فاروق جويدة: الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي.. والشعراء ماتوا!

انتهى من كتابة مسرحية شعرية عن سقوط بغداد

فاروق جويدة
فاروق جويدة
TT

فاروق جويدة: الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي.. والشعراء ماتوا!

فاروق جويدة
فاروق جويدة

منذ نصف قرن وفاروق جويدة حاضر بقوة في المشهد الثقافي العربي ليس فقط من خلال مجموعاته الشعرية، ومسرحياته الشعرية التي شكلت إضافة مهمة في مجال المسرح الشعري مثل «دماء على ستار الكعبة» و«الوزير العاشق»، لكن أيضا من خلال مقالاته اليومية التي تسببت في دخوله في مواجهات عاصفة مع النظام الأسبق، كان من بينها تعرضه لأزمة كبيرة كادت تكلفه حياته عام 2005. وكانت الهموم العربية جزءا أساسيا من اهتماماته وكتاباته، وشكلت قصائده عن قضية فلسطين ربع أشعاره كلها.
التقيناه في القاهرة عقب لقائه بالرئيس السيسي بمناسبة عيد المعلم، وكان هذا الحوار حول جملة من القضايا الفكرية والثقافية.

*بداية ما انطباعك بعد لقائك أخيرا بالرئيس السيسي، وكيف ترى المشهد الآن بعين المثقف؟
- إن ما يحدث في العالم العربي من صراعات وتفكك وحروب أهلية غيرت الصورة تماما ووصلت بالناس إلى حالة من الإحباط بعد الثورات العربية. فما يحدث في العراق منذ سنوات والحادث في سوريا وليبيا واليمن وكذلك ما يحدث في سيناء المصرية، كلها أشياء تدعو للأسى لكنى أعتقد أن الجيش المصري استطاع فعلا أن يقف مع الشعب وأن ينقذ مصر من كل هذه الكوارث، لذلك فإنه على الرغم مما يبدو في الأفق من غيوم وسحب إلا أنني أرى أن هذا الواقع يدعو للتفاؤل، فمصر بعمقها الحضاري والثقافي كان لا بد وأن يكون لها موقف مما يجرى حولها والحمد لله أنها نجحت في تجاوز المحنة. ورغم كل الأمراض التي أصابت الجسد الثقافي المصري إلى أنني أعتقد أنه لا يزال متماسكا. وقد تكون نقطة البداية التي تجعلنا ننطلق إلى آفاق أوسع وأفضل هي قضية التعليم. فخلال حضوري لقاء الرئيس السيسي احتفالا بالمعلم - وهو الأمر الذي لم يحدث منذ زمن طويل - شعرت بالتفاؤل لأن التعليم قضية أساسية حيث إنها هي حجر الأساس بالنسبة للثقافة وتليها قضية الإعلام، وهى أيضا مؤثرة جدا خاصة وأن الإعلام تحول إلى جهاز خطير جدا يسبق مؤسسات كثيرة وكلها مؤثرات مهمة في الثقافة كي تعود لدورها الأول في توجيه المواطن المصري وتثقيفه وتنويره وإعادة تشكيله بعد أن ساهمت تلك العناصر الثلاثة في انهيار سلوكياتنا وتدهور لغة الحوار في الشارع وسلوكيات الشباب والأجيال الجديدة التي حرقت مدرجاتها وضربت أساتذتها واعتدت على مقدسات جامعاتها وكلها ظواهر سلبية أساسها الثقافة.
*يبدو لي أنك غير راض عن واقع الثقافة. إلى أي مدى يتحمل المثقف المسؤولية في تدني هذا الوضع؟
- اللوم يقع أولا على المؤسسات الثقافية لأنها تخلت عن دورها أو أنها أدته بكفاءة محدودة جدا فركزت الاهتمام على المهرجانات والاحتفالات والشكل الظاهري للثقافة على حساب المكونات الأساسية والثوابت الثقافية وفى نفس الإطار أهملنا الدين وتركناه للزوايا والتطرف وللإرهاب أحيانا، وتركناه لشباب ما بين الفقر والعشوائيات في ظل إعلام وتعليم متدن فكانت ثمار كل ذلك مرة.
*لكن ألا يتناقض ذلك مع العدد الكبير الموجود على الساحة ممن يسمون أنفسهم المثقفين، حيث يفترض وجود علاقة طردية بين واقع الثقافة وعدد المثقفين. أم إن العدد في الليمون على حد المثل الشعبي؟
- للأسف الشديد هو «عدد في الليمون» بحسب المثل الشعبي.. وكما تقولين! لأن النخب الثقافية في العالم العربي تجني ثمار سلبيتها ومعاركها غير الحقيقية فنحن اليوم نعاني واقعا ثقافيا رديئا لأن مثقفينا تخلوا عن دورهم الأساسي فتحول بعضهم لمناصرة نظم استبدادية وحكام فاسدين، بينما انسحب جزء آخر انسحابا تاما وترك الساحة كاملة ومن ثم لا أحد منهم أدى دوره على الإطلاق، وكانت النتيجة ظهور ثقافة التطبيل والمهرجانات والزمر التي ابتعدت تماما عن تشكيل الواقع العربي. ولو تأملنا الحال في مصر مثلا نجد المسرح التجاري سيطر على الساحة كما سيطرت أفلام المقاولات على السينما الجادة ذات التاريخ العريق.
*هل تم كذلك بفعل فاعل؟
- نعم أعتقد ذلك! لأن دور مصر الثقافي مستهدف بلا شك.
*ممن؟
- يعنى هناك أطراف داخلية وخارجية وراء ذلك
*وأين دور النخب في مواجهة تلك المحن، أم إنها «نخب ورقية»؟
- لا شك أن تلك النخب في عالمنا العربي نخب من ورق وما حدث بعد الثورات العربية يؤكد ذلك حيث إنهم فشلوا في الإمساك بزمام الأمور لأن تشكيلهم ورقي ضعيف؛ ولذلك رأينا كيف سحقت النخب بعد الثورات بتيارات وأفكار وآيديولوجيات متطرفة جدا! فلم يكن أحد يتوقع أن يعصف «الإخوان المسلمون» بالنخبة المصرية ولكنه حدث! لأنها نخبة هشة وغير مؤمنة بدورها.
*هل تؤيد اقتراب المثقف من السلطة أم ترى ضرورة وجود مسافة بينه وبينها؟
- لا بد أن يكون المثقف على مسافة من السلطة لأن مؤثرات السلطة قد تصيبه بضرر كبير جدا خاصة لو كانت السلطة فاسدة. وبالتالي فدور المثقف أن يضئ الطريق لا أن يتحول إلى بوق للسلطة لأن أبواق السلطة أجهزة فاسدة.
* هل تعرضت للمشكلات بسبب نقدك الدائم السلطة السابقة؟
- لقد طرحت قضايا كثيرة خاصة بفساد السلطة وبالفعل تعرضت لأزمات كثيرة ووصل بي الأمر أنني أصبت بأزمة قلبية بسبب مقال كتبته في جريدة «الأهرام» القاهرية عام 2005 وانتقدت فيه توريث القضاء فاتهموني بأنني أقصد توريث الحكم أيام مبارك!! فهاجمتني أزمة قلبية، وأنا في مكتب النائب العام دخلت على إثرها المستشفى ونجوت والحمد لله.
*هل أثرت تلك الأزمات على كتاباتك وجعلتك تؤثر السلامة؟
- لا بالعكس لم يؤثر هذا على موقفي على الإطلاق حتى الآن وفى كل مرة كنت أخرج أكثر صرامة بل وأكثر عنفا في مواجهة الفساد.
*نلاحظ الآن أن قلمك صار أكثر هدوءا وتفاؤلا؟
- نحن لا نملك رفاهية الكآبة الآن! فالبيت محاصر بالنيران وكل من حولنا يحترقون ومن ثم لا بد أن نقوم بعمل سياج من الحماية لهذا الشعب وأن يكون لدينا الأمل بما بقي فيه من حكماء وعقول مفكرة وشباب واع ونساء عظماء. كما أنني بحكم العمر الذي وصلت إليه أمتلك قدرا من الحكمة مع صوت مبشر يدعو للتفاؤل سيما وأن هناك مؤشرات إيجابية وطيبة في محاربة الفساد والارتقاء بالثقافة والتعليم.
*بما أنك من رواد جيل الستينات هل تعتقد أن الحقبة الناصرية قابلة للتكرار، خصوصا في جانبها الثقافي مع تولي الرئيس السيسي كما يردد البعض؟
- أولا السيسي ليس عبد الناصر ولا ينبغي أن يكون عبد الناصر! فالسيسي إنسان مصري موجود في حقبة زمنية مختلفة وأوضاع دولية مختلفة، كما أن عليه مسؤولية أخطر كثيرا للتصدي لتجربة حكم فاشلة من «الإخوان المسلمين». وأعتقد أن السيسي يجب أن يترك لفكره وإذا ما ظهر في المسيرة أي نشاذ هنا أو هناك فعلينا أن نخبره. عبد الناصر غير قابل للتكرار كما أن ظروفه كانت أفضل بكثير من الظروف التي تولى في ظلها الرئيس السيسي من الناحية الاقتصادية والإنسانية. فحينما تولى ناصر كان لديه نخبة عظيمة جدا من الحقب السابقة لها تشكيل ثقافي وفكري محترم، إنما السيسي تولى اليوم والطلاب يضربون أساتذتهم في الجامعات! ولذلك أفضل أن يظل السيسي هو عبد الفتاح السيسي.
*هل أدى استغراقك في الهموم الوطنية إلى ابتعادك نسبيا عن الشعر؟
- أنا لم أنس الشعر وسأبقى على إخلاصي له؛ لكنى أعترف أنى «كرفته» بعد أن أصبح البيت كله محاصرا بالنيران. فكيف أكتب شعرا في ظل هذا المناخ الصعب! المناخ العام فرض نفسه علي بسبب أحداث كثيرة شهدتها السنوات الأخيرة في المنطقة من مظاهرات وتجربتي حكم وعالم عربي يتمزق فالعالم كله تغير وفى ظل هذه الظروف لا أنكر أنني قد أكون حزينا على شعري خاصة الشعر العاطفي لكنى في نفس الوقت أكثر حزنا على وطني.
*هل معنى ذلك أن الشعر لم يعد يراودك ولو خلسة؟
- بالطبع ما زلت أكتب شعرا.
*هل تعتقد أن تلك الظروف التي أبعدتك عن الشعر بعض الشيء هي نفسها التي أدت إلى تراجع الشعر لصالح فنون أدبية أخرى؟
- بالفعل. كما أن الشعراء أنفسهم ماتوا!! فمات محمود درويش ومات سميح القاسم ونزار قباني وغيرهم ممن خلت ساحة الشعر منهم.
*لكن في المقابل هناك عشرات الأسماء من الشعراء الجدد.. كيف تقيمهم؟
- لا أعتبر أنها فترة خصام أو غياب عن الشعر بل هي فترة ضروريات وسيعود بعدها الشعر من جديد. ولا ننسى أننا نعيش في واقع جديد ومختلف له معطيات مختلفة عن فترة كتابة القصائد العاطفية. ولذلك كتبت في القضايا الوطنية، وربع كتاباتي عن القدس.
*أعربت عن تفاؤلك بمستقبل مصر، فهل أنت متفائل بالنسبة لمستقبل الثقافة العربية؟
- لا يمكن أن أتفاءل وأنا أرى العراق يحترق وسوريا في حرب أهلية ولبنان فيه ما فيه فلا شك أن الصورة قاتمة وحقيقة الأمر أن الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي، لأن مراكز الثقافة في عالمنا العربي تم استهدافها وتكسيرها سواء في بغداد أو بيروت أو دمشق فكلها تأثرت بما فيها من أحداث ساخنة فحرمنا من الشعر العراقي والدراما السورية والكتب المطبوعة في بيروت.
*تجربتك في كتابة المسرحية هل من عودة إليها؟
- بالفعل لدي مسرحية شعرية كتبتها وتتناول سقوط بغداد وواقعنا العربي بما فيه من أحداث.
*«شيء ما سيبقى بيننا» عنوان لأحد دواوينك الشعرية. فما هذا الشيء الذي سيبقى في رأيك؟
- هناك أشياء كثيرة ستبقى منها الإنسان العربي القادر على صنع حياة أفضل في ظل حالة أكثر كرامة وأكثر إنسانية ومنها أيضا أن مصر ستبقى المنارة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.