كاتب مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» جاك ثورن... قصة نجاح

مجلة «إيكونوميست» أطلقت عليه لقب «شاعر بريطانيا»

مسرحية  «هاري بوتر والطفل الملعون» في لندن (غيتي)
مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» في لندن (غيتي)
TT

كاتب مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» جاك ثورن... قصة نجاح

مسرحية  «هاري بوتر والطفل الملعون» في لندن (غيتي)
مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» في لندن (غيتي)

لا يجد جاك ثورن غضاضة ولا تنقصه الأسباب ولا الأساليب في وصف نفسه بالشخصية غريبة الأطوار. «أنا شاب مشوش الفكر، علاقاتي مع الناس أقل من عادية، وعلّتي الوحيدة هي طريقتي في التفكير».
يشير إلى ملصق حائطي للفنان الإنجليزي رالف ستيدمان معلق على جدار مكتبه المنزلي المليء بالكتب حتى السقف، في صورة تنمّ عن بشاعة واضحة تستثير مكامن الاعتراض والتأفف لدى كل من يطالعها، حتى وإن كان ولده إليوت الذي لم يتجاوز العام الثالث من عمره. يبتسم جاك، وهو يقول: «أحب هذه الصورة للغاية... إنها تعبّر عن مكنون كراهيتي لذاتي».
يصف جاك ثورن، الكاتب الإنجليزي الذي يجاوز العقد الرابع من عمره بقليل، أغلب مراحل حياته بأنها سلسلة متتابعة ومظلمة من رواية ذات فصول بائسة، ومن بين ذلك علة جلدية معيقة لازمته، وأثرت عليه منذ سنوات، ولا تزال.
غير أنه يجد نفسه الآن في بقعة لم يكن ليتصور بلوغها في يوم من الأيام؛ فلقد تزوج وأنجب، ودخلت حياته المهنية على مستوى المسرح والسينما والتلفزيون في مرحلة ازدهار جعلته واحداً من أكثر مؤلفي الروايات والقصص روعة وإثارة للاهتمام في العالم المعاصر.
ونال جاك ثورن جائزة «أنطوانيت بيري للتميز في مجال المسرح»، المعروفة إعلاميّاً باسم جائزة «توني»، التي تُمنَح للعروض المسرحية الأميركية المتميزة، وذلك عن أولى مسرحياته التي ألفها في برودواي، حيث كتب السيناريو لمسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» ذات الحضور العالمي الكبير. ومن أعماله السينمائية البارزة كان فيلم بعنوان «ذي أيرونوتس»، إنتاج العام الحالي (2019)، مع الممثل البريطاني إيدي ريدماين، وله فيلم من إنتاج العام المقبل تحت عنوان «ذي سيكريت غاردن»، (مع الممثل البريطاني كولين فيرث).
كما سجل أول حضور له خلال موسم الصيف الحالي في مؤتمر «سان دييغو كوميك كون إنترناشيونال» للكتب المصورة بالولايات المتحدة الأميركية، من خلال الترويج لروايته الجديد تحت عنوان «هيز دارك ماتيريالز»، التي سوف تتحول إلى مسلسل قيد الإنتاج لدى «هيئة الإذاعة البريطانية» بالتشارك مع شركة «إتش بي أو» الأميركية، وكان قد اقتبس مادتها الفنية من روايات المبدع فيليب بولمان الخيالية.
ظل جاك ثورن يكتب الروايات والسيناريوهات للتلفزيون منذ أن كان يبلغ 25 عاماً من عمره، وحصل خلال تلك الفترة على خمس جوائز «بافتا – جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام»، وهي الجائزة البريطانية المكافئة لجوائز «إيمي» للمسلسلات والبرامج التلفزيونية الأميركية. وأشاد الجمهور والنقاد أيما إشادة بالمسلسل التلفزيوني القصير الرائع «ناشيونال تريجر» حول فنان كوميدي متهم بحادثة اغتصاب. وسوف تعرض له شبكة «نيتفليكس» الترفيهية الأميركية العام المقبل أولى حلقات المسلسل الموسيقي الجديد بعنوان «إيدي» للمخرج الأميركي الفرنسي داميان شازيل، وهو من تأليف جاك ثورن، كما تلقى جاك التكليف مؤخراً بكتابة مسلسل درامي عائلي جديد لصالح «هيئة الإذاعة البريطانية».
وكانت مجلة «إيكونوميست» قد نشرت مقالاً في يونيو (حزيران) الماضي تتحدث فيه عن شخصية المؤلف جاك ثورن وتخلع عليه لقب «شاعر بريطانيا»، وقالت عنه إنه «يمثل للتلفزيون البريطاني الحديث ما كان يمثله تشارلز ديكنز تماماً للرواية الفيكتورية. إنه مؤرخ قصصي للحكايات والروايات التي يحجم كثيرون من غيره عن سردها أو التطرق إليها، واصفاً عِلَل المجتمع ببراعة فائقة، محاولاً إماطة اللثام عن الدراما المحلية التي تحيط بها وتغلفها عن عيون الناس».
ويشهد مسرح «رويال كورت» في لندن، موسم الصيف الحالي، مسرحية درامية تستند إلى مراحل حياة وتنشئة جاك ثورن بنفسه. وفي خريف العام الحالي، سوف تُعرَض له مسرحيتان على خشبة مسرح نيويورك؛ مسرحية تحمل عنوان «صنداي»، وتدور حول نيويورك في عشرينات القرن الماضي وشبابها الغض الذين يبحرون في مجاهل المدينة الكبيرة في أوائل حياتهم، وسوف تُعرَض هذه المسرحية في جولة عالمية خارج مسارح برودواي للمرة الأولى من خلال «أتلانتيك ثياتر كومباني»، ثم هناك مسرحية بعنوان «كريسماس كارول»، وهي تمثل اقتباسه المسرحي الشهير لرواية تشارلز ديكنز الكلاسيكية، وسوف تُعرض على مسارح برودواي الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
يقول جاك ثورن في مقابلة شخصية حديثة أُجرِيَت معه في منزله الذي يعيش فيه مع زوجته راشيل ماسون وولده إليوت في حي إزلنغتون بغرب العاصمة لندن: «إنني أعمل بجدية أكثر مما فعلتُ في أي وقت مضى من حياتي. وإنني مدرك لأفول نجم شهرتي ومعرفة الناس بي في وقت ليس بالبعيد، ولذا تحدوني رغبة عارمة كي أتلو كل ما أتمكن من تلاوته من قصص وحكايات على الناس حين لا يزالون مهتمين بجاك ثورن وأقاصيصه».
وتقول سونيا فريدمان، كبيرة منتجي مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» الشهيرة عن جاك ثورن: «إن هذا النوع من إنكار الذات هو ما يؤجج أعماله وبلوغها حدّاً من النجاح غير مسبوق».
لا يعدو مكتب جاك ثورن الخاص أكثر من كونه غرفة وحيدة في منزله، ويضم أعماله وتحفه الفنية البديعة، ورغم أنه يحتفظ بالجانب الأكبر من جوائزه في قبو المنزل، إلا أنه قبو مليء بكنوز أخرى ذات مغزى عميق للرجل ولفنونه.
,يضمّ قبو جاك ثورن الخاص رسوماً لعصي سحرية وصولجان من تصميم الفريق الفني لمسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون»، فضلاً عن إطار خشبي يضم ملابس طفل وليد يُذكره بميلاد طفله الوحيد (إليوت). ويقول جاك عن ذلك: «لا بد أنني أحب أن تطاردني ذكريات حياتي الماضية أينما حللت».
- دوافع ممتزجة
جاك ثورن شخص فارع يقارب المترين طولاً، وجسده عبارة عن كتلة متقدة من الطاقة العصبية المحتدة. وغالباً ما تراه يعبث بأصابع قدميه في ملل واضح. وهو أكثر شتاتاً للفكر مما يصرفه عن ركوب الدراجات، كما أنه شخصية كارهة لمترو الأنفاق مما يجعله يقطع المسافات الطويلة سيراً على الأقدام، وتراه يقول: «إن المكوث في الأنفاق هو أكثر الأشياء إزعاجاً في الحياة».
كما أنه يعاني من «لعثمة» لفظية بادية (تلك التي تسبب له عائقاً في الحديث المتصل)، مما يُفضي به في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بعبارة «هل تدركون ما أقصده كما تعلمون؟»، التي يقولها بالإنجليزية في منطوق واحد غير مفهوم. وهو يجد ذلك الأمر مثيراً للسخط في نفسه، ويقول: «لا تعني هذه العبارة شيئاً لأحد قط، وددتُ لو أنني أستطيع الحديث بشكل متماسك مثل الآخرين».
وفي إشارة إلى أعداده لرواية «هيز دارك ماتيريالز»، يقول إن الناس في الرواية يقترنون بالشياطين التي تتبدى لهم في الحياة على صور حيوانات متنوعة تعكس الشرور التي تعتمل داخل أنفسهم: «أعتقد أن شيطاني المفضل سوف يظهر على صورة طائر نقار الخشب، لأنه لا يفارق مخيلتي أبداً، دائم الطيران والطنين فوق رأسي، ويأمرني بكل فجاجة بما أقول وما لا يجب أن أقول!».
صارت الكتابة المستمرة لدى جاك ثورن نوعاً من أنواع الإكراه المحبب؛ المهنة التي لا تجلب على قلبه السرور فحسب، وإنما ينعم بسببها بقدر لا بأس به من الهدوء الذاتي: «أقابل حالما أشرع في الكتابة أناساً آخرين لم أكن أعرفهم، وأصبح برفقتهم أفضل حالاً. إنها الكتابة والبحر... أفرّ إليهما فراري من العالم المحيط بي محاولاً العثور على نفسي».
فما الذي يجمع بين الكتابة والبحر لدى نفسية جاك ثورن؟ يجيب قائلاً: «إنها الوحدة أو الانفراد بالذات تماماً. فعندما أسبح في البحر فإنني أغادر واقعي بالكلية، وأعتقد أنني ألحظ أثراً مماثلاً يعتريني فور شروعي في الكتابة إلى حد كبير».
يقدر جاك ثورن أن مؤلفاته قد بلغت أكثر من أربعين مسرحية حتى الآن، كما أنه (وللغرابة) يعمل على ثلاثة مؤلفات في آن واحد! إذ ينتقل بينهما في تقافز غريب كلما عرضت له عثرة من العثرات: «لا أحتمل العمل على رواية واحدة في وقت واحد أبداً. فعندما أتعثر في رواية من الروايات تتبدى بشاعة الأمر أمام عيني، وألعن نفسي لعناً كبيراً، ولا أظن أنني سأفلح في مجال الكتابة بعدها أبداً. فمن اللطيف حقّاً أنني أستطيع التهادي بين هذه الرواية وتلك في الوقت نفسه، فأشعر بارتياح داخلي ويساروني شعور بأن كل شيء قد صار على ما يرام».
وكما هو الواقع، لا تفلح كل المحاولات أبداً. فلقد رُفضت مشاركة جاك ثورن في تأليف الحلقة التاسعة من «حرب النجوم» فور تغيير المخرج المشرف على إخراج الفيلم الجديد. كما أنه ألف كتاباً لاقتباس مسرحي بميزانية هائلة لفيلم «كينغ كونغ» الشهير، ولكنه لم يلقَ استحساناً من المنتجين، وألغيت فكرة اقتباس الفيلم وعرضه على مسارح برودواي، رغم أن المنتجين أنفسهم كانوا يأملون في إحياء المسرحية بنسختها الموسيقية في شنغهاي.
يقول جاك ثورن عن الأمر: «كان وقتاً عصيباً للغاية. شعرت بأن هناك نوعاً من الافتراضات المسبقة بأنني صرتُ مندوب مبيعات تجارية، كنتُ أدرك أنني أتلمّس أولى خطواتي في مدينة لا تكترث لأمري البتة».
ولكنه يقسو على نفسه في انتقادها: «هناك أشياء لم يُكتب لها النجاح في هذا العرض. وأعتقد أنني أصبتُ بذعر لا مبرر له، ذلك لأن المراجعات الأولى لم تنجح على الإطلاق، ولم أكن مخلصاً تمام الإخلاص فيما أحاول فعله، ربما كان حريّاً بي أن أنتج شيئاً أكثر عمقاً وذكاء. لقد وقعت في حالة مرضية شديدة الوطء على نفسي».

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

بيروت تحتفل بـ«التناغم في الوحدة والتضامن»... الموسيقى تولّد الأمل

يوميات الشرق يهدف الحفل إلى تزويد اللبنانيين بجرعات أمل من خلال الموسيقى (الجامعة الأميركية)

بيروت تحتفل بـ«التناغم في الوحدة والتضامن»... الموسيقى تولّد الأمل

يمثّل الحفل لحظات يلتقي خلالها الناس مع الفرح، وهو يتألّف من 3 أقسام تتوزّع على أغنيات روحانية، وأخرى وطنية، وترانيم ميلادية...

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق أبطال أحد العروض المسرحية ضمن فعاليات مهرجان المسرح الكوميدي في بنغازي (وال)

بنغازي الليبية تبحث عن الضحكة الغائبة منذ 12 عاماً

بعد انقطاع 12 عاماً، عادت مدينة بنغازي (شرق ليبيا) للبحث عن الضحكة، عبر احتضان دورة جديدة من مهرجان المسرح الكوميدي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)