخذ ينشر قوائمه هذه في منتصف السنة تحت عنوان «أفضل أفلام 2019 حتى الآن».
«حتى الآن» لا تعني أي واقع، ولا تفضي إلى شيء. هي نظرة سريعة تريد أن تستبق المسافات لتعلن ما كان مميّزاً حتى شهر يونيو (حزيران)، على أن يعود أصحابها لنشر قائمة أخرى مع نهاية السنة قد تحتوي على بعض ما سبق نشره وتلغي - بالتالي - الكثير من الأحكام التي وردت.
التقليد السنوي في مثل هذه الأيام هو المجزي صحافياً لهواة السينما والإعلاميين والمتابعين. لكنّ قيمته تزداد إذا ما وردت في مقال شامل يذكر توجهات وتيارات السينما وأياً مِن أفلام العام انتمى إلى كل منها، ثم لماذا هو متميز أو ذو أفضلية على سواه.
لتحقيق هذه الغاية لا بد أن يكون الناقد (أو أي من يدلي بدلوه)، قد شاهد أكثر من 200 فيلم (هذا الناقد شاهد حتى الآن 360 فيلما جديدا)، واعترف بما لم يشاهده إذا ما كان جلياً انتماؤه إلى مخرج جيد أو إلى تلك الأفلام التي عرضت خارج نطاق المهرجانات الكبيرة مما لم يصل إليه نظره بعد.
كذلك، من الأفضل أن تتجاوز نظرته (وبالتالي تقييماته) المنظور الجاهز، فتشمل أفلام المهرجانات كما الأفلام التي لا موزّع لها داخل بلده.
يبلغ المتوسط السنوي لما تعرضه صالات السينما في مدن همّها ثقافي، مثل نيويورك أو باريس أو سان فرانسيسكو، 750 إلى 900 فيلم من كل الأصناف والأنواع والتيارات والأحجام (عدد الأفلام التي عرضت في مدينة نيويورك حتى منتصف الشهر الحالي 802 فيلم).
ومجلة «فيلم كومنت» الأميركية أقدمت هذا العام على تشكيل قائمتين: واحدة لأفضل 20 فيلما (حسب تصويت نقادها) والثانية لأفضل 20 فيلما مما لم يُوزع تجارياً بعد (حسب تصويت نقادها أيضاً).
تقييم مجلة «سايت أند ساوند» كان أقل فاعلية، إذ جنحت صوب اختيار 50 فيلما اعتبرها نقادها ونقاد آخرون انضموا للإحصاء، الأفضل بين ما عُرض في هذه السنة. بذلك لم تعد لائحة تقوم على تحديد صعب للحسنات وحدّة الاختيارات، بل أقرب إلى بساط أحمر تمشي عليه الأفلام كلها.
- صعود وهبوط
على ذكر البساط الأحمر، لا بد من القول إنّ المنافسة بين المهرجانات التي تكمن في الصّف الأول وتلك التي تليها، اعتمدت البساط الأحمر كدليل عنفوان وقدرة على استقطاب المشاهير. وبما أنّ المهرجانات تتناسخ هذا الوضع وتجعل من كل حفلة عرض مناسبة حدثية (خصوصاً حفلتي الافتتاح والختام)، لكي يستعرض «نجوم» السينما بذلاتهم وفساتينهم ومجوهراتهم وتصاميم الشعر التي اعتمدوها للمناسبة، فإنّ الفائدة المجنية في غالبية المهرجانات هي لجمهور التلفزيون الذي يتابع من الخارج الواردين إلى الداخل. المستفيد الثاني هو المهرجان الذي يريد أن يتباهى بمن حضر. والثالث، الممثلون والممثلات والمدعوون المميزون الذين سيظهرون على شاشة التلفزيون مباركين الحدث ومتحدثين عن ملابسهم بنفس البهجة التي يتحدثون بها عن الأفلام التي لم يشاهدوها.
ذهبت أيام التواضع عندما كان المهرجان هو المقصد بحد ذاته وحفل الختام لا يأخذ من نصيب الفيلم الذي سيعرض. وكذلك ذهبت أيام كان الجمهور يبقى في الصالة لحضور فيلم الختام عوض الهرب منه للقيام بسباقه الخاص: التوجه إلى حفل العشاء قبل سواه.
المهرجانات العربية الكبيرة (الجونة، القاهرة، أيام قرطاج السينمائية، مراكش) تعتمد هذا الأسلوب الاستعراضي وتطرح على الوافدين الأسئلة ذاتها التي تُطرح على الوافدين لحضور حفل الغولدن غلوبز أو الأوسكار. هذا إفلاس فني في الوقت الذي يعكس بالطبع حاجة إعلامية. وإذا حكمنا على المحتفى بهم في هذا الحفل أو ذاك فإنّ التباعد بين ما يعنيه الحدث السينمائي وبين ما تعنيه حفلات البساط الأحمر يصبح نوعاً من التناقض الذي يمشي على خطين متوازيين.
مهرجانات السينما هي مثل نجوم الفن السابع أيضاً. تعيش سنوات وتتراجع بعد ذلك لما يجعل من الصعب عودتها إلى المصاف الأول. هذا باستثناء بضعة مهرجانات ما يزال أمدُ نجوميتها متوالياً منذ عقود ولا يبدو أنّه سيذبل في المنظور القريب.
في السبعينات مثلاً، كان المهرجان الأول في الولايات المتحدة هو شيكاغو ينافسه سان فرانسيسكو. حالياً شيكاغو بات متوارياً. حظ سان فرانسيسكو أفضل بقليل لكنّه خارج حلبة العشرة الأولى بمسافة لا بأس به.
في السابق لم يكن مهرجان لندن حدثا فعليا بل كان يبدو فائضاً عن الحاجة، كون أفلامه هي تجميع لأفلام مهرجانات أخرى. الآن ارتفع مستواه بين المهرجانات المقامة وإن لم يدخل فعلياً قائمة العشرة الأولى. مهرجان موسكو تراجع ومهرجان كارلوڤي ڤاري الذي كان يُقام بالتناوب مع مهرجان موسكو تقدّم. سان سابستيان كان ندّاً لمهرجان «كان». الآن أصبح مهرجاناً كبيراً وكفى.
- جولات على المهرجانات
تبدأ مهرجانات الصف الأول العالمية دوراتها بمهرجان «صندانس» المتخصص بعرض الأفلام المستقلة في أربع مسابقات أساسية: أفضل تسجيلي محلي وأفضل تسجيلي عالمي وأفضل روائي محلي وأفضل روائي عالمي.
من بين 16 فيلما شهدتها مسابقة «أفضل تسجيلي أميركي» هذا العام فاز «أمة الطفل الواحد» (إخراج جيالينغ جانغ ونانفو وانغ). وهو فتح عين على سياسة الصين المتبعة منذ سنوات والتي لا تسمح لأي عائلة بإنجاب أكثر من ولد واحد. لكن هذا الفيلم، على جودته المحدودة، لم يبق في البال طويلاً، ومن بين كل أفلام هذه المسابقة هناك عملان فقط يبدوان أكثر نشاطاً في موسم الجوائز الحالي هما «أميركان فاكتوري» لستيڤن بوغنار وجوليا رايشرت و«أبوللو 11» لتود دوغلاس ميلر.
الأفلام التسجيلية التي أُدرجت في نطاق العروض العالمية فاز عنها «هنيلاند» (Honeyland) لتمارا كوتيڤسكا وليوبمير ستيفانوڤ. هو من إنتاج ماسادونيا، ويدور حول محاولة خديجة مرادودڤا حماية النحل من الانقراض. هذه المسابقة دائماً ما تعرض أفلاما لها علاقة بوضع العربي أو الآسيوي وهذه السنة لم تكن لتختلف: الأفغانستاني حسن فضيلي انصرف لتحقيق فيلم حول فراره وعائلته من حكم «طالبان» عليه بالموت، والفيلم الآيرلندي «غزة» (إخراج غاري كين وأندرو مكّونل) دار في رحى الحياة اليومية للغزاويين ناقلاً صورة فعلية عن أبناء ذلك القطاع العاديين.
معظم ما عرضه مهرجان صندانس هذا العام في القسم الروائي الأميركي لم يشهد عرضه التجاري بعد، وهذا ليس غريباً، لكن ما نفذ منها إلى شبكة العروض لافت: «الوداع» للولو وانغ (عائلية صينية أميركية تلتف حول الجدة التي لا تعلم أن حياتها أزفت على الانتهاء) و«آخر رجل أسود في سان فرانسيسكو» لجو تالبوت، وهذا نجده على قوائم عدد من النقاد في إحصاءات آخر السنة.
أما الدراما العالمية فتمثّلت باثني عشر فيلما فاز منها «التذكار» لجوانا هوغ الذي لم يستطع تحويل هذا الفوز إلى نجاح تجاري. لكنه ليس وحيداً بين أفلام مسابقة صندانس في هذا القسم، إذ إنّ باقي الأفلام أنجزت حضوراً خجولاً بعد عروضها هناك.
المحطة الثانية بين أهم المهرجانات العالمية هي برلين والمسابقة احتوت على عدد مهم من الأفلام الجيدة، لكن الكثير منها غاب عن الظهور لاحقاً. من بين من لم تسطع عليه الشمس «القفازات الخضر» للتركي - الألماني فاتح أكن و«مستر جونز» للبولندية أنجيسكا هولاند و«إليسا ومارسلا» لإيزابل كواكست (إسبانيا) كذلك «لطف الغرباء» للوني شرفيغ (دنمارك). ليس أنّ هذه الأفلام تعاني من مشكلات منعتها من اجتياز العرض الأول صوب صالات السينما الأوروبية (بعضها فعل) لكنّها لم تحظ بكثير من الاهتمام كيفما اتجهت.
الفيلم الذي فاز في برلين كان فرنسياً - إسرائيلياً بعنوان «مرادفات» (Synonyms) لنداڤ لابيد. ليس أفضل الموجود، لكنّه أحد أكثرها ابتكاراً على صعيد تنفيذ رؤية المخرج الخاصة بكيفية صياغة المضمون. والمضمون كان نقداً لاذعاً للعقلية الإسرائيلية لكن من دون أن يصب في صالح المسألة الفلسطينية.
لكن «مرادفات» لم يذهب بعيداً إثر برلين، والجائزة لم تترك أثراً إعلامياً كبيراً حتى عندما أخذ يُعرض تجارياً وفي مهرجانات أخرى. هذا على عكس «طفيلي» للكوري بونغ دجون - هو، الذي ساقه مهرجان «كان» بين أفلام مسابقته الأخيرة ومنحه جائزته الذهبية.
بعد «كان» توجّه هذا الفيلم الكوري صوب عروض تجارية ومهرجاناتية ناجحة. حسب IMDb.pro فاز بـ64 جائزة ورُشح وما يزال في 80 منافسة أخرى. معظم نجاحاته هذه معنوية (كجوائز النقاد).
«فطري» هذه السنة مثل ما كان عليه «روما» في السنة الماضية. فيلم ألفونسو كوارون انتقل من نجاح لآخر ما نتج عنه 224 جائزة (منها ثلاثة أوسكارات) و196 ترشيحاً آخر. لكن ذلك الحجم لن يوازيه «طفيلي» أو - على الأرجح - أي فيلم آخر في المنظور القريب.
كانت هناك أفلام لافتة، بل جيدة، أخرى في سباق «كان» هذه السنة تناولناها في تقاريرنا من هناك: «البؤساء» الفرنسي (إخراج لادج لي) و«ذات مرّة في هوليوود» لكونتن تارنتينو و«حياة مخفية» لترنس مالك. كذلك «آسف، افتقدناك» لكن لوتش و«ألم ومجد». كما كان هناك فيلم إيليا سليمان «لا بد أنها الجنة» الذي لم ينجز الاهتمام ذاته الذي حققته أفلامه السابقة ولو أنّه لم يقل ابتكاراً عن فيلم نداڤ لابيد.
كل من «ذات مرة في هوليوود» و«حياة مخفية» ذهبا في درب مختلف. فيلم تارنتينو توالت نجاحاته بعد «كان»، أمّا فيلم ترنس مالك فتحول إلى واحدة من أيقوناته التي لا تُقدّر حقّ قدرها.
أسوأ ما عرضه المهرجان كان «مكتوب، حبي: إنترميتزو» لعبد اللطيف كشيش و«أحمد الشاب» للبلجيكيين جان - بير ولوك داردين (نال جائزة أفضل إخراج!).
ما بين «كان» و«فنيسيا» لمع مهرجانا «لوكارنو السويسري» و«كارلوڤي ڤاري»، وبضعة مهرجانات من الصفين الثاني والثالث. لكن مع «فنيسيا» وصلنا، كما الحال كل سنة، إلى آخر واحدة من المحطات الكبيرة. في العام الحالي، كما في العامين السابقين، منح هذا المهرجان الإيطالي حاضريه بعض أفضل ما عرفته السينما من أفلام، وتميّز عن برلين وكان بكثرة عددها أيضاً. فاز «جوكر» بجائزة أفضل فيلم، وهو يستحق من نواحٍ كثيرة، لكن ليس من كل النواحي، وشوهد بتقدير عالٍ «أد أسترا» لجيمس غراي و«عن اللانهاية» لروي أندرسن و«إيمان» لبابلو لاران و«بانتظار البرابرة» لشيرو غويرا. أيضاً «حكاية زواج» للأميركي نوا بومباك الذي يتردّد اسمه حالياً بين تلك الأفلام المنتخبة على قوائم النقاد.
هناك أفلام جيدة لم يشملها التقدير الذي تستحقه، ومنها «الغسالة» لستيڤن سودربيرغ و«الحقيقة» للياباني هيروكازا كوريدا و«ضابط وجاسوس» لرومان بولانسكي الذي غلبت عليه الضجة الإعلامية أكثر مما أحاطت به التقييمات النقدية.
- الحصيلة
في الحصيلة النقدية الغربية تمتزج هذه الأفلام بتلك التي لم تُعرض في مهرجانات مماثلة أو ربما شهدت عروضها الأولى في مهرجانات محلية وشبه محلية مثل توليورايد وتورونتو ونيويورك. قائمة مجلة «فيلم كومنت» مثلاً تحتوي على ثمانية أفلام فقط من تلك التي عرضتها المهرجانات الثلاث المذكورة أعلاه. الاثنا عشر فيلماً الباقية عرضت تجارياً أو في مهرجانات ضمن القارة الأميركية.
وهناك من القوائم المنتشرة على «النت» حالياً ما هو أميركي في غالبيته، ونلحظ ذلك بالنسبة للبلدان التي سنحت لها فرص مشاهدة الأفلام التي تسلّلت إليها من الشرق أو الغرب (الصين، كوريا، تايلاند الخ…)؛ حيث تمتزج الأفلام الأميركية بأخرى أوروبية وآسيوية امتزاجاً جيداً.
عربياً، ما يصدر من قوائم على المواقع ينتمي في غالبيته، إلى أذواق وآراء. هذا طبيعي ما دامت حرية الفيسبوك تسمح بتعدد الآراء ومصادرها المعرفية. نقدياً، ينحصر الحديث هنا عن تفضيلات هذا الناقد وأسبابها مع ذكر أفلام سقطت من هذا الجدول. بالتالي هي ليست قائمة واحدة تشمل كل ما رآه الناقد مستحقاً، بل قُسّمت إلى ثلاث فئات، ما يساعد على تحديد قيمتها من دون مقارنات صعبة بين ثقافات وصناعات مختلفة.