«زهور فان غوخ» تُحاذي السيرة لكنها تجنح للخيال

رواية السعودي مقبول العلوي لا تخلو من لمسات تشويق بوليسي

«زهور فان غوخ» تُحاذي السيرة لكنها تجنح للخيال
TT

«زهور فان غوخ» تُحاذي السيرة لكنها تجنح للخيال

«زهور فان غوخ» تُحاذي السيرة لكنها تجنح للخيال

يُعدّ القاص والروائي السعودي مقبول العلوي أكثر مجايليه ولعاً بالسِير الذاتية للأدباء والفنانين والمفكرين، فقد سبق له أن اشتغل على سيرة «الطائر الأسود ذي الصوت الجميل» في رواية «زرياب»، واستعاد محنة الحلاج وفاجعته المعروفة في رواية «طيف الحلاج»، وها هو اليوم يوظِّف السيرة الذاتية للفنان الهولندي فنسنت فان غوخ ويتعالق مع معطياتها التقنية والجمالية في رواية «زهور فان غوخ» الصادرة عن «دار الساقي» ببيروت.
لا تخلو «زهور فان غوخ» من لمسات بوليسية مشوّقة رغم أنها تبدأ بداية واقعية لكنها سرعان ما تقع في الفنتازيا وتحلّق بنا إلى فضاءات غريبة تقلب حياة الراوي العليم حميد وزوجته وفاء رأساً على عقب. تغطي الرواية أزمنة مختلفة لعلها تمتد إلى عام 1853. السنة التي وُلد فان غوخ في بلدة زونديرت الهولندية حتى 13-10-2017. وهو التاريخ الذي أنهى فيه مقبول العلوي كتابة روايته. أما الأمكنة فتغطي ست دول وهي السعودية ومصر وهولندا وبلجيكا وفرنسا والمملكة المتحدة، كما تتشعّب إلى مدن أخرى في البلد الواحد. يعمل الراوي، الذي سنعرف لاحقاً أنّ اسمه حميد، في شركة لصيانة السيارات في مكة المكرمة، وقد انتقل إليهم منذ ثلاثة أشهر موظف يُدعى فيصل لا يعرف أحداً في المدينة، وقد التمس من حميد أن يذهب معه إلى أحد «الحراجات» ليقتني الأثاث المستعمل ويهيئ المنزل قبل مجيء زوجته سارة، وهي ابنة عمه الذي كان يدرس في لندن، وتزوج من امرأة بريطانية أنجبت له بنتاً جميلة، باهرة القَسَمات. بينما كان فيصل منهمكاً في شراء قطع الأثاث عثر حميد على لوحة صغيرة يضم تكوينها مزهرية فيها زهور صفراء، ووردتين لونهما أحمر قانٍ، وبعد أكثر من مساومة اشتراها حميد بخمسة وعشرين ريالاً. استعار حميد سيارة صديقه فيصل فوجد في دُرجها ألبوم زفافهما وأخذ يقلّب صفحاته حتى انتقى صورة مغرية لسارة بابتسامتها العذبة، وجمالها الأخّاذ. دسّ الصورة في مجلة نسائية ثم وضعها في كيس بلاستيكي تاركاً إياه تحت أحد المقاعد المحطّمة في العِليّة. لم يمضِ وقت طويل حتى أخبره فيصل بأن اللوحة التي اقتناها بهذا الثمن البخس إنما هي لوحة «زهور الخشخاش» للفنان الهولندي فان غوخ وأن ثمنها يساوي ملايين الدولارات. عندها فقط دهمته المخاوف من سرقتها فأخذها إلى عليّة «الكراكيب» وخبأها في بطانة المقعد الجلدي بعد أن لصقه بالغُراء إلى أن يتدبّر أمر بيعها لأحد جامعي التحف الخليجيين. تتفاقم الأحداث حين يكتشف أن زوجته قد تبرعت بالأثاث المستعمل في العليّة إلى عائلة أبي فياض وزوجته العجوز وبعد جهد جهيد يستعيد اللوحة والصورة المثيرة لسارة. وكي يقطع الشك باليقين يراسل الدكتور مبارك صادق، أستاذ تاريخ الفن في الجامعة ليكتشف أن اللوحة أصلية وليست مزيّفة، فيبيعها حميد بمبلغ ثلاثة ملايين دولار لمشترٍ خليجي. (تتكرر عملية سرقة «زهور الخشخاش» من متحف محمد محمود خليل في القاهرة بعملية غامضة، ولا تزال اللوحة الأصلية مفقودة حتى لحظة الانتهاء من كتابة هذه الرواية).
لا يغطي العمود الفقري كل الأحداث التي تنطوي عليها الرواية، فما إن يأتي الراوي العليم على ذكر اللوحة التي يُظن أن غوخ رسمها عام 1887، أي قبل «مقتله» بطلق ناري بثلاث سنوات حتى تشتبك الأحداث وتتعشق الرواية بنسقَين سرديين آخرَين، الأول تدور أحداثه في القاهرة، والثاني في أربعة بلدان أوروبية. وفي كل نسق سردي خيالي ثمة أبطال جُدد إلى جانب فان غوخ الذي أخذت الرواية عنوان إحدى لوحاته المشهورة. ففي القاهرة ثمة شخصيتان وهما رؤوف سعيد، وزوجته الفرنسية إيملين. وبما أنّ ابنة رؤوف تحتاج إلى إجراء عملية استئصال الكُلية فيجد نفسه مضطراً للموافقة على سرقة لوحة «زهور الخشخاش» مقابل مبلغ مادي، وتسليمها إلى محسن الرمّال الذي أخذها بدورة إلى ابن خاله عمران، الطالب بكلية التربية في جامعة حلوان، وطلب منه إنجاز نسخة طبق الأصل من هذه اللوحة خلال أسبوع واحد لا غير. وضع محسن النسخة الأصلية في حقيبة شقيقه صلاح الذي يعمل أستاذاً مُعاراً في الكويت، وبينما هو يؤدي مناسك العُمرة إلى بيت الله الحرام فقد كل حقائبه، ولعل اللوحة الأصلية ذهبت إلى حراج المعيصم فاقتناها الراوي بريالات معدودة.
أفاد الروائي مقبول العلوي من السيرة الذاتية لفان غوخ واستثمر أحداثها على مدار النص مستعيداً كل المحطات الأساسية في حياة هذا الفنان الكبير منذ طفولته، وصباه، وأيام شبابه الأولى قبل أن ينتقل للعمل في لندن، ويستأجر غرفة عند أورسولا التي أحبها من طرف واحد لكنه وجد نفسه مشرّداً لأنه لم يستطع دفع الإيجار. فعاد إلى بروكسل كي يدرس هناك ويتعلم أصول الرسم لكن «الأكاديمية وصفت رسومه بالبدائية والضحلة»، فسافر إلى باريس التي كانت تحتضن أعمال الفنانين الانطباعيين أمثال رينوار، وكلود مونيه، وديغا، وسيسلي. ومع ذلك لم يرغب في البقاء بباريس فقرر الانتقال إلى الجنوب حيث الشمس الساطعة، والدفء الحميم، والبحر المفتوح على المدى الأزرق. وجّه الدعوة لغوغان فجاءه على السرعة، ومكث معه شهرين ثم غادر لأنه مزاجه لا ينسجم مع مزاج غوخ الكئيب والمتوحد فسقط على فراش المرض، وتناوشه الهذيان والجنون حتى قطع شحمة أذنه اليسرى قبل أن يطلق النار على نفسه من فوّهة مسدس لا يعرف أحد من أين أتى به. وبعد ستة أشهر توفي شقيقه ثيو وكانت وصيته أن يُدفن إلى جوار شقيقه الذي قال في إحدى رسائله «إن الحزن يدوم إلى الأبد».
نخلص إلى القول إن رواية «زهور الخشخاش» كتبها روائي محترف تتطور خبرته السردية يوماً بعد يوم، ويبدو أن تخصصه الدقيق في التربية الفنية قد ساعده في استلهام هذه «الرواية التشكيلية»، إن صحّ التعبير، لأنها قائمة على فكرة لوحة فنية معروفة يقف خلفها مبدع كبير تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، كما أنّ لغة الرواية سلسة جداً، وخالية من التزويق اللفظي، والتشبيهات المقعّرة التي تتعالى على القارئ. إنها رواية واقعية لكنها تجنح إلى الخيال، وتمنح القارئ فرصة لتغذية خياله أيضاً.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».