شاب من غزة يكسر احتكار النساء مهنة التطريز

طموح سليمان أبو طعيمة المشاركة في معارض محلية ودولية

TT

شاب من غزة يكسر احتكار النساء مهنة التطريز

ساعات طويلة يقضيها سليمان أبو طعيمة (24 سنة)، داخل متجره الصّغير الذي يختص ببيع المشغولات اليدوية ومستلزماتها، في محاولة منه لإتمام صنعِ ثوبٍ فلسطيني فلاحي، أخذ تفاصيل رسوماته من ثوبٍ قديم كانت تلبسه جدته. يقطع عمله لدى دخول شابة تسأله عن توّفر خيوط صوفٍ زرقاء اللون لديه. يلبّي طلبها ويعود ليكمل حديثه، وبنبرة المتفائل يقول: «أخذت وقتاً طويلاً لأصل لهذه المرحلة». ويقصد هنا الاعتيادية في تعامل الناس مع رجل يشتغل في مهنة التطريز.
يعيش الشابّ في منطقة ريفية تُسمى الفخاري، تقع شرق محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، في ظلّ بيئة حياتية تقليدية تفرض على الرجل العمل في الزراعة والأعمال البدنية، بينما تُمنح المرأة فرصة المكوث داخل البيت والعمل في المهن البسيطة الشبيهة مثل الخياطة إن أرادت، وما فعله أبو طعيمة خلال السنوات الماضية، هو قلب تلك المفاهيم والأنماط التي اعتاد الجميع عليها، كما يروي في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط».
ومنذ نعومة أظافره، لم يمل أبو طعيمة من مراقبة أمه التي كانت تجيد باحتراف حياكة الصّوف والتطريز، وفي كثير من الأوقات كان يجلس على مقربة منها طالباً التعلّم، وهي تلبّي بكلّ سرور. ويردف: «كانت تمنحي الثّقة وتحفزني على التدّرب من خلال إهدائي بعض القطع والخيوط، لتطلب منّي فيما بعد، صنع أشكال معينة فيها، وكنت أخطأ في البداية وهي تصوّب لي».
متعة كبيرة وجدها سليمان في فن التطريز، دفعته للانتقال بعد سنوات لتعلّم غزل الصوف والخياطة بمختلف أنواعها، وأصبح يصنع كلّ ما يُطلب منه من قطعٍ قماشية من دون ترددٍ، وباحترافية لا تقل عن تلك التي تنتج عن شغل والدته والنساء الأخريات، وفقاً لقوله.
منوهاً إلى أنّ الأمر مع الوقت تحوّل إلى مصدر دخلٍ، خاصّة في ظلّ حالة الحصار الإسرائيلي التي يعيشها أهل قطاع غزة منذ أكثر من 10 سنوات.
الجدير ذكره، أنّ معدل الفقر في قطاع غزة وصل إلى 75 في المائة، وفقاً لآخر البيانات الصّادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية. ويعتمد أكثر من 80 في المائة من الأسر الغزّية على المساعدات، ووصلت نسبة البطالة في القطاع حسب آخر إحصاءات مركز الإحصاء الفلسطيني إلى 53 في المائة، وبلغت في صفوف الشباب نحو 67 في المائة.
ويصنع الشاب من خلال خيوط التطريز والخرز والصوف، محافظ للنقود وصواني تقديم مزخرفة، وقطع سجاد وأنتيكا صغيرة، كما أنّه ينتج أساور اليد النسائية والمسابح الرّجالية وأغطية الأحذية، ويعرض تلك المنتجات على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي التي يزداد بصورة دائمة عدد المتابعين المعجبين بأعماله عليها، وفي متجره الخاص كذلك.
وخلال العدوان الذي شنته إسرائيل على غزة عام 2014، واستمر حينذاك لأكثر من 50 يوماً، عاش الشاب خلالها برفقة أسرته حياة النزوح في المدارس التابعة لوكالة الغوث الدولية «الأونروا»، وأخذه التفكير كثيراً لكيفية استثمار وقته في عملٍ ينسيه صور الحرب والدمار، فقرّر أخيراً اللجوء للتطريز الذي وفرّ له مساحة حرّة في تشكيل كل ما جال في باله.
استغل سليمان، ساعات هدنة قليلة كانت قد أُعلنت برعاية أميمة وقت الحرب، وراح ناحية بيته وأحضر معدات التطريز والخيوط وما يلزمه لصناعة المشغولات اليدوية، ويوضح أنّه بدأ العمل في ساحة المدرسة، وكان جلوسه على كرسي لساعاتٍ طويلة لافتاً لكثيرين، وواجه انتقادات عدّة، أبرزها اتهامه بغياب المشاعر وعدم الاكتراث بدماء الضحايا، مضيفاً أنّه كان يرد على ذلك بقوله: «كلُّ منا يقاوم على طريقته، وإصراري على الحياة هو مقاومة».
بعد مرور وقت، صار سليمان معروفاً لدى النازحين في المدارس، واختلفت النظرة إليه بعدما بدأ عدد من الفتيات التجمّع حوله، لطلب تعلّم فنون التطريز والخياطة اليدوية. ويذكر أنّه قابل ذلك بسرورٍ وشرع في تدريب بعضهن، واستعان بوالدته أيضاً لأجل ذلك، ولا سيما أن بعض الناس وجهوا انتقادات لفكرة «كثرة اختلاطه بالفتيات».
حتّى هذه اللحظة علّم الشّاب بشكلٍ أساسي أكثر من 15 فتاة يسكنّ بلدته الحدودية فن التطريز، ومن خلاله أصبح لدى بعضهن مصادر دخل.
ويلفت إلى أنّه افتتح متجره الخاص خلال هذا العام بمساندة من أمه وخطيبته، اللتين يساعدانه كثيراً في إنجاز بعض الأعمال، موضحاً أنّه يطمح للمشاركة في معارض محلية ودولية تهتم بالتطريز، لكي يُثبت للجميع أنّ هذا المجال ليس حكراً على النساء فقط.



التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
TT

التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)

كانت على الدوام فنانة، تتمدَّد كمَن يُراقب الكون، وتحلُم. ألحَّ شعورٌ بالانسلاخ عن العالم والبحث المرير عن شيء مفقود تُطارده ويهرُب. فضَّلت التشكيلية اللبنانية زينة الخليل العزلة. طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر: «مَن أنا وما معنى الحياة؟». تعجَّبت لانشغال رفاق الصفّ باللعب دون سيطرة الهَمّ. «لِمَ يلهون ولا ألهو؟»، تساءلت. تأمّلت من دون أن تدري ماهية التأمُّل، وفكَّرت في الوجود من دون علمها بأنها الفلسفة.

ولمَّا رسمت؛ فوجئت: «آه، إنني أرسم! لا أدري كيف ولكنني أرسم! أستطيع نقل الأشياء إلى الورق. ذلك يُشعرني ببهجة». الرسم ضمَّد جراح العقل. وجَّه طاقتها نحو شيء آخر غير البحث المُنهك عن شرح. ومن هنا بدأت.

من التأمُّل والتفكير في الوجود رسمت للمرة الأولى (زينة الخليل)

تُخبر الفنانة زينة الخليل المقيمة في لندن «الشرق الأوسط» أنّ نشأتها في أفريقيا أتاحت الوقت الكافي للتفكير. شدَّتها الطبيعة، وراحت تشعر برابط بين الجسد الإنساني والأرض. وبالصلة بين جبّارين: الروح والتراب. تقول: «عبر النجوم والأشجار، حدث اتصالي مع الوجود. بالتأمّل والرسم، كتبتُ الفصل الأول من حياتي».

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي (زينة الخليل)

عام 1994 عادت إلى لبنان. كانت مدافع الحرب الأهلية قد هدأت، مُتسبِّبةً بعطوب وبرك دم: «كنتُ في الـ18 حين شعرتُ بأنّ شيئاً يجرُّني للعودة ويقذفني نحو بلدي المُثقل. أتيتُ وحيدةً، وعائلتي في نيجيريا. اليوم أتفهّم عمق العلاقة بالأرض والطاقة. تلك التي لاحت في الطفولة ولم أستقرّ على تعريف لها. جسَّدها شعور تجاه صخرة أو شجرة أو ورقة تتساقط. الصوت الذي ناداني للعودة، سمعتُه جيداً. لم أقوَ على صدِّه. ورغم هواجس العيش على أرض هشَّمتها الحرب، اخترتُ المجيء».

طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر وألهمها الرسم (زينة الخليل)

الفنّ عند زينة الخليل ليس للنفس فقط، وإنما للآخرين. وفي وقت واجهت التجارب القاسية في بلد شهد عقدين من احتدام المعارك، شعرت، بكونها امرأة، بالاعتداء المستمرّ عليها. مسلّحون يتجوّلون ومظاهر تفلُّت. ذلك يفسِّر ميل أعمالها المُبكرة إلى «النسوية المُفرطة»: «أردتُ إيجاد مكاني بوصفي امرأة والنضال للشعور بالأمان. لم أجسِّد الحركة النسوية المألوفة التي شهدتها أوروبا وأميركا آنذاك. مواجهة الميليشيا والإحساس بالخطر الفردي جعلا نسويتي تتجاوز حيّزها. راحت أعمالي تنتقد الحرب والأسلحة. وضعتُ فنّي بمواجهة هذه الإشكالية: هل حقاً يحتاج الإنسان إلى سلاح لإثبات نفسه؟».

الرسم ضمَّد جراح العقل (زينة الخليل)

ولمحت مُحرِّك العنف ومؤجِّجه: «البشر والدول يتقاتلون حول الموارد والثروات. العناوين الأخرى، منها الأديان، ذريعة. أدخلتُ مادة البلاستيك في أعمالي لإدراكي قوة العلاقة بين المُستهلك والمعركة. البلاستيك مصنوع من النفط، والنفط يُشعل الحروب. تجرَّد الإنسان من الحسِّ وأصبح العالم مُجمَّعاً تجارياً ضخماً. بتبنّي (الكيتش) في الرسم، سجّلتُ موقفي ضدّ تغليب القوة والحلول السريعة على وَضع استراتيجيات السلام. طغى اللون الزهريّ على رسومي مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى. شكَّل فنّي محاكاة للعبة الباربي بصورتها النمطية وما مثّلته من سطحية وانعدام العمق».

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة (زينة الخليل)

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة. لسنوات واصلت الفنانة تبنّي هذا الأسلوب وبه عرفت. وباندلاع حرب 2006 في لبنان، تحوَّلت إلى تدوين الأحداث، وإنما الرغبة بمواصلة الرسم تأجَّجت: «دوري ناشطةً ومدوّنةً لم يُشبع نهمي. وذات يوم، عشتُ تجربة صوفية لا أملك شرحها. كأنني عدتُ إلى زينة في أفريقيا والرابط بين الوجود والإنسان. البعض يسمّيه النداء الروحي. فجأة، لم يعُد عالم المادة مهماً، وشعرتُ بحبل في داخلي يُقطَع. غمرني الشعور بألم الأرض، فلم أجد منزلاً لي. مسقطا أمي وأبي، كلاهما تألّم بتداعيات الحروب. سمعتُ نداء الأرض: (تعالي لنُشفى معاً!). كأنني كنتُ أتعرّف إلى وجعي من أوجاعها. كان نداء عميقاً. أمضيتُ الوقت في تلمُّس التراب. شعوري بأنني لستُ في منزل؛ لا أنتمي، ولا أعرف مَن أنا، جرَّ فنّي إلى مكان آخر. رسمتُ ولم أدرك ماذا أرسم. أجريتُ مراسم لشفاء الأرض، فأشعلتُ النار من أجلها ورفعتُ الصلاة. سألتُ الطاقة أن تتبدَّل. والأشياء العالقة في الكون أن تتّخذ مجراها. مثل مَن ماتوا بلا دفن لائق، وبلا جنازة ووداعات. طاقة هؤلاء ظلَّت عالقة. لم تحدُث المصالحة بعد الحرب. بزيارتي الأماكن حيث حلَّت مجازر، وإشعالي النار، حَدَث التواصل. كأنني أقول للموتى الذين أرسم أرواحهم بأنني هنا؛ أراكم وأعترف بكم. أنتم منسيّون بجميع الطرق. الدولة لم تعترف بكم، لم تُؤبَّنوا. أنا هنا لأراكم وأكون شاهدة. بهذا بنيتُ اتصالاً فريداً مع لبنان».

طغى اللون الزهريّ مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى (زينة الخليل)

أرادت لفنّها التصدّي للعنف، فوظَّفت رماد النار التي أقامتها للمراسم مادةً للرسم. أنجزت مجموعات بتلك المادة السوداء ومن الحبر. وبدل الفرشاة، فضَّلت الأقمشة. بالكوفية مثلاً، لمست وحدة الشعوب، فأدخلتها في لوحاتها: «كل حفل شفاء أردتُه لنفسي وللبنان وللشرق الأوسط والكون. غمّستُها بالحبر ورسمتُ بها لنحو 10 سنوات. في الهند، درستُ الروحانيات ولمستُ اختفائي. الرسوم تتحوّل انعكاساً لروحي، كما أنّ روحي تُغذّي فنّي، فيتكاملان تماماً».

وظَّفت رماد النار التي أقامتها لمراسم الشفاء مادةً للرسم (زينة الخليل)

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي. الألم أحياناً يختار المرء؛ يتعرّف إليه. ولا ينتظره. يُناديه ليخطَّ مساره. تقول: «بعد انفجار بيروت عام 2020، شاهدتُ الدخان والتصدُّع. سرتُ على شوارع يفترشها الزجاج. في تلك اللحظة، تجمَّد الزمن كأنه سينما. بحركة بطيئة، رأيتُ انهيار جانب ضخم من سقف منزل، ووجوهاً مُدمَّاة، وهلعاً. فكّرتُ أنها الحياة. كفَّ الوقت عن التحلّي بأي معنى. لمحتُ التقبّل المريع لفكرة أنّ العنف جزء من الوعي الإنساني. هنا شعرتُ بأنني فكرة تأتي وتعبُر. أو لحظة ونَفَس. جسدٌ مُعرَّض لانتهاء تاريخ الصلاحية، وجوهر واحد يُعبِّر عن نفسه بمليارات الطرق. فنّي إعلان للسلام الداخلي ولحقيقة أننا مُنتقلون. ألم الانسلاخ هو الأقسى. في موضع إحساسنا بالانفصال عن الكون، عن الهوية، وعن الفردية؛ تبدأ رحلة الشفاء».