فاروق جويدة: الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي.. والشعراء ماتوا!

انتهى من كتابة مسرحية شعرية عن سقوط بغداد

فاروق جويدة
فاروق جويدة
TT

فاروق جويدة: الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي.. والشعراء ماتوا!

فاروق جويدة
فاروق جويدة

منذ نصف قرن وفاروق جويدة حاضر بقوة في المشهد الثقافي العربي ليس فقط من خلال مجموعاته الشعرية، ومسرحياته الشعرية التي شكلت إضافة مهمة في مجال المسرح الشعري مثل «دماء على ستار الكعبة» و«الوزير العاشق»، لكن أيضا من خلال مقالاته اليومية التي تسببت في دخوله في مواجهات عاصفة مع النظام الأسبق، كان من بينها تعرضه لأزمة كبيرة كادت تكلفه حياته عام 2005. وكانت الهموم العربية جزءا أساسيا من اهتماماته وكتاباته، وشكلت قصائده عن قضية فلسطين ربع أشعاره كلها.
التقيناه في القاهرة عقب لقائه بالرئيس السيسي بمناسبة عيد المعلم، وكان هذا الحوار حول جملة من القضايا الفكرية والثقافية.

*بداية ما انطباعك بعد لقائك أخيرا بالرئيس السيسي، وكيف ترى المشهد الآن بعين المثقف؟
- إن ما يحدث في العالم العربي من صراعات وتفكك وحروب أهلية غيرت الصورة تماما ووصلت بالناس إلى حالة من الإحباط بعد الثورات العربية. فما يحدث في العراق منذ سنوات والحادث في سوريا وليبيا واليمن وكذلك ما يحدث في سيناء المصرية، كلها أشياء تدعو للأسى لكنى أعتقد أن الجيش المصري استطاع فعلا أن يقف مع الشعب وأن ينقذ مصر من كل هذه الكوارث، لذلك فإنه على الرغم مما يبدو في الأفق من غيوم وسحب إلا أنني أرى أن هذا الواقع يدعو للتفاؤل، فمصر بعمقها الحضاري والثقافي كان لا بد وأن يكون لها موقف مما يجرى حولها والحمد لله أنها نجحت في تجاوز المحنة. ورغم كل الأمراض التي أصابت الجسد الثقافي المصري إلى أنني أعتقد أنه لا يزال متماسكا. وقد تكون نقطة البداية التي تجعلنا ننطلق إلى آفاق أوسع وأفضل هي قضية التعليم. فخلال حضوري لقاء الرئيس السيسي احتفالا بالمعلم - وهو الأمر الذي لم يحدث منذ زمن طويل - شعرت بالتفاؤل لأن التعليم قضية أساسية حيث إنها هي حجر الأساس بالنسبة للثقافة وتليها قضية الإعلام، وهى أيضا مؤثرة جدا خاصة وأن الإعلام تحول إلى جهاز خطير جدا يسبق مؤسسات كثيرة وكلها مؤثرات مهمة في الثقافة كي تعود لدورها الأول في توجيه المواطن المصري وتثقيفه وتنويره وإعادة تشكيله بعد أن ساهمت تلك العناصر الثلاثة في انهيار سلوكياتنا وتدهور لغة الحوار في الشارع وسلوكيات الشباب والأجيال الجديدة التي حرقت مدرجاتها وضربت أساتذتها واعتدت على مقدسات جامعاتها وكلها ظواهر سلبية أساسها الثقافة.
*يبدو لي أنك غير راض عن واقع الثقافة. إلى أي مدى يتحمل المثقف المسؤولية في تدني هذا الوضع؟
- اللوم يقع أولا على المؤسسات الثقافية لأنها تخلت عن دورها أو أنها أدته بكفاءة محدودة جدا فركزت الاهتمام على المهرجانات والاحتفالات والشكل الظاهري للثقافة على حساب المكونات الأساسية والثوابت الثقافية وفى نفس الإطار أهملنا الدين وتركناه للزوايا والتطرف وللإرهاب أحيانا، وتركناه لشباب ما بين الفقر والعشوائيات في ظل إعلام وتعليم متدن فكانت ثمار كل ذلك مرة.
*لكن ألا يتناقض ذلك مع العدد الكبير الموجود على الساحة ممن يسمون أنفسهم المثقفين، حيث يفترض وجود علاقة طردية بين واقع الثقافة وعدد المثقفين. أم إن العدد في الليمون على حد المثل الشعبي؟
- للأسف الشديد هو «عدد في الليمون» بحسب المثل الشعبي.. وكما تقولين! لأن النخب الثقافية في العالم العربي تجني ثمار سلبيتها ومعاركها غير الحقيقية فنحن اليوم نعاني واقعا ثقافيا رديئا لأن مثقفينا تخلوا عن دورهم الأساسي فتحول بعضهم لمناصرة نظم استبدادية وحكام فاسدين، بينما انسحب جزء آخر انسحابا تاما وترك الساحة كاملة ومن ثم لا أحد منهم أدى دوره على الإطلاق، وكانت النتيجة ظهور ثقافة التطبيل والمهرجانات والزمر التي ابتعدت تماما عن تشكيل الواقع العربي. ولو تأملنا الحال في مصر مثلا نجد المسرح التجاري سيطر على الساحة كما سيطرت أفلام المقاولات على السينما الجادة ذات التاريخ العريق.
*هل تم كذلك بفعل فاعل؟
- نعم أعتقد ذلك! لأن دور مصر الثقافي مستهدف بلا شك.
*ممن؟
- يعنى هناك أطراف داخلية وخارجية وراء ذلك
*وأين دور النخب في مواجهة تلك المحن، أم إنها «نخب ورقية»؟
- لا شك أن تلك النخب في عالمنا العربي نخب من ورق وما حدث بعد الثورات العربية يؤكد ذلك حيث إنهم فشلوا في الإمساك بزمام الأمور لأن تشكيلهم ورقي ضعيف؛ ولذلك رأينا كيف سحقت النخب بعد الثورات بتيارات وأفكار وآيديولوجيات متطرفة جدا! فلم يكن أحد يتوقع أن يعصف «الإخوان المسلمون» بالنخبة المصرية ولكنه حدث! لأنها نخبة هشة وغير مؤمنة بدورها.
*هل تؤيد اقتراب المثقف من السلطة أم ترى ضرورة وجود مسافة بينه وبينها؟
- لا بد أن يكون المثقف على مسافة من السلطة لأن مؤثرات السلطة قد تصيبه بضرر كبير جدا خاصة لو كانت السلطة فاسدة. وبالتالي فدور المثقف أن يضئ الطريق لا أن يتحول إلى بوق للسلطة لأن أبواق السلطة أجهزة فاسدة.
* هل تعرضت للمشكلات بسبب نقدك الدائم السلطة السابقة؟
- لقد طرحت قضايا كثيرة خاصة بفساد السلطة وبالفعل تعرضت لأزمات كثيرة ووصل بي الأمر أنني أصبت بأزمة قلبية بسبب مقال كتبته في جريدة «الأهرام» القاهرية عام 2005 وانتقدت فيه توريث القضاء فاتهموني بأنني أقصد توريث الحكم أيام مبارك!! فهاجمتني أزمة قلبية، وأنا في مكتب النائب العام دخلت على إثرها المستشفى ونجوت والحمد لله.
*هل أثرت تلك الأزمات على كتاباتك وجعلتك تؤثر السلامة؟
- لا بالعكس لم يؤثر هذا على موقفي على الإطلاق حتى الآن وفى كل مرة كنت أخرج أكثر صرامة بل وأكثر عنفا في مواجهة الفساد.
*نلاحظ الآن أن قلمك صار أكثر هدوءا وتفاؤلا؟
- نحن لا نملك رفاهية الكآبة الآن! فالبيت محاصر بالنيران وكل من حولنا يحترقون ومن ثم لا بد أن نقوم بعمل سياج من الحماية لهذا الشعب وأن يكون لدينا الأمل بما بقي فيه من حكماء وعقول مفكرة وشباب واع ونساء عظماء. كما أنني بحكم العمر الذي وصلت إليه أمتلك قدرا من الحكمة مع صوت مبشر يدعو للتفاؤل سيما وأن هناك مؤشرات إيجابية وطيبة في محاربة الفساد والارتقاء بالثقافة والتعليم.
*بما أنك من رواد جيل الستينات هل تعتقد أن الحقبة الناصرية قابلة للتكرار، خصوصا في جانبها الثقافي مع تولي الرئيس السيسي كما يردد البعض؟
- أولا السيسي ليس عبد الناصر ولا ينبغي أن يكون عبد الناصر! فالسيسي إنسان مصري موجود في حقبة زمنية مختلفة وأوضاع دولية مختلفة، كما أن عليه مسؤولية أخطر كثيرا للتصدي لتجربة حكم فاشلة من «الإخوان المسلمين». وأعتقد أن السيسي يجب أن يترك لفكره وإذا ما ظهر في المسيرة أي نشاذ هنا أو هناك فعلينا أن نخبره. عبد الناصر غير قابل للتكرار كما أن ظروفه كانت أفضل بكثير من الظروف التي تولى في ظلها الرئيس السيسي من الناحية الاقتصادية والإنسانية. فحينما تولى ناصر كان لديه نخبة عظيمة جدا من الحقب السابقة لها تشكيل ثقافي وفكري محترم، إنما السيسي تولى اليوم والطلاب يضربون أساتذتهم في الجامعات! ولذلك أفضل أن يظل السيسي هو عبد الفتاح السيسي.
*هل أدى استغراقك في الهموم الوطنية إلى ابتعادك نسبيا عن الشعر؟
- أنا لم أنس الشعر وسأبقى على إخلاصي له؛ لكنى أعترف أنى «كرفته» بعد أن أصبح البيت كله محاصرا بالنيران. فكيف أكتب شعرا في ظل هذا المناخ الصعب! المناخ العام فرض نفسه علي بسبب أحداث كثيرة شهدتها السنوات الأخيرة في المنطقة من مظاهرات وتجربتي حكم وعالم عربي يتمزق فالعالم كله تغير وفى ظل هذه الظروف لا أنكر أنني قد أكون حزينا على شعري خاصة الشعر العاطفي لكنى في نفس الوقت أكثر حزنا على وطني.
*هل معنى ذلك أن الشعر لم يعد يراودك ولو خلسة؟
- بالطبع ما زلت أكتب شعرا.
*هل تعتقد أن تلك الظروف التي أبعدتك عن الشعر بعض الشيء هي نفسها التي أدت إلى تراجع الشعر لصالح فنون أدبية أخرى؟
- بالفعل. كما أن الشعراء أنفسهم ماتوا!! فمات محمود درويش ومات سميح القاسم ونزار قباني وغيرهم ممن خلت ساحة الشعر منهم.
*لكن في المقابل هناك عشرات الأسماء من الشعراء الجدد.. كيف تقيمهم؟
- لا أعتبر أنها فترة خصام أو غياب عن الشعر بل هي فترة ضروريات وسيعود بعدها الشعر من جديد. ولا ننسى أننا نعيش في واقع جديد ومختلف له معطيات مختلفة عن فترة كتابة القصائد العاطفية. ولذلك كتبت في القضايا الوطنية، وربع كتاباتي عن القدس.
*أعربت عن تفاؤلك بمستقبل مصر، فهل أنت متفائل بالنسبة لمستقبل الثقافة العربية؟
- لا يمكن أن أتفاءل وأنا أرى العراق يحترق وسوريا في حرب أهلية ولبنان فيه ما فيه فلا شك أن الصورة قاتمة وحقيقة الأمر أن الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي، لأن مراكز الثقافة في عالمنا العربي تم استهدافها وتكسيرها سواء في بغداد أو بيروت أو دمشق فكلها تأثرت بما فيها من أحداث ساخنة فحرمنا من الشعر العراقي والدراما السورية والكتب المطبوعة في بيروت.
*تجربتك في كتابة المسرحية هل من عودة إليها؟
- بالفعل لدي مسرحية شعرية كتبتها وتتناول سقوط بغداد وواقعنا العربي بما فيه من أحداث.
*«شيء ما سيبقى بيننا» عنوان لأحد دواوينك الشعرية. فما هذا الشيء الذي سيبقى في رأيك؟
- هناك أشياء كثيرة ستبقى منها الإنسان العربي القادر على صنع حياة أفضل في ظل حالة أكثر كرامة وأكثر إنسانية ومنها أيضا أن مصر ستبقى المنارة.



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».