لبنان: صوت الشارع يملأ فراغ المعارضة

التسويات السياسية لتسيير الحكم كرّست تفاهمات لا ترضي الشعب

لبنان: صوت الشارع يملأ فراغ المعارضة
TT

لبنان: صوت الشارع يملأ فراغ المعارضة

لبنان: صوت الشارع يملأ فراغ المعارضة

أنتج اللبنانيون خلال ثلاثة أسابيع، قوة ضغط بديلة على السلطة، فُقدت منذ سنوات عندما اعتمدت القوى السياسية نظاماً تشاركياً في الحكم ألغى المعارضة في داخله، أو قلّصها على أقل تقدير إلى مستويات ضئيلة جداً. وكانت الذريعة دائماً تعزيز الاستقرار الأمني والاقتصادي، وتقليص المناوشات بين أركان الحكم بشكل يمكّن من تسهيل إصدار القوانين وإنتاج المبادرات.
غير أن المقاربة التشاركية التي تمثّلت في الحكومات الائتلافية، ألغت عملياً المعارضة داخل «النظام السياسي»، فما عاد هناك بالتالي تصدٍّ لمقترحات يعارضها اللبنانيون، ولم تعبر تلك القوى السياسية في مشروع إصلاحي جدي يُسهِم في الحد من التدهور المالي والاقتصادي، أو يُسهِم في تخفيض معدلات البطالة. وعليه، أخذ الشارع على عاتقه هذه المهمة، وخرج اللبنانيون بوجه السلطة لتحقيق أمرين: أولهما إنقاذ لبنان نفسه ومستقبله من انهيار تتضاعف مؤشراته، والثاني يتمثل في توجيه رسالة للسلطة بأنها غير فاعلة، بل هي عاجزة عن محاكاة طموحاته، وأن الفساد المستشري في البلاد آن الأوان لتحجيمه.
والمفارقة، أن الشعب نقل النقاش حول القضايا المصيرية، التي تهم مستقبله، من المؤسسات إلى الشارع، الذي بات ميداناً بديلاً عن مؤسسة لم تُنشأ كما يقضي «اتفاق الطائف»، وهي مجلس الشيوخ، المفترض أن تُحصر صلاحياته في بت القضايا المصيرية.

في عام 2008، وإثر «أحداث 7 مايو (أيار)»، بدأت المقترحات بين أركان السلطة اللبنانية لتكريس مفهوم التوافق وتأليف الحكومات الائتلافية. ونُفذت بالفعل في حكومة الرئيس الأسبق فؤاد السنيورة الثانية، وتلتها في حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى بعد الانتخابات النيابية في 2009، قبل أن تُكسر القاعدة في حكومة الرئيس الأسبق نجيب ميقاتي عام 2011، لتُستأنف القاعدة في حكومة الرئيس تمام سلام في 2014. وانسحب التكتيك على حكومتي الرئيس سعد الحريري الأولى بعد الانتخابات الرئاسية في 2016، وبعد الانتخابات النيابية في 2018، حين تكرّس بعد التسوية الرئاسية بغرض تسهيل الحكم، عبر تمثيل كل فريق في الحكومة على قدر حجمه في البرلمان، وذلك بهدف تسهيل إقرار القرارات التي تتخذها الحكومة في البرلمان، على ضوء الاتفاقات المُسبقة.
هذا النمط من طريقة الحكم، في البرلمان والحكومة، يُنظر إليه على أنه ألغى واحدة من أبرز ميزات النظام الديمقراطي القائم على وجود أكثرية تحكم، وأقلية تعارض من داخل «النظام». فقوة المعارضة بعد التسوية الرئاسية، لم ترتقِ إلى مستوى تشكيل قوة ضغط، وتمثلت في نواب حزب «الكتائب اللبنانية» ونواب آخرين يُعتبرون أفراداً لا تكتلات. ولاحقاً، انضم حزب «القوات اللبنانية» الذي مارس معارضة داخل الحكومة، وداخل البرلمان، قبل أن تتّسع أخيراً المعارضة إلى أحزاب أخرى، مثل «الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي سجّل اعتراضات على بعض الملفات، من غير أن يخرج من الحكومة.
والحال أن إلغاء هذه الفوارق عبر نمط التسويات المتبع، خلق هوّة بين الشعب والسلطة. وحقاً، يشعر اللبناني الآن بأن صوته لا يصل إلى أركان الحكم، بل تُمعِن السلطة في نسج تسويات ينظر إليها الشعب على أنها غير إصلاحية، وغير شفافة، تكتنفها شبهات بالفساد. وبالتالي، خرج الشعب في أول مظاهرة مطلبية عامة وواسعة منذ عام 1992 إلى الشارع، مطالباً بإقصاء أركان السلطة عن الحكم، وليس للمطالبة بحقوقه، كما كانت الأمور إبان التحركات المحدودة في السنوات والأشهر الماضية. واللافت هو دخول جمعيات ومنظمات مجتمع مدني على خط الضغط على السلطة، بديلاً عن الأحزاب التي تمثلت في السلطة ضمن الاستراتيجية التشاركية، وهو أمر لم يكن مألوفاً إلى حد كبير في تجربة الحكم السابقة في لبنان.

احتجاج لا معارضة

القانونيون لا يوافقون على هذا الاستنتاج الذي لا ينكره السياسيون، بالنظر إلى أنهم يقاربون المسألة من زاوية دستورية؛ فالباحث في القانون الدستوري، الدكتور شفيق المصري، لا يرى أن التحركات الاحتجاجية يصح فيها وصف المعارضة، قائلاً إنه «من الناحية القانونية، المعارضة مرتبطة بميكانيزم النظام، من داخله، بينما الحراك يتم من خارج النظام، ولا يرتبط بآليات حركته القانونية». ويوضح الدكتور المصري في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «إنهم محتجون، لا يشكلون معارضة دستورية، وحتى لو اختفت المعارضة ضمن الإطار التشاركي، فهؤلاء لا يشكّلون معارضة، بل انتفاضة شعبية تطالب بإعادة تكوين الآلية الانتخابية والدستورية». ويرى المصري أن «الثورات إما تطالب بتغييرات حسب الدستور، لتغيير قواعد النظام وآلياته، أو تنسف الثورة النظام بأكمله، كما في الثورة الفرنسية، لكنهم في التسمية القانونية لا يمكن أن يكونوا معارضة».
من ناحية ثانية، يحصر المصري حديثه في الشأن القانوني والتسميات القانونية، مشيراً إلى أن «الاتهام الموجه لمجلس النواب بأنه ينتحل صفة، اتهام خاطئ»، موضحاً: «ذلك أن النواب حصلوا على تصويت شرعي أوصلهم إلى القبة البرلمانية. وحتى لو خسروا ثقة الناخبين، فإنهم ما زالوا كذلك حتى يتم التغيير ضمن ميكانيزم النظام عبر تصويت شرعي وانتخابات مبكرة... والمشكلة أن الحراك يتحدث في الإطار الشعبي، لكن هذا الأمر لا يصح في الحديث عن الآليات الدستورية».

الشعب يتلقف المبادرة

الواقع أن الشارع تحوّل إلى «ميدان ضغط» أسقط الضريبة المقترحة على اتصالات «الواتساب» بعد اقتراحها من قبل مجلس الوزراء لتكون ضمن الموازنة الجديدة، وواصل الضغط الذي أدى إلى استقالة الحكومة، وهو الآن لا يبدو مكتفياً قبل تحقيق مطالبه بتحسين البلد وإنقاذه من الانهيار الاقتصادي، والماضي. وبينما يرى البعض أن التسوية الرئاسية بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري هي الدافع لإنتاج «الستاتيكو» (الأمر الواقع) في طريقة الحكم، لا يرى النائب السابق فادي كرم، أمين سر كتلة «الجمهورية القوية» (كتلة حزب «القوات اللبنانية»)، في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن هذه التسوية مسؤولة عن التفاهمات، إذ قال كرم: «تعاهدنا في لبنان أن تكون الحكومات حكومات وحدة وطنية، ائتلافية أو وطنية شاملة، وتم اعتماده لتجنّب المواجهات خارج الحكومة وعلى الأرض من أجل حفظ الاستقرار». وأردف: «لكن عندما تبين أن الأطراف التي تشكل الأكثرية الحالية لا تصغي إلى الأطراف الأخرى التي عقدت التسوية معها، أصبحت الحكومة متفجّرة». وتابع كرم: «ما نشهده اليوم على الأرض كان يحدث في الحكومة، لأن السلطة الحالية لا تريد الإصغاء لصوت الحق والتنبيهات من الداخل والخارج للحفاظ على استقرار لبنان الاجتماعي والسياسي والأمني». واستطرد أن «السلطة مستمرة بنفوذها وقبضتها على السلطة لممارسة كل أنواع التسلط، ورفض السماح لأي معارضة في البرلمان والحكومة بالتأثير على قراراتها»، مشدداً على أن «القوة بالنسبة لها تتمثل في التسلط وحكم القوي واحتكار إمكانيات الدولة ونفوذها».
حسب رأي كرم، هذا الواقع في مقاربة الأمور «أدى لانفجار في الوضع الاجتماعي والإنساني بلبنان»، مشيراً إلى أن «ملاحظات حزب القوات اللبنانية كان تهدف إلى تجنّب تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ونبّهنا للأمر عبر العامين السابقين». وللعلم، فإن وزراء القوات استقالوا في الفترة الأخيرة اعتراضاً على «الإدارة الفاشلة والفاسدة للدولة»، وحين عجز الأفرقاء عن إيجاد حلول ولم يتفاهموا على طريقة إنقاذية فورية. ووفق كلام كرم «اليوم، الشعب يقوم بدوره، حفاظاً على كرامته ودفاعاً عن سيادته ووضعه الاجتماعي. الشعب يرى أن الأمور تذهب إلى الأسوأ، فتحمل مسؤوليته، علماً بأن هذا الشعب عوّدنا على أن يكون حياً ويدافع عن حريته السياسية والاقتصادية والفكرية».

أزمة نظام

على صعيد متصل، لا يخفي السياسيون والمراقبون أن النظام اللبناني ككل يعاني من «أزمة نظام»، ترجع إلى أن نمط الحكم في لبنان يختلف عن المعمول به في الأنظمة البرلمانية لناحية تداول السلطة كمعارضة وموالاة. وهو وضع ينحسر لصالح الاتفاقات والتسويات بين الأفرقاء. ويرجع آخرون هذا القصور في طريقة الحكم إلى الإحجام عن تطبيق «اتفاق الطائف» بالكامل.
الدكتور شفيق المصري يشرح هذا القصور بالقول إن «(اتفاق الطائف) تبنّى الدستور، وحصل تبنٍّ للدستور القائم، وجرى التعديل على أساسه، وأصبح هو الدستور النافذ»، لافتاً إلى أنه «في الوقت نفسه، ثمة بنود في اتفاق الطائف لم تدخل في الدستور، إضافة إلى أن هناك بنوداً لم تُطبّق، ومنها إنشاء مجلس الشيوخ». ويتابع: «كان من المفترض أن ينفذ الدستور ما اعتمد في الطائف، ومن بينها إنشاء مجلس الشيوخ وتحقيق الإنماء المتوازن واللامركزية. وبالتالي، يطالب الحراك الآن بتطبيق الدستور كما ورد في الطائف، وتنفيذ ما قصّرت به السلطة وما انحرفت بتطبيقه، منها المال المنهوب وتغلغل الفساد، وانعدام الشفافية والصلاحيات التي مُنحت للبعض خلافاً للدستور».
وفعلاً، نصّت المادة 22 من الدستور بعد إنشائها بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 سبتمبر (أيلول) 1990 على ما يلي: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدَث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية». ويعمل مجلس الشيوخ هذا على تمثيل الطوائف اللبنانية بشكل عادلٍ، مقابل جعل مجلس النواب وطنياً لا طائفياً، وهذا أمر يجب أن يؤخذ بالاعتبار عند بحث تشكيله.
ويستدل بعض المشرّعين في تحديد «القضايا المصيرية» إلى المادة 65 الفقرة 5 تحت عنوان المواضيع الأساسية التي تحتاج لموافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء وهي: تعديل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، والحرب والسلم، والتعبئة العامة، والاتفاقات والمعاهدات الدولية، والموازنة العامة للدولة، والخطط الإنمائية الشاملة وطويلة المدى، وتعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وإعادة النظر في التقسيم الإداري، وحلّ مجلس النواب، وقانون الانتخابات، وقانون الجنسية، وقوانين الأحوال الشخصية، وإقالة الوزراء.
غير أن هذه المادة الدستورية التي تتحدث عن إنشاء مجلس الشيوخ، تبدو مُبهمة، ولم يتم إنجاز حتى الآن قانون لتشكيله ليتسنّى التعرف إلى القضايا المصيرية التي يبحث بها، وطريقة تصويته، وحجم تمثيله، وما إذا كان سيصبح بتصويته مستقلاً عن مجلس النواب، وما إذا كان مجلس النوّاب سيفتقد إلى «الكوتا» الطائفية (المناصفة بين المسلمين والمسيحيين) علماً بأنه سيتضمن تمثيلاً لجميع الطوائف.
وفي حين لا يزال شكل مجلس الشيوخ بمثابة طرح مبكّر، يقترح مشرّعون إنشاء مجلس الشيوخ بالتزامن مع إلغاء الطائفية السياسية في البلاد، على أن يبدأ البحث بالشكل من تشكيل الهيئة المختصة بتشكيله.

حكومة التكنوقراط: مطالب وتحديات

من جانب آخر، تتعدد مطالب المحتجين في الشارع وتتنوّع بين داعٍ لإسقاط النظام، وآخر لترميمه وتحسينه، وثالث يطالب السلطة بتوفير الخدمات وتحسين المعيشة ومنع الانهيار المالي والاقتصادي. لكن جميع هؤلاء، يطالبون الآن بتشكيل «حكومة حيادية» تدير الأزمة وتقود لبنان إلى خارج منطقة خطر الانهيار. وتتنوّع صفات هذه الحكومة بين حكومة غير سياسية، وأخرى غير حزبية، وأخرى حكومة اختصاصيين (تكنوقراط) لإنقاذ البلاد.
غير أن الأروقة السياسية لا تبدو مرحّبة بتشكيل هذا النوع من الحكومات، متذرّعة بأن هذه الحكومة ستكون عاجزة عن إنتاج مشروعات قوانين يصار إلى التصويت على إقرارها في البرلمان، وستكون عرضة للنقض، ما يعرقل الحكم وإقرار القوانين الإنقاذية.
ويضم أمين سر كتلة «الجمهورية القوية» فادي كرم صوته إلى صوت الناس في المطالبة بهذا الشكل من الحكومة، معتبراً أن الذريعة التي يتذرّع بها البعض لمواجهة حكومة حيادية «هي خدعة، لأن ما نطرحه كقوات منذ شهرين وأكثر يطرحه الناس الآن. ولا سبيل لإنقاذ البلاد إلا بحكومة تكنوقراط حيادية لا دور سياسياً لها، تسحب كل ملفات النفوذ من يد جماعة السلطة، وتضعها بخدمة الشعب»، قائلاً إن الأطراف السياسية «لا تناسبها هذه المسألة لأنهم يستمرون بالتسلُّط على الشعب من خلال مؤسساته، ويتصرفون على أنها ملكهم للاستمرار بالتسلط».
ويتابع شارحاً: «إذا اتفقوا على إنقاذ الوضع يعني أنهم يحرّرون السلطة التنفيذية الجديدة من كل القيود السياسية لإنقاذ البلد»، قبل أن يشدد على أن الحكومة الحيادية «يجب أن تأتي بقناعة من السياسيين، ويستمر الشعب اللبناني بالرقابة عليها».
وبينما يذهب آخرون إلى اعتبار حكومة غير سياسية، تعني تقليص حصة السنة في الحكم من خلال سحب امتياز منها، كون رئيس الحكومة هو من الطائفة الإسلامية السنّية، فإن كرم يؤكد أن هذا الأمر غير صحيح. ويؤكد أن «السلطة التنفيذية جامعة وشاملة ولا تمثل أي فريق محدّد، ولكن رئيسها من الطائفة السنّية، لأن نظامنا الطائفي يوزّع الرئاسات بين الطوائف»، مضيفاً: «فليكن رجل سنّي محترم على رأس الحكومة، يكون ممثلاً فعلياً للبنانيين، وهذا الأمر يجب ألا يتوقف على رئاسة الحكومة فقط، بل الإدارة الكاملة للحكومة، ويعاونه وزراء أكفاء».

ضبابية تلفّ المرحلة

> تبدو المرحلة ضبابية حتى الآن، إذ لم تسفر اتصالات الأقطاب على شكل واحد لحكومة ترضي الشارع، ولا تلقى معارضة من «التيار الوطني الحر» (تيار رئيس الجمهورية).
ولا تبدو التقديرات حول المرحلة المقبلة وردية، إذ يرى أمين سر «كتلة الجمهورية القوية» الدكتور فادي كرم أن السلطة «متشبثة وعنيدة، وتسخّف من قيمة التحركات»، معتبراً أن هذا التعامل مع الاحتجاجات «خطير، وإذا استمر سيؤدي حتماً إلى انهيار كامل اقتصادي ومالي، ونصبح دولة غير معترف بها من قبل المؤسسات المالية التي تدعم لبنان». وهو يدعو إلى الاستماع للشعب وتشكيل حكومة حيادية بعيدة عن السياسة كي نبدأ بإنقاذ البلاد. ويضيف: «ثقتي كبيرة باللبناني المنتشر والمقيم في الأراضي اللبنانية، لأنه يمتلك قدرات»، جازماً بأنه «في حال الاستماع إلى مطالب الشعب، سنرى تحسناً بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي».

ثورة... بأشكال جديدة

> حافظ اللبنانيون على سلمية الاحتجاجات منذ 23 يوماً، وابتدعوا نمطاً جديداً للثورة يستطيع جذب الناس، والتأثير على السلطة، بمشاركة فئات منظمة وغير مسيّرة في الوقت نفسه من قبل أي طرف سياسي. وفي حين كانت الثورات في السابق تنتهج الغضب الثوري شكلاً وحيداً للثورة على السلطة، تلاها الشكل الحزبي الذي يقف في مقدمة المسيرات لتسيير المتظاهرين وتوجيههم وإلزامهم بشعاراتهم، استطاعت الثورة الصمود، ثائرة في الوقت نفسه على الأشكال التقليدية.
أبرز ما في الحراك أنه قادر على استقطاب الناس، وحصد الالتفاف حول مطالبه، بعدما ألغى الجانب الاستفزازي الذي تمثل في وقت سابق بقطع الطرقات، ما يهدده بالصدام مع آخرين من الشعب.
ولعل الآليات التي دفعت الثورة للابتكار، هي التي ثبتت وجودها، مثل التدرّج من حرق الإطارات إلى الغناء والتمسك بسلميتها. وبعدها أنتجت الثورة أشكالاً جديدة، مثل الهتافات ضد الزعامات، والأغاني، والرقص، وصولاً إلى نشاطات فنية واعتصامات ومبادرة «شبك الأيادي» من الشمال إلى الجنوب على طول الخط الساحلي التي شارك فيها عشرات الآلاف.
وكانت الخطوة التالية الانتقال إلى الاعتصامات أمام إدارات حكومية حساسة، بموازاة تنظيم مسيرات للطلاب في المناطق، ومسيرات للسيدات فقط، ومبادرة قرع الطناجر والأواني المنزلية في ساعات محددة مساء، أو إشعال المصابيح وإطفائها، كاعتراض على انقطاع الكهرباء.

البرلمان يستعد لاستئناف التشريع

> يستأنف مجلس النواب اللبناني الأسبوع المقبل مهامه التشريعية، بعد 3 أسابيع من التحركات الاحتجاجية التي عمّت لبنان، تنسجم مع جزء مما طلبه المتظاهرون في الشارع، إذ أطلق رئيس مجلس النواب نبيه برّي خطة تشريعية تبدأ يوم الثلاثاء المقبل بجلسة تشريعية يتضمّن جدول أعمالها مجموعة من المشروعات واقتراحات القوانين الإصلاحية، في مقدمها «قانون مكافحة الفساد»، وإنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية، والعفو العام، وقانون ضمان الشيخوخة.
واللافت أن قسماً كبيراً من هذه التشريعات التي يطالب المتظاهرون بها، وردت في وقت سابق في الورقة الإصلاحية التي قدمها الرئيس المستقيل سعد الحريري. ويطالب برّي، من جهته، بالتحوّل نحو «دولة مدنية» وإلغاء الطائفية السياسية، فيما تقدمت كتلته النيابية باقتراح قانون عصري للانتخابات يعتمد نظام التصويت النسبي على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.