خفايا وحكايات وراء فيلم سكورسيزي الجديد

«الآيرلندي» افتتح مهرجاني نيويورك ولندن

مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
TT

خفايا وحكايات وراء فيلم سكورسيزي الجديد

مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو

يعيش الممثل المرموق والموهوب فترات طويلة بانتظار الأدوار التي تؤكد له أنه لم يخطئ القرار عندما قرر أن يصبح ممثلاً. ليست أدواراً كثيرة هي تلك التي يدرك حيالها بأن حياته ممثلاً مرتبطة بما إذا كان سيؤديها وكيف. تلك التي تثير خياله وتعيده إلى تلك الفترة الأولى عندما انتمى فجأة إلى المهنة التي أرادها لنفسه، وإلى السبب الذي من أجله اعتنق التمثيل.
غالب المرّات، إذا ما أراد البقاء طافياً على السطح، سيقبل بأدوار لا تجسد كامل طموحه ولا تعبر عن إمكاناته. وهذا ما حدث مراراً وتكراراً مع ممثلين اثنين كل منهما قامة شامخة في فن الأداء هما آل باتشينو وروبرت دي نيرو اللذان يلتقيان تحت مظلة المخرج مارتن سكورسيزي الذي أتيح له منذ اعتناقه مهنته أن يحقق نوعاً واحداً من الأفلام هو النوع الجيد. ربما بتفاوت بعض الأحيان، بل بتميّز وإخلاص لحب السينما في كل الأحيان.
هؤلاء الثلاثة، باتشينو ودي نيرو وسكورسيزي، يلتقون معاً لأول مرّة في «الآيرلندي»، الفيلم الذي افتتح مهرجان نيويورك في دورته الحالية. بعد أن أشيع بأنه سيشهد عرضه العالمي الأول في «كان».
بعد نيويورك وحتى نهاية هذا الشهر، سيعرض في أربعة مهرجانات أميركية آخرى هي «مل فالي» و«هامبتونز» و«سان دييغو» و«شيكاغو». وفي الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل سيشهد عرضاً تجارياً في صالات لوس أنجيليس تلبية لشرط أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي تشترط ذلك العرض التجاري كدخول الفيلم سباق الأوسكار.
- هوفا يطلب الحماية
الأسماء الثلاثة التي تحيط بهذا الفيلم تثير، لوحدها، وبصرف النظر عن سباق الأوسكار، أو أي سباق آخر، النسبة الأعلى من الاهتمام، وتشكل الحدث المنتظر أكثر مما كان الوضع سيكون عليه فيما لو أن هذا المشروع تم من دونهم أو بارتباط واحد منهم فقط به.
هي المرّة الأولى التي يمثل فيها باتشينو في فيلم من إخراج سكورسيزي.
المرّة الأولى التي يمثل فيها باتشينو ودي نيرو معاً في فيلم من إخراج سكورسيزي.
المرّة الأولى التي يمثل فيها دي نيرو في فيلم من إخراج سكورسيزي منذ 24 سنة.
المرّة الأولى التي ينجز فيها سكورسيزي فيلم عصابات منذ أن حقق «الراحل» (The Departed) مع ليوناردو ديكابريو وجاك نيكلسون سنة 2006.
لكنها ليست المرّة الأولى التي يلتقي بها الممثلان باتشينو ودي نيرو في فيلم واحد. في عام 2008 ظهرا معاً في «قتل صائب» (Rightous Kill). فيلم من تلك التي يؤديها الممثل عادة ليدفع بعض فواتير الحياة أو ليبقى على سطح مهنته. كان باتشينو يدرك ذلك عندما حضر ودي نيرو «برميير» الفيلم في روما. نظر إلى الحشد الكبير من المعجبين وهمس لدي نيرو: «لو يعرفون فقط أن هذا الفيلم ليس أكثر بكثير من مجرد فيلم بوليسي عادي».
رد دي نيرو عليه قائلاً: «وجودهم رد فعل رائع، لكن سيكون أفضل لو كنا هنا لفيلم من تلك التي نفتخر بها. في المرّة المقبلة سنمثل معاً في واحد من تلك الأفلام التي نتمناها».
مع «الآيرلندي»، فيلم مارتن سكورسيزي الجديد تتحقق هذه الأمنية بكل ما تحمله من مزايا يوفرها وجود كل واحد من هؤلاء الثلاثة: الإخراج المحترف لسكورسيزي، الأداء ذو النبرة الذي يوفرها باتشينو، وذلك التشخيص الأعمق من الظاهر الذي يتولاه دي نيرو.
في ثلاث ساعات ونصف يقص «الآيرلندي» حكاية رئيس الاتحاد العمالي جيمي هوفا (يؤديه باتشينو) الذي واجه عواصف سياسية وقضايا اجتماعية خلال فترة رئاسته للاتحاد. ولجانبها حكاية رجل العصابات الآيرلندي فرانك شيران (دي نيرو) الذي وفّر للأول الحماية حين طلبها. علاقة عمل وصداقة من نوع خاص تدفع الثاني لتأمين الحماية في وقت تكاثر فيه أعداء هوفا من داخل حركته العمالية، ومن خارجها، وذلك اقتباساً عن كتاب وضعه تشارلز براند سنة 2004 بعنوان «سمعت أنك تدهن البيوت» (I Heard You Paint Houses).
هو عنوان غريب لكتاب يرصد تلك الفترة التي تعامل فيها هوفا وشيران في صف واحد، لكن هذه الغرابة تتبخر حال ندرك أن الجملة ما هي إلا شيفرة للقول «سمعت بأنك تقتل». بذلك فإن الدهان أو الطرش هي بديل لكلمة «قتل».
في كل الأحوال هي العبارة الأولى التي يقولها هوفا لشيران عندما اتصل به مستطلعاً إمكانية العمل معاً.
المشروع تم وضعه على طاولة البحث منذ سنة 2007 (بعد عام واحد من أمنية دي نيرو أن يجد وباتشينو فيلماً ذا قيمة يقومان بتمثيله). وتطلب الأمر 10 سنوات من قبل أن يتفوه سكورسيزي بالكلمة الساحرة «أكشن» لتصوير أول لقطة من الفيلم.
- المطلوب دهّان
لم يكن «سمعت إنك تدهن البيوت» اختيار سكورسيزي وقتها. كانت لديه فكرة أخرى لفيلم عصابات «غانغستر» آخر مأخوذ عن رواية لدون وينسلو بعنوان «شتاء فرانكي ماشين» تدور حول المافيا. وكان الكلام حينها يدور بين المخرج وبين شركة «باراماونت» لإنتاجها مع فكرة الاستعانة بطاقم سكورسيزي من ممثلي أدوار رجال العصابات في أفلامه وعلى الأخص دي نيرو وجو بيشي.
في الوقت ذاته كان دي نيرو مستغرقاً في قراءة كتاب تشارلز براند، وعندما التقى دي نيرو بسكورسيزي أشار له بقراءة هذا الكتاب غير الروائي. سكورسيزي فعل ذلك وغير خطته.
خيوط «الآيرلندي» تمتد عميقاً في علاقة كل من سكورسيزي ودي نيرو السينمائية. لقد أنجزا معاً ثمانية أفلام من قبل، من بينها ثلاثة أفلام عصابات هي «شوارع وضيعة» (Mean Streets) الذي كان، سنة 1973 فيلمهما الأول معاً، و«صحبة طيبة» (1990)، و«كازينو» (1995). وإذا ما سردت هذه الأفلام الثلاثة حكاياتها بالعنف المتوقع منها كونها، في نهاية الأمر، ليست أكثر من أفلام «غانغسترز»، فإن معظم أفلامهما الأخرى معاً لم تخل من العنف كذلك. «تاكسي درايفر» (1976) و«ثور هائج» (1980) و«كايب فير» (1991)، وحتى «ملك الكوميديا» (1982) إلى حد. الفيلم الوحيد بينهما الذي لم ترق فيه نقطة دم ولا سقط فيها ضحايا كان «نيويورك، نيويورك» (1977).
يقول سكورسيزي في كل هذا أن «الآيرلندي» هو نقطة تجمع لكل أفلام العصابات التي حققها: «سريعاً ما بدأت أرى هذا الفيلم في رأسي. بدأت أرى الثيمات وأطالع الأسئلة التي شغلتني طوال حياتي. وجدتها جميعاً في هذا العمل».
«باراماونت» بدورها كانت مستعدة لأي مغامرة من هذا النوع يرأس قائمتها دي نيرو ويذيل توقيعها سكورسيزي. لكن الميزانية كانت تتطور مع تطوّر العمل حتى وصلت إلى 175 مليون دولار. طبعاً هناك أفلام كوميكس تتكلف مثل هذا الرقم وزيادة، لكنها - على أكثر من نحو - مغامرات مضمونة النجاح. هنا دخلت «نتفلكس» على الخط وغطت العجز المطلوب.
التوجه لـ«نتفلكس» كان ضرورياً، رغم أن سكورسيزي هو رجل سينما و«نتفلكس» هي مؤسسة خدمات عروض منزلية. لكن إذ احترمت «نتفلكس» كل متطلبات المخرج، لم يجد سكورسيزي بداً من العمل معها. بدورها لم تكن «نتفلكس» بمنأى عن الذهاب إلى حد تغيير منهجها لأجل هذا الفيلم. يقول لي رندال إيميت، أحد منتجي الفيلم، بأن «نتفلكس» وافقت على أن تعرض الفيلم تجارياً في صالات السينما المنتمية إلى الشركات الكبيرة: «كنا مستعدين لتوزيع 200 نسخة على شاشات المدن الكبيرة، ومنح صالات السينما 75 في المائة من الإيرادات، لكن المفاوضات توقفت وقررنا التعامل مع عدد أصغر من الصالات المملوكة لشركات مستقلة».
- رجل عصابات آخر
دخول آل باتشينو على الخط بدا، قبل أن تدور الكاميرا سنة 2017، أمراً حتمياً لا بسبب رغبة دي نيرو (الذي يتبوأ كذلك منصباً بين منتجي الفيلم) أن يعمل مع باتشينو على «فيلم نوعي» فقط، بل لرغبة سكورسيزي الذي كاد ذات مرّة أن يتعاون مع باتشينو على مشروع فيلم واحد.
حدث ذلك سنة 1973، كان سكورسيزي انتهى من تصوير «شوارع وضيعة»، ولفت عمله المخرج فرنسيس فورد كوبولا الذي كان يحضر لتحقيق الجزء الثاني من «العراب» مع باتشينو في البطولة. لكن كوبولا، وقد أعجبه فيلم سكورسيزي، أبدى استعداده لدى شركة «باراماونت» المنتجة للاكتفاء بدور المنتج، وتسليم قيادة إخراج الجزء الثاني من «العراب» لسكورسيزي. يقول لي منتج «العراب» (الأول) آلبرت رودي متذكراً: «هذا صحيح. حاول كوبولا إسناد مهمّة إخراج الجزء الثاني لسكورسيزي لكني شككت في أن هذا الاختيار صائباً. قلت لكوبولا إنه أسس دعائم فيلم لا يمكن لأحد سواه تحقيقه على هذا النحو. أي مخرج آخر سيذهب بالجزء الثاني صوب نتيجة غير مضمونة. وكان هذا رأي (باراماونت) التي وجدت أن سكورسيزي ما زال طرياً على مشروع كبير كهذا».
طبعاً، لم يمنع ذلك من أن يستعين كوبولا بروبرت دي نيرو ليؤدي دور دون كارليوني في شبابه. براندو أداه كهلاً ودي نيرو أدّاه شاباً، وبما أن باتشينو هو ابن دون كارليوني فإنه لم يكن من الممكن الجمع بين دي نيرو وباتشينو في فيلم واحد.
بدوره، لم تخل مهنة باتشينو من أفلام عصابات. لم يكن من بينها فيلم لسكورسيزي، لكن المخرجين الذين عمل معهم باتشينو هم من الرعيل المميّز لسينما الفترة.
علاقة باتشينو بسينما «الغانغسترز» بدأت من القمة بفيلم كوبولا «العراب» (1972) ومن ثم «العرّاب 2» (1974). بعد هذين الفيلمين بتسع سنوات قام بتمثيل «Scarface» لبرايان دي بالما، ثم مثل دور المجرم بيغ بوي كابريس في فيلم وورن بايتي العصاباتي البديع «دك ترايسي» (1990)، ثم عاد للعمل مع دي بالما «طريقة كارليتو» (1993) ليلتقي بعد ذلك، وللمرّة الأولى، مع دي نيرو في فيلم «حرارة» لمايكل مان (1995). كذلك لديه في النوع ذاته الجزء الثالث من «العراب» (1990).
لدى باتشينو الكثير ليلاحظه على صعيد العمل السينمائي عبر العقود: «في السابق كان هناك وقت أطول للتحضير عموماً. المخرجون كانوا يريدون التأكد من أن الممثل سيكون جاهزاً لتقمص الشخصية التي في البال. لكن اليوم هناك المعرفة الكاملة. ممثل مثل دي نيرو أو أنا، ليس عليه تقديم أوراق اعتماد. بل ينطلق فوراً للعمل بعد قراءة السيناريو والقيام بما عليه القيام به للبحث في الشخصية والتحضير».
ما قرأه باتشينو حول هوفا جعله أكثر اقتناعاً بضرورة البحث في الشخصية الحقيقية: «بحثت في شخصية هوفا طويلاً. الرجل كان مثيراً للاهتمام جداً كشخصية مؤلفة من تراكمات وطبقات بحيث إن أي ممثل جيد يحلم بأن يلعب دوره. لكنه كان إنساناً عادلاً في تعاطيه مع سواه. الشخصية كما قرأت عنها، ثم كما وردت في السيناريو شكلت الحماس الذي ينتابني كلما قرأت عملاً أحلم بتمثيله. وجودي مع سكورسيزي ودي نيرو وهذا الانتماء إلى سينما العصابات الذي شكل جزءاً كبيراً من مهنتي أصبح وعلى نحو تلقائي أمراً ضرورياً لي، وأعتقد أنه كان أمراً ضرورياً لهما كذلك».
وحول علاقته مع دي نيرو يؤكد: «كلانا من جيل واحد. نشأنا في السبعينيات محملين بالآمال والطموحات واستقبلنا الجمهور والنقاد بترحاب كبير. لا أريد أن أقول إننا كنا الأفضل بين كل الممثلين المنتمين إلى تلك الحقبة. هذا غير صحيح، لكننا كنا من تلك المجموعة التي تنبأ لها الجميع بالنجاح وحققنا ذلك بالفعل».
باتشينو ودي نيرو من خريجي فترة واحدة (بدأ كل منهما مسيرته الفعلية سنة 1969) وصعدا معاً إلى القمة في وقت واحد، حيث تبوأ كل منهما مكانته سريعاً على قمة الإجادة. ما خلق بينهما منافسة خفية على الرغم من أنهما لم يلتقيا في تلك الفترة مطلقاً. يقول باتشينو: «طبعاً. كانت (المنافسة) دائما هناك. كنا كثيراً ما ندور حول الأدوار ذاتها. بعضها يؤول عنده وبعضها يؤول عندي».


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».