مهرجان موسيقى الراب لردم الفجوة مع القطاعات الثقافية الأخرى

يجول في العاصمة اللبنانية تحت عنوان «بيروت سكوم ويك»

الراس أحد أشهر مغني الراب في لبنان والعالم العربي
الراس أحد أشهر مغني الراب في لبنان والعالم العربي
TT

مهرجان موسيقى الراب لردم الفجوة مع القطاعات الثقافية الأخرى

الراس أحد أشهر مغني الراب في لبنان والعالم العربي
الراس أحد أشهر مغني الراب في لبنان والعالم العربي

بهدف مساعدة ونمو فنون الراب والهيب هوب التي انطمر وهجها بفعل عدم الاهتمام بإنتاجها، ينطلق مهرجان «بيروت سكوم ويك» لموسيقى الراب والهيب هوب في العاصمة اللبنانية.
ويجري هذا الحدث في نسخته الأولى انطلاقاً من بيروت لتأكيد الدور الرئيسي الذي لعبته تاريخياً فيما يخص نشر فنون الراب في العالم العربي. ويستمر لغاية الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، بعد أن افتُتح مساء البارحة بعقد ندوات في دار النمر الثقافي تحت عنوان «ردم الفجوة». وتمحورت هذه الندوات حول الإبداع والثقافة والشق المالي الذي تعاني منه هذه الفنون في مجال الإنتاج. «إنها تأتي ضمن سياق المهرجان وثقافتنا المرتبطة ارتباطاً مباشراً بموسيقى الراب والمتعلقة بفنون أخرى كالـ(غرافيتي، وميوزك فيديو، وستريت ميوزك)»، يوضح مازن السيد صاحب اللقب الفني الشهير بـ«الراس». ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «إن ردم الفجوة التي نتحدث عنها هي ما نرغب في توصيله ما بين موسيقانا والقطاعات الإنتاجية الثقافية الأخرى التي تحتاج إليها موسيقى الراب لتنمو وتتطور بشكل أفضل».
وبدءاً من مساء اليوم تنطلق عروض موسيقى الراب في عدة أماكن في بيروت وبينها مع فريق «بلوك بارتي» و«عالحي» و«ذا فلكس»، إضافة إلى عدد من مغني الراب المعروفين في لبنان أمثال «الراس» و«تشينو» و«سينابتيك» من الأردن و«درويش» من سوريا و«محراك» من فلسطين وغيرهم.
«فنون الراب تغيب تماماً اليوم عن شاشاتنا التلفزيونية كما عن إذاعاتنا فيما بقي بعض المواقع الإلكترونية المروجة الوحيدة لها»، يوضح «الراس» في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط». ويتابع: «هذا الفن لم يعد هامشياً كما يعتقد البعض بل هو ثقافة فنية جديدة منتشرة في بلدان المغرب العربي وصولاً إلى بلاد ما بين النهرين وسوريا وفلسطين وغيرها. وفنانوها يملكون قاعدة شعبية كبيرة والملايين من المتابعين. كما أنهم يقومون بجولات فنية عالمية وبعضهم تُدرّس أعمالهم في الجامعات». ويعد مازن السيد أحد فناني الراب المشهورين في لبنان والذي ذاع صيته ليصل إلى ألمانيا ومدن أوروبية أخرى. وهو يشارك في مهرجانات موسيقى الراب فيها تلبيةً لدعوتهم له. كما أن أغانيه تعدّ نماذج حية تجري حولها الدراسات والنقاشات في صفوف جامعات لبنانية. «بُعيد المهرجان سأقوم بجولة فنية في مدن مارسيليا وباريس وإسطنبول وبرشلونة وتونس»، يقول «الراس» الذي يستعد لطرح أغنيته الجديدة «بطلكن مات» في سياق المهرجان.
والمعروف أن لبنان شهد في التسعينات حقبة ذهبية لموسيقى الراب بحيث كانت منتشرة بشكل لافت عبر فرق غنائية كثيرة وبينها «عكس السير» و«قطاع بيروت». «هذا التغيير الحاصل في مشهدية الراب في بيروت اليوم وعودته إلى الظهور يعود سببه لتبدل تام له. فهو لم يعد فناً هامشياً كما كان في التسعينات بل هو قطاع موسيقي في حد ذاته يشارك في مهرجانات عالمية»، يقول «الراس» وهو اللقب الذي يفضل أن تتم تسميته به، ويضيف: «ويأتي هذا الحدث بمثابة مبادرة يحتاج إليها فن الراب العربي في الوقت الحالي للمساهمة في زيادة جماهريته ونسبة الاستماع إليه».
من ناحيته يؤكد ناصر شربجي المعروف باسمه الفني «تشينو» والمشارك أيضاً في هذا المهرجان، أنه يجد في فنون موسيقى الـ«هيب هوب» موطنه الحقيقي، ويوضح في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أنا مولود من أب سوري وأم فلبينية وأتكلم الإنجليزية بعد دراستي في الفلبين. ووالدي كان متمسكاً بضرورة إتقاني العربية كلغتي الأم، فوجدت في انتمائي إلى موسيقى الـ(هيب هوب) الموطن الذي أبحث عنه، ولذلك تريني أعمل على تطويره والرفع من قيمته الفنية على طريقتي».
ويشير «تشينو» إلى أن أغاني الراب ومنذ انتشارها في أميركا أخذت على عاتقها تحويل ما يراه البعض بصورة سلبية في محتواه إلى أخرى إيجابية، وهو ما أسهم في إحداث هذا الانقلاب الفني بواسطته. ويؤكد «تشينو» في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «إن فن الراب هو من أكثرها انتشاراً اليوم في عالم الموسيقي رغم تسجيل غياب تام له في بلادنا عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. فالبعض يتمسك بثقافته الفنية العربية إلى حد يرفض معه أي تغيير يمكن أن يلامسها». ويشير إلى أن فناني الراب العرب كثيرون أمثال مازن السيد في لبنان و«سينابتيك» في الأردن ويملكون آلاف المتابعين لهم على وسائل التواصل الاجتماعي. «إننا نملك نحو نصف مليون متابع على قناة (باتل راب) التي نعرض عليها تحديات غنائية تجري بين ثنائي فني يؤدي الراب»، يقول «تشينو»، ويختم: «لقد أصبحت لدينا اليوم الإمكانيات والنماذج الحية المطلوبة لنساعد في نمو وتطوير هذا الفن المطمور وهو ما نقوم به عبر مهرجان (سكوم ويك) الذي يلخص باسمه أربع كلمات بالإنجليزية هي: ستريت – كالتشر – أوروبن – ميوزك (Street - culture - urban - music)».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)