تشويه كورنيش الإسكندرية التاريخي يفجر موجة غضب بين المواطنين

السلطات تواصل إزالة مادة سوداء ألقاها مجهولون

السلطات المصرية تواصل التحقيق لمعرفة المتسببين في تشويه السور التاريخي (الشرق الأوسط)
السلطات المصرية تواصل التحقيق لمعرفة المتسببين في تشويه السور التاريخي (الشرق الأوسط)
TT

تشويه كورنيش الإسكندرية التاريخي يفجر موجة غضب بين المواطنين

السلطات المصرية تواصل التحقيق لمعرفة المتسببين في تشويه السور التاريخي (الشرق الأوسط)
السلطات المصرية تواصل التحقيق لمعرفة المتسببين في تشويه السور التاريخي (الشرق الأوسط)

فجرّت عملية تشويه سور كورنيش مدينة الإسكندرية التاريخي، موجة غضب بين المواطنين في مصر، بعدما ألقى مجهولون مساء أول من أمس، مادة بترولية سوداء أعاقت جلوس المواطنين عليه.
ويعد الكورنيش التاريخي في الإسكندرية بمنطقة الرمل وبحري والمنشية، معلماً رئيسياً للمدينة، وبوابة لمنطقة الميناء الشرقي التي تحوي نحو 4 آلاف قطعة أثرية غارقة، من بينها أطلال قصر الملكة كليوباترا، وأبنية وقصور الحي الملكي القديم، حسب موقع «اليونيسكو». كما يعد متنفساً رئيسياً للمواطنين الذين يحرصون على التنزه به على مدار العام.
وبينما تواصل السلطات المصرية التحقيق لمعرفة المتسببين في تشويه السور التاريخي، تجري محافظة الإسكندرية عمليات تنظيف مكثفة لإزالة المواد البترولية السوداء.
وقال العميد فادي وديع، رئيس حي وسط الإسكندرية، في بيان صحافي أمس، إنه تم معالجة السور الملوث بطبقة من الرمال لامتصاص الزيوت؛ تلاها إضافة مذيب للزيوت وغسلها بمعرفة شركة النظافة المسؤولة. ولفت إلى أنّه «تم تحرير محضر بالواقعة بقسم الشرطة المختص؛ لفتح تحقيق رسمي لمعرفة أبعاد الواقعة».
وفي سياق منفصل، ناشدت وزارة الصحة المصرية وجامعة الإسكندرية المواطنين، الامتناع التام عن تناول أسماك «الفسيخ»، بعد وفاة سيدة أربعينية إثر تناولها «الفسيخ» أخيراً، بجانب إصابة أكثر من 35 شخصاً بتسمم غذائي، جراء تناول أسماك ملوثة ببكتيريا «البتيوليزم»، حسب الدكتورة مها غانم، مديرة مركز السموم في جامعة الإسكندرية. التي قالت لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «الحالات المصابة تلقت علاجاً مجانياً بلغت قيمته نحو 3 ملايين جنيه مصري» (الدولار الأميركي يعادل 16.3 جنيه مصري)، وتبلغ تكلفة المصل الواحد 100 ألف جنيه مصري.
وأوضحت غانم أنّ «تناول الأسماك الملوثة من دون طهيها على النار، والاكتفاء بتمليحها، يؤدي إلى نشاط البكتيريا المسببة للمرض، التي تسبب شللاً تنفسياً وعضلياً، قد يتطور إلى الوفاة في الحالات المتأخرة».
وكثفت الجهات الحكومية رقابتها على الأسواق، إثر واقعة التسمم، وأعلنت وزارة الصحة ضبط 20 طناً من الفسيخ الفاسد، يحوي ديداناً بيضاء بمحافظة البحيرة القريبة من الإسكندرية، كما ضبطت أجهزة التموين نحو طن ونصف من الأسماك الفاسدة بأسواق الإسكندرية.
وانتقدت غانم ما وصفته بتجاهل المواطنين للتحذيرات المتتالية؛ لافتة إلى أنّ «أغرب حالات المرضى كانت لطفلة عمرها 18 شهراً فقط، أطعمتها أمها عجينة السمك الملوث؛ ونجت بأعجوبة من الموت، بعد تلقيها علاجاً مكثفاً تضمن 4 أضعاف الجرعة المقررة من المصل للأطفال».
وتعتبر منظمة الصحة العالمية (who) أنّ السموم التي تولدها هذه البكتيريا من أشد أنواع السموم خطورة وفتكاً، إذ تؤثر على الجهاز العصبي، ويستغرق ظهورها من 4 ساعات وحتى ثمانية أيام كحد أقصى؛ ويعد أبرز أعراضها الوهن والدوار وتغيم الرؤية وجفاف الفم، وقد يصاحبها إسهال أو قيء.
وأعلنت جامعة الإسكندرية أنّها تجري دراسة علمية لمعرفة سبب الحادث الذي وصفته في بيان صحافي، بأنّه «خطير وغير مسبوق».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)