توت عنخ آمون يزور أرض عالِم الآثار كارتر للاحتفال معاً بمرور قرن على اكتشافه

زاهي حوّاس لـ «الشرق الأوسط»: أموال المعارض لترميم المتحف الكبير

أغراض من الذهب بجانب مومياء توت عنخ آمون (إ.ب.أ)
أغراض من الذهب بجانب مومياء توت عنخ آمون (إ.ب.أ)
TT

توت عنخ آمون يزور أرض عالِم الآثار كارتر للاحتفال معاً بمرور قرن على اكتشافه

أغراض من الذهب بجانب مومياء توت عنخ آمون (إ.ب.أ)
أغراض من الذهب بجانب مومياء توت عنخ آمون (إ.ب.أ)

احتفالاً بمرور 100 عام على اكتشاف قبر الفرعون الذهبي، انطلقت 150 قطعة أثرية أصلية من كنوز الملك توت عنخ آمون من مصر لتجوب مدن العالم وعواصمها، وبعد لوس أنجليس وباريس، ها هي اليوم، تحطّ رحالها في العاصمة البريطانية لندن، بغاليري ساتشي لتقيم مدة 6 أشهر. وبدءاً من اليوم، يفتح المعرض أبوابه أمام الزّوار، ويستمر لغاية 3 مايو (أيار) من العام المقبل.
«توت عنخ آمون: كنوز الفرعون الذّهبي»، تحت هذا العنوان تحتفل لندن بالملك الشاب، وقد انتشرت صوره في جميع أنحاء العاصمة في محطات القطارات وعلى جدران بعض المحال التجارية الكبرى والمباني، حيث أُلصقت صور ضخمة له تُظهر عظمة المحتفى به.
المعرض الذي خُصّص فقط للتّعرف على أسطورة الفرعون الشّاب، هو من تنظيم وزارة الآثار المصرية وشركة «آي إم جي» (IMG) في لندن. ويُعدّ الفرصة الأخيرة لمحبي الحضارة الفرعونية وعشاقها للتعرف عن كثب إلى 150 قطعة أثرية أصلية تعود له، أُضيفت إليها 60 قطعة تُعرض للمرّة الأولى.
وحسب القيمين على الحدث، ستكون الزيارة الأخيرة للفرعون الذّهبي إلى لندن، ولكنّها بالطّبع لم تكن الأولى، فقد استضافت لندن معرضين له؛ الأول عام 1972 والثاني عام 2007.
- لماذا يحتفلون بالفرعون في لندن؟
في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1922، اكتشف عالم الآثار الإنجليزي الأصل، والخبير في علوم المصريات هوارد كارتر، بتمويل من اللورد كارنارفون، قبر الفرعون الذّهبي، ورغم جميع الصّعوبات فقد أصرّ كارتر على المضي في تنقيبه لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، بعد أن محى اسمه، الفراعنة الذين خلفوه من التاريخ، ولولا جهود كارتر الحثيثة لكانت قصّته وجميع كنوزه فُقدت إلى الأبد في رمال مصر.
عاد كارتر، لإحياء توت عنخ آمون، ليستحوذ اسمه وأسطورته خيال العالم بأكمله، خصوصاً أنّ وفاته في سن مبكرة في التاسعة عشر من العمر، لا تزال لغزاً يحيّر علماء الآثار حتى يومنا هذا. وجدير ذكره، أنّ مقبرته تُعدّ المقبرة الملكية المصرية القديمة الوحيدة التي بقيت سليمة لعقود من الزمن.
يقول خالد العناني، وزير الآثار المصري، لـ«الشرق الأوسط»، إنّه وبعد الانتهاء من معرض لندن، لن تُنقل الآثار مباشرة إلى مصر، بل ستسافر مجدداً برحلة لزيارة عدّة عواصم في العالم، وبعد لوس أنجليس وباريس ولندن ستذهب من جديد إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأستراليا ثم الولايات المتحدة ومن بعدها اليابان. ويتابع: «رحلة كنوز توت عنخ آمون قد تكون الأخيرة إلى لندن حالياً».
من جانبه، يتوقّع زاهي حوّاس، عالم آثار مصري، ووزير دولة سابق لشؤون الآثار، أن يستقطب المعرض في لندن أعداداً كبيرة من الزّوار، كما كانت الحال في باريس، حيث أمّه 1.4 مليون بحد أدنى. ويتابع في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «لماذا؟ لأنّ هذه الآثار اكتشفها هوارد كارتر، عالم آثار إنجليزي، وهو مدفون هنا في لندن. فللشعب الإنجليزي نصف الحكاية ولنا نحن المصريين النّصف الآخر. وبالتالي فإنّ هذا المعرض سيستقطب بلا شك، أكثر من مليون نسمة، خصوصاً أنه يحتوي ولأوّل مرّة على 60 قطعة أثرية تخرج لأوّل مرّة من مصر». وبين المعرض الحالي وجذب السّياح إلى مصر، يقول حوّاس: «من دون شكٍ. فمنذ سنتين تُنشر أخبار سيئة عن مصر، وتوت عنخ آمون سيعيد نشر الأخبار الجيدة عنها. وسيكون الفضل له في جلب أعداد كبيرة من السّياح لمصر. وسيستقدم الأموال إلى البلد. ففي فرنسا استطاع معرضه جلب 10 ملايين. وكل هذه الأموال ستُستخدم في أعمال الترميم أو في افتتاح المتحف الكبير، في آخر العام المقبل».
ورداً على سؤال كيف تحافظون على سلامة هذه الآثار النفيسة والنادرة من التأثرات السلبيّة للسفر والتنقل من بلد لآخر، يقول الدكتور طارق العوضي المرافق لمعرض توت عنخ آمون والمسؤول عن بناء المعرض مع الفريق الخاص بشركة «آي إم جي»، لـ«الشرق الأوسط»: «بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك فريق عمل كاملاً من مرممين وأثريين يعملون على حفظ هذه الآثار، وهناك خطّة مبنيّة ومدروسة لكيفية نقلها من بلد إلى آخر أو من مدينة إلى أخرى. وأهم مسألة هي الحفاظ على سلامة الأثر، وهو التأكد من أنّه سيكون معروضاً في البيئة الخاصة نفسها التي تحفظ له هذه السلامة».
ويوضح أنّ «هذه الآثار كما هي الآن معروضة داخل واجهات عرض خاصة، لا تسمح بأي شكل من الأشكال بالتعرض لأي احتكاك مع البيئة الخارجية.
حتى عند نقلها تُفتح الواجهة في أجواء خاصة وتُحفظ الآثار في حاويات خاصة أيضاً، للمحافظة على الأثر مع مواد مساندة، لتبقى في البيئة نفسها التي تحافظ على سلامتها».
من جانبه، يقول جون نورمان، مدير إدارة المعارض «آي إم جي»، إنّه على مدار 20 عاماً الماضية، كان محظوظاً جداً لأنّه كُلف الاهتمام ببعض القطع الأثرية الفريدة التي لا تقدر بثمن من الأثمان. ومن أروعها كانت كنوز قبر الملك توت عنخ آمون، التي بقيت لآلاف السنين مطمورة في ظلام دامس، ولم تخرج إلى النّور إلّا قبل نحو مائة عام.
«الأشياء الرائعة!» كانت أول كلمتين تحدث بهما عالم المصريات البريطاني، هوارد كارتر، عندما وضع عينيه على الكنز المخفي لتوت عنخ آمون. هذه اللحظة التي قرع فيها كارتر من خلال الحفرة الصغيرة التي صنعها في الجدار المغلق الذي يحجب مدخل القبر ويخفي كنوز توت عنخ آمون لنحو 3200 عام، غيرت التاريخ. وبالفعل فقد شكلت كلمتا كارتر حقبة جديدة في تاريخ الآثار المصرية وبداية أسطورة الفتى الذهبي توت عنخ آمون.
اكتُشف قبر توت عنخ آمون في 4 نوفمبر 1922. ووصفته وسائل الإعلام الدولية بأنه «اكتشاف القرن العشرين».
كان الناس في جميع أنحاء العالم مفتونين بثروة وروعة الكنز الموجود في المقبرة. وجعل مقدار الذهب في قبر توت عنخ آمون العالم يدرك الكميات الهائلة من الكنوز التي ضاعت من قبور المصريين القدماء. لم يذهل العلماء من حجم كنز توت عنخ آمون فحسب، بل أيضاً من كمية المعلومات التي أسهمت بشكل كبير في زيادة فهم التاريخ المصري القديم.
- رحلة في المعرض
تنطلق الرحلة من غرفة مظلمة تضيئها شاشة عرض كبيرة. تُظهر أعمال التنقيب في وادي الملوك، موقع دفن الفراعنة. تدور الكاميرا فوق المناظر الطبيعية الصحراوية الجبلية، لتصوير المواقع الأثرية حيث العمل النشيط، وحيث يقف الرجال مجموعات يحدقون في المخططات والخرائط والحفر. تنتشر مطارق الصخور، وأدوات البحث والتنقيب في الرّمال. وجميعهم عازمون على العثور على مقابر الفراعنة الخفية وكنوزهم المدفونة.
يروي الراوي المشهد، ويقدم هوارد كارتر، عالم المصريات الإنجليزي، قصّة سنوات قضاها في حفر مقابر ملوك الفراعنة.
نصوص ورسوم متحركة معروضة أعلى مدخل البوابة توضح أن الأشياء المعروضة، عبأها الكهنة لرحلة عبر العالم السفلي إلى الأبد، التي قام بها الفرعون «با». تمثّل كل الحاجيات المدرجة في القبر، من صناديق رائعة، وبوق فضي، وخشب الأبنوس وكرسي ذات مسند للقدمين، وسرير خشبي مذهب، وقطع لعبة عاجية.
توضح الرسومات تكبير التفاصيل الجميلة على الكائنات. يصف الفيديو الحالات والأشياء الأساسية والأساس المنطقي لإدراج كل كائن وكيف يتلاءم مع احتياجات الملك في الحياة الآخرة.
كما يفسر النص تعاويذ السحر المرتبطة بكل كائن. تتغير شرائط الصوت المخصصة من معرض إلى معرض، ما يساعد في إثارة إحساس الرحلة.
يتكوّن المعرض من غرف ثلاث، تتوزّع فيها 150 قطعة أثرية. سيتعرّف الزّائر فيها على تمثال كبير للفرعون توت عنخ آمون واقفاً على ظهر فهد، وفي يده حربة. ويُعتقد أن اللوح الخشبي الذي يقف عليه الملك، يمثل «مافدت» أحد آلهة الأساطير الفرعونية على هيئة قط، وهو رمز للشفاء، لكلٍ من الجسم والعقل.
وحسب اعتقادهم، فإنّ القطط كانت تساعد الملك المتشابك مع إله الشمس، في رحلته إلى الحياة الآخرة.
- ما لا نعرفه عن توت عنخ أمون
> عُرف الملك الشاب باسم توت عنخ آمون، ولكنّ اسمه عند الولادة كان «توت عنخاتون»، ويعني «صورة حية لأتون»، وبعد ذلك بعدة سنوات غير اسمه إلى «توت عنخ آمون»، أي «صورة آمون الحية»، لحظة اعتلائه العرش. يعكس اسمه الجديد رغبته في تمييز نفسه عن عهد أخناتون (وعن عبادة آتون، القرص الشمسي) والتأكيد على ولائه للإله ذيبان آمون.
يُعتقد أنه ولد في مدينة تل العمارنة (أخيتاتن سابقاً) نحو عام 1340 قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن هوية والدي توت عنخ آمون كانت موضعاً لكثير من النقاش والفرضيات، التي لم تُحل بالكامل من خلال تحليل الحمض النووي الذي أجراه فريق ألماني مصري في عام 2010 على كثير من المومياوات الملكية التي يعتقد أنها مرتبطة بتوت عنخ آمون.
تؤكد مجموعة من الأدلة الداعمة أنه كان ابن الفرعون أمنحتب الرابع - أخناتون وفقاً لتحليلات الحمض النووي، وأمه (مومياء مجهولة المصدر) كانت معروفة باسم «سيدة شابة»، وقد أكّد تحليل الحمض النووي أن المومياء هي واحدة من بنات أمنحتب الثالث والملكة تيي، والد ووالدة أخناتون.
- كيف مات؟
منذ اكتشاف قبر الملك، كثرت النظريات حول ظروف وفاة توت عنخ آمون، بعد أن حكم لمدة 10 سنوات فقط. انتفت فرضية قتله. وكشفت عمليات المسح الأخيرة لمومياء الملك عدم وجود أي ضربة قاتلة. بالنظر إلى صغر سنه (18 : 19 عاماً)، فقد تكون وفاته ناجمة عن حادث أو مرض. كشفت دراسة عن المومياء، قام بها فريق من الباحثين في عام 2010، من إخراج زاهي حواس، على وجه الخصوص، وجود كسر في عظم الفخذ، فضلاً عن حقيقة أنه بلا شك مصاب بالملاريا. رغم صعوبة تحديد الأسباب الدقيقة لوفاة توت عنخ آمون، فإنه يجب افتراض وجود مزيج من العوامل التي أدّت إلى وفاته.
- هل هناك «لعنة» على توت عنخ آمون؟
أدت الوفيات التي حدثت في السنوات التي تلت اكتشاف المقبرة إلى إحياء فكرة لعنة المومياوات التي ظهرت في نهاية القرن 19. فوفاة اللورد كارنارفون المفاجئة في عام 1923. ربما أشعلت الفكرة وأعطت فترة من الإشاعات حول لعنة توت عنخ آمون، التي نسبت إلى السموم التي خلفها المصريون القدماء في مقابرهم، وإلى الفطر والكائنات الحية السامة، التي أثرت على جميع أولئك الذين تجرأوا على دخول المقابر الملكية.
ومع ذلك، فإن الرجل الذي اكتشف قبره، هوارد كارتر، توفي فقط في عام 1939، عن عمر ناهز الستين، وربما كان بمنأى عن الانتقام من الملك الشاب.
يقال أيضاً إن البوقين اللذين تم اكتشافهما في المقبرة لهما خصائص سحرية، وبصفة خاصة القدرة على استدعاء الحرب.


مقالات ذات صلة

كوكتيلات مخدرة وطقوس سحرية: كشف أسرار أكواب المصريين القدماء

يوميات الشرق إناء شرب على شكل رأس بيس من واحة الفيوم في مصر يعود إلى العصر البطلمي - الروماني (القرن الرابع قبل الميلاد - القرن الثالث الميلادي)... (جامعة جنوب فلوريدا)

كوكتيلات مخدرة وطقوس سحرية: كشف أسرار أكواب المصريين القدماء

كشف الباحثون عن استخدام أكواب خاصة لتقديم مزيج من العقاقير المخدرة، والسوائل الجسدية، والكحول.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
يوميات الشرق كلب ضال أمام هرم خوفو في منطقة أهرامات الجيزة (أ.ف.ب)

بفضل «أبولو»... «كلاب الأهرامات» تجذب السياح وتنشِّط المبيعات

مقطع مصور غير اعتيادي لكلب يتسلق الهرم يجذب الزوار والسائحين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق طريقة بناء الأهرامات تُمثل لغزاً كبيراً (الشرق الأوسط)

فيديو مولد بالذكاء الاصطناعي يُجدد الجدل بشأن طريقة بناء الأهرامات المصرية

جدّد مقطع فيديو قصير مُولد بالذكاء الاصطناعي، يشرح طريقة بناء الأهرامات، الجدلَ بشأن نظريات تشييد هذه الآثار الضخمة.

عبد الفتاح فرج (القاهرة)
يوميات الشرق اكتشاف عدد من اللقى الأثرية والأدوات الشخصية للجنود (وزارة السياحة والآثار المصرية)

مصر: اكتشاف ثكنات عسكرية ومخازن أسلحة أثرية بالدلتا

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، الخميس، عن اكتشاف «ثكنات عسكرية ومخازن أسلحة» أثرية تعود لعصر الدولة الحديثة.

فتحية الدخاخني (القاهرة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».