ارتفاع حاد لسندات لبنان الدولارية مع تفاؤل المستثمرين بالإصلاحات

الرئيس الجديد طمأن المودعين بأنه لن يتهاون في حماية أموالهم

الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
TT

ارتفاع حاد لسندات لبنان الدولارية مع تفاؤل المستثمرين بالإصلاحات

الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)

ما إن انتخب مجلس النواب اللبناني العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد، بعد أكثر من عامين على الشغور الرئاسي، حتى عززت سندات لبنان الدولارية مكاسبها مسجلةً ارتفاعاً حاداً وسط تفاؤل بإجراء إصلاحات في بلد مزقته الحروب، وأنهكت اقتصاده الذي تناوله عون في خطابه بعد إدلائه بالقسم، حين شدّد على تمسكه الثابت بمبادئ الاقتصاد الحر.

وقد شهدت سندات لبنان الدولية بآجالها كافة، الخميس، ارتفاعاً إلى أكثر من 16 سنتاً للدولار، من حوالي 13 سنتاً يوم الأربعاء، وذلك بعدما كانت وصلت إلى أدنى مستوياتها عند 6.25 سنت في عام 2022، رغم أنها لا تزال أدنى بكثير من أسعار سندات دول أخرى تخلفت عن سداد التزاماتها في العام نفسه.

جوزيف عون يسير بعد انتخابه رئيساً للبنان في مبنى البرلمان ببيروت (رويترز)

وكان لبنان أعلن التخلف عن سداد ديونه في ربيع عام 2020 بعد أن سقط النظام المالي في البلاد في أزمة اقتصادية عميقة في 2019.

وتأتي هذه الزيادة في قيمة السندات في وقت بالغ الحساسية، حيث لا يزال الاقتصاد اللبناني يترنح تحت وطأة تداعيات الانهيار المالي المدمر الذي بدأ في 2019، إذ يواجه أزمة مصرفية ونقدية وسياسية غير مسبوقة استمرت أكثر من ثلاث سنوات، أثرت بشكل عميق على استقراره النقدي، مما جعله واحداً من أكثر البلدان عُرضة للأزمات المالية في المنطقة. ومنذ بداية هذه الأزمة، شهد الاقتصاد انكماشاً حاداً ناهز 40 في المائة، مما أدى إلى تدهور ملحوظ في جميع القطاعات الاقتصادية. كما فقدت الليرة اللبنانية ما يقارب 98 في المائة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، مما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معاناتهم. في الوقت نفسه، سجل التضخم معدلات غير مسبوقة، مما زاد من الأعباء المالية على الأسر. وفي الوقت ذاته، خسر المصرف المركزي اللبناني ثلثي احتياطياته من النقد الأجنبي، مما أضعف قدرته على دعم العملة المحلية وضمان استقرارها.

ويرى مراقبون أن الارتفاع القوي لسندات ما يعرف باليوروبوندز ينبع من التفاؤل بأن انتخاب عون رئيساً جديداً سيفتح الباب على تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية مطلوبة بشدة. ويعدون أن هذا من شأنه أن يمهد الطريق لإعادة هيكلة السندات الدولية في نهاية المطاف.

لكن التحدي هو في اختيار رئيس للوزراء، والإسراع في تشكيل حكومة تعمل على تمرير الإصلاحات بالتعاون مع مجلس النواب.

وقال سورين ميرش، مدير المحافظ في «دانسكي بنك» في كوبنهاغن الذي بدأ بشراء السندات اللبنانية في سبتمبر (أيلول): «إذا تمكن لبنان من انتخاب رئيس جديد، فأتوقع أن ترتفع السندات. فانتخاب رئيس يعني على الأرجح تعيين رئيس وزراء، وتشكيل حكومة فعّالة بدلاً من تلك القائمة بالوكالة»، وفق «بلومبرغ».

وتوازياً، شهدت الأسواق اللبنانية حالة من التهافت على شراء الليرة اللبنانية، حيث عدّ كثير من اللبنانيين أن انتخاب عون قد يُشكّل بداية مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي، ما قد ينعكس إيجاباً على العملة المحلية. ومع الآمال التي علّقها البعض على تحسن الوضع الاقتصادي، يتوقع كثيرون أن تشهد الليرة تحسناً مقابل الدولار في ظل التفاؤل الذي صاحب هذه الخطوة السياسية المهمة.

الاقتصاد في خطاب عون

في خطابه الأول بعد انتخابه رئيساً، شدّد عون على تمسكه الثابت بمبادئ الاقتصاد الحر، مؤكداً على أهمية بناء قطاع مصرفي يتمتع بالاستقلالية التامة، بحيث لا يكون الحاكم فيه سوى القوانين. كما بعث برسالة واضحة ومباشرة إلى المواطنين والمودعين، مؤكداً أن حماية أموالهم ستظل على رأس أولوياته، معلناً أنه لن يتهاون في هذا الملف الذي يمثل تحدياً كبيراً.

أعضاء من الجيش اللبناني يقفون خارج فرع «بنك بلوم» في بيروت (رويترز)

وأكد عزمه على بناء علاقات قوية مع الدول العربية، التي تُعد شريكاً رئيساً في إعادة الإعمار، ودعم لبنان اقتصادياً، لا سيما وأن تعزيز هذه العلاقات سيسهم في الحصول على الدعم المالي العربي، وتحفيز النمو من خلال جذب الاستثمارات، وفتح قنوات التعاون مع دول دعمت لبنان في فترات سابقة.

تحديات

إلا أن تحديات كبيرة تواجه الرئيس. فهل سيتمكن عون من تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لانتشال لبنان من أزمته الراهنة وتحقيق الاستقرار المالي؟

يتصدر ملف الإصلاحات الاقتصادية أولويات الاستحقاقات الوطنية في لبنان، ويُعد البوابة الأساسية لاستعادة الاستقرار المالي والانطلاق نحو تعافي الاقتصاد المترنح. وتتجاوز أهمية هذه الإصلاحات تحسين الوضع الداخلي، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة إعادة الإعمار والحصول على الدعم المالي. وفي هذا السياق، يُتوقع أن يُعاد إحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف التوصل إلى اتفاق ينص على تأمين الدعم المالي مقابل التزام الحكومة بحزمة إصلاحات هيكلية ومالية تشمل تحسين إدارة القطاع العام، ومكافحة الفساد، وتحرير الاقتصاد من القيود التي تعرقل نموه. وتُعد هذه الإصلاحات حجر الزاوية في عملية إنقاذ لبنان، حيث تشكل الأساس للحصول على الدعم الدولي بشتى أنواعه.

وفي ظل استمرار لبنان في معركته ضد الدين العام الهائل الذي بلغ نحو 140 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، سيواجه الرئيس الجديد مهمة شاقة تتمثل في إرساء الاستقرار المالي الذي من شأنه أن يعزز الثقة المتجددة في النظام الاقتصادي اللبناني، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الديْن العام، وبدء مفاوضات جادة مع الدائنين.

كذلك ستتجه الأنظار إلى آفاق جديدة في إدارة الاقتصاد اللبناني، لا سيما فيما يتعلق بإعادة استقرار سعر صرف الليرة، التي سجلت اليوم 89 ألف ليرة مقابل دولار واحد، بعد أن كانت عند 1500 ليرة في عام 2019. وتبدي الأوساط الاقتصادية أملاً كبيراً في تحسن الوضع المالي بفضل السياسات النقدية الجديدة التي سيقودها حاكم أصيل لمصرف لبنان. ومن هذا المنطلق، يعد انتخاب عون خطوة محورية نحو تحقيق بيئة سياسية أكثر استقراراً، وهو ما يسهم في تعزيز الثقة في النظام النقدي اللبناني المتأزم.

علاوة على ذلك، تقع على الحكومة المقبلة سياسات مالية تهدف إلى تقليص العجز في الموازنة العامة من خلال تحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وزيادة الإيرادات المحلية. ويُعد التركيز على مكافحة الفساد والتهرب الضريبي من بين الأولويات الرئيسة التي يجب أن تسعى الحكومة إلى تحقيقها في الفترة المقبلة، في خطوة تهدف إلى استعادة الثقة بالمؤسسات الحكومية وتحقيق الشفافية المالية، خاصة وأن مسح البنك الدولي السنوي الأخير عن الحوكمة والإدارة الرشيدة لعام 2024 صنف لبنان في المرتبة 200 عالمياً من أصل 213 دولة، والمرتبة الـ16 بين 20 دولة عربية من حيث فاعلية الحكومة.

إضافة إلى هذه التحديات الاقتصادية العميقة، يواجه عون أيضاً صعوبة في تعزيز البنية التحتية المتدهورة للبلاد، مثل قطاع الكهرباء الذي يُعد من العوامل الأساسية التي تثقل كاهل الدين العام (حوالي 45 مليار دولار من إجمالي قيمة الدين العام)، وتستهلك جزءاً كبيراً من الموارد العامة دون أن تقدم تحسينات ملموسة في الخدمات المقدمة للمواطنين.

احتفالات شعبية بعد انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزيف عون رئيساً للبنان (رويترز)

إن لبنان اليوم يقف أمام اختبار اقتصادي بالغ الأهمية في تاريخه الحديث، حيث تأمل البلاد في التغلب على أزماتها الاقتصادية الحادة، مدعومةً بدعم عربي ودولي حيوي يسهم في تحقيق الاستقرار وإعادة البناء.


مقالات ذات صلة

تراجع الأسهم الأوروبية بعد مكاسب الإنفاق الألماني... والأنظار نحو «الفيدرالي»

الاقتصاد مخطط مؤشر الأسهم الألماني «داكس» على شاشة كبيرة في بورصة فرنكفورت (رويترز)

تراجع الأسهم الأوروبية بعد مكاسب الإنفاق الألماني... والأنظار نحو «الفيدرالي»

تراجعت الأسهم الأوروبية، يوم الأربعاء، بعد يوم من المكاسب القوية التي حقّقتها بفضل موافقة البرلمان الألماني على زيادة ضخمة في الإنفاق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد ترمب بالمقصورة الرئاسية أثناء جولته في مركز جون إف كينيدي للفنون المسرحية في واشنطن (أ.ف.ب)

ترمب يقول إن الركود يستحق التكلفة لتحقيق انتعاش طويل... والخبراء يخالفونه

هل يستحق التسبب بالركود الثمن الذي سيدفعه المواطن الأميركي، بل العالم كله، مقابل الوعد بتحقيق خفض في التضخم، الذي من أجله خاض دونالد ترمب الانتخابات؟

إيلي يوسف (واشنطن)
الاقتصاد شعار بنك كوريا يظهر في أعلى مبناه بسيول (رويترز)

محضر اجتماع «بنك كوريا»: تباطؤ أسرع من المتوقع... ومخاوف من رسوم ترمب

أظهر محضر اجتماع البنك المركزي الكوري الجنوبي أن غالبية أعضاء المجلس لاحظوا أن رابع أكبر اقتصاد في آسيا يفقد زخمه بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً.

«الشرق الأوسط» (سيول )
الاقتصاد أوراق نقدية من فئة اليورو (رويترز)

ارتفاع طفيف في عائدات سندات اليورو قبيل تصويت برلماني ألماني

سجّلت عائدات سندات حكومات منطقة اليورو ارتفاعاً طفيفاً يوم الثلاثاء، وسط ترقب المستثمرين لتصويت برلماني ألماني قد يمهّد الطريق لزيادة كبيرة في الاقتراض الحكومي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متسوقون داخل متجر «كولز» في رامزي بنيوجيرسي (أ.ب)

انتعاش معتدل لمبيعات التجزئة الأميركية في فبراير

انتعشت مبيعات التجزئة الأميركية في فبراير (شباط)، مما يعكس استمرار نمو الاقتصاد في الربع الأول، وإن كان بوتيرة معتدلة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الأسهم الأميركية ترتفع مع ترقب قرار «الفيدرالي»

متداول يعمل في بورصة نيويورك (أ.ب)
متداول يعمل في بورصة نيويورك (أ.ب)
TT

الأسهم الأميركية ترتفع مع ترقب قرار «الفيدرالي»

متداول يعمل في بورصة نيويورك (أ.ب)
متداول يعمل في بورصة نيويورك (أ.ب)

سجلت الأسهم الأميركية ارتفاعاً يوم الأربعاء، حيث تترقب «وول ستريت» قرار مجلس «الاحتياطي الفيدرالي» المرتقب بشأن مسار أسعار الفائدة. وارتفع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 0.3 في المائة في التعاملات المبكرة، فيما ارتفع مؤشر «داو جونز» الصناعي بمقدار 129 نقطة أو 0.3 في المائة ومؤشر «ناسداك» المركب بنسبة 0.5 في المائة.

وتأتي هذه المكاسب بعد فترة من التقلبات الحادة التي هزّت الأسواق، وسط حالة من الغموض حول مدى تأثير سياسات الرئيس دونالد ترمب على الاقتصاد الأميركي، حيث يسعى لإعادة وظائف التصنيع إلى الولايات المتحدة وتقليص أعداد العاملين في الحكومة الفيدرالية بشكل كبير، وفق «وكالة أسوشييتد برس».

وقد تسببت سلسلة من إعلانات ترمب، لا سيما بشأن الرسوم الجمركية، في تأجيج المخاوف من أن الشركات والمستهلكين قد يترددون في الإنفاق، مما قد يضغط على النشاط الاقتصادي. وإذا ضعف الاقتصاد بشكل ملحوظ، فقد يلجأ «الاحتياطي الفيدرالي» إلى خفض أسعار الفائدة لدعمه، كما فعل في حالات الركود السابقة. حالياً، يتراوح سعر الفائدة الرئيسي بين 4.25 في المائة و4.50 في المائة، ما يمنح البنك المركزي مساحة للمناورة.

لكن الوضع هذه المرة أكثر تعقيداً، حيث قد يؤدي خفض الفائدة إلى زيادة التضخم، الذي يواجه بالفعل ضغوطاً تصاعدية بسبب الرسوم الجمركية. ويشكل ذلك تحدياً كبيراً لـ«الاحتياطي الفيدرالي»، الذي لا يمتلك أداة مباشرة لمعالجة «الركود التضخمي»، حيث يتباطأ النمو الاقتصادي بينما يظل التضخم مرتفعاً.

وتتوقع الأسواق أن يبقي «الفيدرالي» أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماع اليوم (الأربعاء)، لكن الأنظار تتجه نحو التوقعات الاقتصادية المحدثة التي سيصدرها البنك، والتي ستوفر إشارات حول مستقبل أسعار الفائدة والتضخم والنمو الاقتصادي في السنوات القادمة. ويراهن المستثمرون على أن «الفيدرالي» سيجري خفضين إلى ثلاثة تخفيضات في أسعار الفائدة بحلول نهاية 2025.

أداء الأسهم

في «وول ستريت»، ساهمت «إنفيديا» في دعم السوق بارتفاعها 1.1 في المائة، مما قلّص خسائرها منذ بداية العام إلى 13.1 في المائة. واستضافت الشركة فعالية يوم الثلاثاء، حيث رسمت خريطة طريق واضحة لمستقبلها وأبطلت المخاوف بشأن تباطؤ الطلب على الحوسبة الفائقة، وفقاً لمحللي «يو بي إس» بقيادة تيموثي أركوري.

كما ارتفعت أسهم «تسلا» بنسبة 3 في المائة بعد خسائر متتالية بلغت نحو 5 في المائة لكل جلسة، لكنها لا تزال منخفضة بنسبة 42.5 في المائة منذ بداية 2025.

أما شركات التكنولوجيا الكبرى فكانت في قلب موجة البيع الأخيرة، إذ تعرضت أسهمها التي كانت تتمتع بزخم قوي لتراجعات حادة وسط تحذيرات من أنها باتت مبالغاً في قيمتها السوقية.

الأسهم الخاسرة

على الجانب الآخر، تراجعت أسهم «جنرال ميلز» بنسبة 2.3 في المائة، بعدما أخفقت شركة الحبوب والوجبات الخفيفة في تحقيق أهداف المبيعات، وخفضت توقعاتها المالية للعام بأكمله. وأشارت إلى أن «حالة عدم اليقين الاقتصادي الكلي» ستستمر في التأثير على إنفاق المستهلكين خلال الربع الحالي.

الأسواق العالمية والسندات

في آسيا، انخفض مؤشر «نيكي 225» الياباني بنسبة 0.2 في المائة بعد أن أبقى بنك اليابان أسعار الفائدة مستقرة، كما كان متوقعاً. وأعلنت اليابان تحقيق فائض تجاري لشهر فبراير (شباط)، مع نمو الصادرات بأكثر من 11 في المائة، حيث يسعى المصنّعون لمواجهة الرسوم الجمركية التصعيدية التي فرضتها إدارة ترمب. أما في أوروبا وآسيا، فقد شهدت المؤشرات أداءً متبايناً.

وفي سوق السندات، تراجع العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات إلى 4.29 في المائة، مقارنة بـ 4.31 في المائة في أواخر تعاملات يوم الثلاثاء.