تسليم جائزة المغرب للكتاب 2019 في الرباط

تقديراً لعطاءات المتوَّجين في مجالات الإبداع الأدبي والبحث والترجمة

من حفل تتويج الفائزين بجائزة المغرب للكتاب (دورة 2019) بالرباط
من حفل تتويج الفائزين بجائزة المغرب للكتاب (دورة 2019) بالرباط
TT

تسليم جائزة المغرب للكتاب 2019 في الرباط

من حفل تتويج الفائزين بجائزة المغرب للكتاب (دورة 2019) بالرباط
من حفل تتويج الفائزين بجائزة المغرب للكتاب (دورة 2019) بالرباط

تقديراً لعطاءات المتوجين في مجالات الإبداع الأدبي والبحث والترجمة، ودعماً للإبداع والمبدعين، جرى مساء أول من أمس بالرباط تسليم الجوائز للفائزين بجائزة المغرب للكتاب (دورة 2019)، في ثمانية أصناف، شملت: الشعر، والسرد، والعلوم الاجتماعية، والدراسات الأدبية والفنية واللغوية، والترجمة، والدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية، والإبداع الأدبي الأمازيغي، والكتاب الموجه للطفل والشباب، في وقت تم فيه حجب الجائزة الخاصة بصنف العلوم الإنسانية، وذلك في حفل كبير شهد حضور شخصيات من عالم السياسة والفكر والثقافة، وممثلين عن هيئات دبلوماسية معتمدة لدى المغرب.
وقال الحسن عبيابة، وزير الثقافة والشباب والرياضة الناطق الرسمي باسم الحكومة، في كلمة بالمناسبة، إن جائزة المغرب للكتاب تمثل لحظة متميزة لتحفيز الإبداع في مختلف الحقول الفكرية. وأبرز أن تدبير الحاضر، ورفع تحديات المستقبل بشكل عقلاني، لا يمكن أن يتم خارج حركة فكرية متواصلة، تؤطر سير المجتمع بعناصر التنشئة السليمة، والاشتغال على فتح آفاق الريادة والنبوغ، مشيراً إلى أن الظرفية العالمية الراهنة، التي تتسم بارتباط تحقيق التنمية بالإنتاج والسبق الفكري، تستلزم الانخراط السريع في العمل المستنير بملكات الإبداع والذكاء، بوصفه أفقاً مرتبطاً بالتوفر على منظومة قوية للعطاء الفكري والإبداعي.
وشدد عبيابة على أن بلوغ الأهداف المسطرة رهين بتوفير أسس نهضة فكرية وإبداعية، سواء من حيث التغطية الترابية بالبنيات والهياكل الثقافية، أو من خلال تبويء الفكر والمفكرين والكتاب والمبدعين المكانة اللائقة بهم في المجتمع.
وتميزت دورة هذه السنة من الجائزة بفوز مصطفى ملح عن ديوانه «لا أوبخ أحداً»، الصادر عن مقاربات للنشر، ورشيد خالص عن ديوانه باللغة الفرنسية «حرب شاملة»، الصادر عن دار النشر فاصلة، مناصفة، في صنف الشعر. وفاز في صنف السرد عبد الرحيم جيران عن روايته «الحجر والبركة»، الصادرة عن دار النشر فاصلة. وذهبت جائزة العلوم الاجتماعية، مناصفة، لعياد أبلال عن كتابه «الجهل المركب الدين التدين وإشكالية المعتقد الديني في العالم العربي»، الصادر عن مؤمنون بلا حدود، وخالد زكري عن مؤلفه باللغة الفرنسية «الحداثات العربية... من الحداثة إلى العولمة»، الصادر عن منشورات ملتقى الطرق.
وفاز إبراهيم الحيسن عن كتابه «الكاريكاتير في المغرب... السخرية على محك الممنوع»، الصادر عن منشورات جمعية أصدقاء متحف الطنطان للتراث والتنمية الاجتماعية، بجائزة الدراسات الأدبية والفنية واللغوية، وحسن الطالب، في صنف الترجمة، عن ترجمته لكتاب «القريب والبعيد قرن من الأنثربولوجيا بالمغرب»، للكاتب حسن رشيق، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب. وفاز أحمد المنادي عن كتابه «الشعر الأمازيغي الحديث»، الصادر عن منشورات دار السلام، بجائزة الدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية، بينما عادت جائزة الإبداع الأدبي الأمازيغي لملعيد العدناني، عن كتابها «إيناضن ن وضان»، الصادر عن منشورات جمعية تيرا، وجائزة الكتاب الموجه للطفل والشباب لمحمد سعيد سوسان عن كتابه «حورية من السماء»، الصادر عن مطبعة وراقة بلال.
وكتب الوزير عبيابة، في تقديم دليل الجائزة، أنه عـلى غـرار سـابق الـدورات «سـعت الـوزارة في هـذه الـدورة إلى تحقيـق أعلى درجات الدقة والموضوعية، باعتماد أعضـاء لجـان الجائزة مـن خـيرة الأسـاتذة المشـهود لهـم بالكفـاءة والنزاهـة والتجرد، بالإضافة إلى الحـرص عـلى ضمـان مشـاركة كل وجهـات النظـر الثقافيـة ببلادنـا، عـلى اختـلاف تعددهـا ومشـاربها»، مع إشارته إلى أن «الجائزة عرفـت هـذه السنة تطـوراً ملحوظاً، مـن حيـث ارتفـاع عـدد الكتـب المرشحة، ممـا يـدل عـلى حيويـة الحقـل الثقـافي المغربي، وغنـاه الأدبي والفكـري والعلمي».
وقطعت جائزة المغرب للكتاب، التي يتم تقديمها كـ«مكافأة وطنية» للأسماء المساهمة في إثراء الفكر والإبداع والبحث والترجمة في المغرب، مساراً ثقافياً مهماً كرست خلاله حضورها بوصفها كما يقول المسؤولون «محطة احتفائية سنوية بالإنتاج المغربي في مختلف الأصناف الإبداعية والمعرفية والنقدية والترجمية»، حتى «استحقت ما صارت تحظى به في الأوساط الثقافية داخل البلاد من مكانة اعتبارية، ومن اهتمام من طرف عدد كبير من المفكرين والمبدعين والباحثين والنقاد، فضلاً عن الفاعلين المعنيين بقطاع النشر وشؤون الكتاب المغربي»، فيما يعد «السجل الحافل» لهذه الجائزة، خلال أكثر من خمسين سنة على إطلاقها، بمثابة «خريطة بيانية لتطور الحقل الثقافي الوطني، من خلال الذخيرة الطويلة للأعمال التي ترشحت لها في مختلف الأصناف، ومن خلال قائمة الكتب التي تم تتويجها بها على مر السنوات والدورات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)