السائق اللبناني «انتحاري» حتى إشعار آخر... أكثر من 8 قتلى لكل 100 ألف نسمة

لا تكفي القوانين والغرامات المالية لردع السائقين تحديداً الشباب منهم (غيتي)
لا تكفي القوانين والغرامات المالية لردع السائقين تحديداً الشباب منهم (غيتي)
TT

السائق اللبناني «انتحاري» حتى إشعار آخر... أكثر من 8 قتلى لكل 100 ألف نسمة

لا تكفي القوانين والغرامات المالية لردع السائقين تحديداً الشباب منهم (غيتي)
لا تكفي القوانين والغرامات المالية لردع السائقين تحديداً الشباب منهم (غيتي)

أعلنت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أن «مفارز السير سجلت خلال الأسبوع الثاني من شهر أغسطس (آب) الحالي تنظيم 7705 مخالفات سرعة زائدة».
وتظهر هذه المخالفات أن العديد من السائقين يدمنون القيادة بسرعات متزايدة على الطرقات اللبنانية التي لا تسمح أساساً بمثل هذه المغامرة، رغم معرفتهم بخطورة هذا التصرف.
وسجل العام الماضي سقوط 506 قتلى و6433 جريحاً، وذلك في 4833 حادث سير، ما يعني أنه مقابل كل 100 ألف نسمة هناك 8.4 قتلى في لبنان، والعدد ليس كبيراً مقارنة مع عدد السكان، لكنه كبير نسبة إلى مساحة الطرق في لبنان.
وتقول رئيسة «هيئة إدارة السير والآليات والمركبات» هدى سلوم، لـ«الشرق الأوسط»، إن «القانون المتعلق بتنظيم السير في لبنان وُضع عام 2012، وبدأ تطبيقه عام 2014، إلا أن التطبيق لم يكتمل حتى يومنا هذا. بعض الأمور لا تزال ناقصة. ويستلزم تطبيقها إجراءات تعمل عليها اللجنة الوطنية للسلامة المرورية».
ولا تكفي القوانين والغرامات المالية لردع السائقين، تحديداً الشباب منهم. وتقول الدكتورة في علم النفس كلير قرقماز، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الانفعالات الناجمة عن القيادة السريعة وما تخرجه من (هرمون الأدرنالين) سببها الخوف، تشكل متعة وتدفع الشباب تحديداً إلى التهور، لذا يغامرون بالسرعة أكثر من الناضجين، والعازبون أكثر من المتزوجين، وذلك من دون اهتمام بالغرامات ومحاضر الضبط أو تفكير باحتمال الموت أو الإعاقة. ومعظم الحوادث تقع ليلاً، لأن القيادة السريعة في الليل أسهل منها في النهار بسبب زحمة السير».
وتوضح سلوم أن «عمل الهيئة ينصب على وضع خطة حديثة لامتحان القيادة والحصول على رخصة سوق. ونحن نعمل تحت إدارة وزيرة الداخلية ريا الحسن، التي تولي اهتماماً كبيراً باكتمال الخطة. والاجتماعات جارية لوضع أسس تحسين أداء الراغبين بالحصول على الرخصة، من خلال إخضاعهم إلى اختبارات فعالة. وقد عملت بشكل فردي على نقل الامتحان من الشفهي إلى النظري عبر الكومبيوتر. ونحن بصدد التنسيق مع الجهات الرسمية المختصة لاستصدار جملة قرارات ومراسيم تتعلق بتهيئة الأمكنة التي تجرى فيها الاختبارات لفحص القيادة، بحيث لا تتم في أماكن مغلقة، بل على الطرق بين السيارات، إضافة إلى إتقان القيادة ليس فقط في الحالات العادية، ولكن لدى حصول مصاعب كالانزلاق أو مواجهة الحالات الطارئة وما إلى ذلك من أمور تحصل في الدول المتطورة».
وتوضح قرقماز أن «التباهي يشكل دافعاً آخر للقيادة السريعة. والأخطر هو الدافع الباطني لإنهاء الحياة، ولعدة أسباب، منها التملص من الواجبات الأسرية كالدرس والعمل وما إليه، ورفض الممنوعات التي يفرضها الأهل على أولادهم وهم يقتربون من النضوج، ما يدفع الشباب في مقتبل أعمارهم إلى الانتفاض على السائد، عبر القيادة المتهورة والاستخفاف بالقوانين، متجاهلين إمكانية الموت أو الإعاقة التي قد تلازمهم مدى الحياة. والأهم هو الإحباط لدى شباب أنهوا دراسات عليا ولم يجدوا عملاً. وهذا الإحباط قد ينعكس في طريقة القيادة».
وتشير سلوم إلى أن «تحسين القيادة لا يقتصر على الأمور العلمية، لذا يجب التركيز على تمتع السائقين بثقافة المرور للحد من التصرفات الخاطئة على الطرق والاستخفاف بالقوانين، وبالتالي بحياة السائق والمواطنين. واللافت أن اللبناني يخالف قوانين السير في وطنه، ويلتزم بها في أي دولة يسافر إليها. ولعل المطلوب إعطاء حيز أكبر لتطبيق قوانين السير من قبل الجهات المختصة، وتضافر جهود أكثر من جهة لهذه الغاية. والعقاب مطلوب بغض النظر عن القيمة المالية للمخالفة. والأهم تهيئة السائقين ليكونوا جديرين بمسؤولية القيادة على الطرق».
وتشدد سلوم على «أهمية إدراج قوانين السير في المناهج التربوية، الأمر الذي بدأت اللجنة الوطنية للسلامة المرورية العمل عليه منذ سنتين، هذا بالإضافة إلى إدراج اختصاص مرور في المناهج المهنية والتقنية التعليمية، ومن ينجز هذا الاختصاص يحق له افتتاح مدرسة للقيادة. وقد بدأنا نخرج طلاباً أنجزوا هذا المنهاج».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)