ميته فريديريكسن... الزعيمة الدنماركية الشابة التي أعادت الاشتراكيين للسلطة من بوابة اليمين

حربها الكلامية مع دونالد ترمب حول غرينلاند أعطتها منبراً دولياً

ميته فريديريكسن...  الزعيمة الدنماركية الشابة التي أعادت الاشتراكيين للسلطة من بوابة اليمين
TT

ميته فريديريكسن... الزعيمة الدنماركية الشابة التي أعادت الاشتراكيين للسلطة من بوابة اليمين

ميته فريديريكسن...  الزعيمة الدنماركية الشابة التي أعادت الاشتراكيين للسلطة من بوابة اليمين

لم يمض على تسلم ميته فريديريكسن (41 سنة) منصبها شهرين حتى دخلت أصغر رئيسة وزراء في تاريخ الدنمارك وثاني سيدة تشغل المنصب في تلاسن مع دونالد ترمب رئيس أعظم دولة في العالم.
الجدل بدأ عندما تحدث الرئيس الأميركي عن رغبته بشراء غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم وجزء من الملكية الدنماركية. ولما كان كلامه بدا مزحة في البداية، جاء رد فريديريكسن عليه بقياس هذا التقدير. إذ وصفت عرضه بـ«اللامعقول»، مضيفة أنها تأمل بأن يكون الأمر عبارة عن مزاح من جانب ترمب. ولكن رد ترمب ليؤكد لها أنه كان بغاية الجدية. ووصفها بدوره بأنها امرأة «سيئة». وذهب لأبعد من ذلك، ملغياً «زيارة دولة» إلى الدنمارك كانت مقرّرة في مطلع سبتمبر (أيلول). وهكذا، أوقع سفيرته في كوبنهاغن في إحراج كبير بعدما كانت قد غرّدت على «تويتر» قبل ساعات بأنها تتطلع لزيارته، ورمى الدبلوماسية الأميركية في حالة من الفوضى. وعلى الفور، بدأت اتصالات إعادة تصحيح العلاقات مع حليف أوروبي مهم، فاتصل وزير الخارجية الأميركي بنظيره الدنماركي ليؤكد أهمية «الصداقة» مع بلاده، وعادت السفيرة الأميركية لتغرّد بأن العلاقات بين الدولتين متينة وقوية. أما فريديريكسن نفسها، فقد أبدت أسفها على إلغاء ترمب زيارته مع إعرابها عن حرصها على التأكيد بأن ذلك لن يؤثر على العلاقات الثنائية.

اللافت في التلاسن الذي تفجر أمس بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيسة وزراء الدنمارك ميته فريديريكسن أن «بطليه» يتشابهان في بعض النواحي. ولو أنهما التقيا فعلا لكان الرئيس الأميركي قد أبدى إعجابه الكبير بتلك السيدة، أو أقله بسياستها المتعلقة بالهجرة.
فمع أن رئيسة الوزراء الدنماركية سياسية اشتراكية تنتمي لحزب يساري منفتح تاريخياً على الهجرة وتقبّل اللاجئين من مبدأ إنساني، اختارت فريديريكسن شخصياً تبنّي سياسات مضادة للهجرة تشابه كثيراً سياسات اليمين المتطرف. وهذا، مع أنها نجحت من ناحية أخرى في أن تحافظ على السياسات اليسارية التقليدية للاشتراكيين فيما يتعلق بالسياسات الضريبية والاقتصادية والاجتماعية.

إسكندنافيا... الاستثنائية

لقد جاء فوز الاشتراكيين الدنماركيين في الانتخابات العامة قبل شهرين مفاجئا ليس فقط للشارع الدنماركي، بل للاشتراكيين في كل أنحاء أوروبا، وخاصة «الجارة الكبيرة» ألمانيا. وفي حين تتراجع شعبية الأحزاب الاشتراكية شيئاً فشيئاً في كثير من الدول، يبدو أن شعبيتها في الدول الإسكندنافية في صعود لافت. فالمعروف في فرنسا، مثلاً، أن الحزب الاشتراكي اختفى تقريباً بعد الانتخابات الأخيرة التي أوصلت إيمانويل ماكرون الرئيس الشاب (المنشق عنهم) إلى قصر الإليزيه... وبات أقدم حزب فرنسي في المرتبة الرابعة.
وفي ألمانيا، مع أن الاشتراكيين ما زالوا في الحكم جزءا من الحكومة الائتلافية، فإنهم يخسرون كثيرا من شعبيتهم سنة بعد سنة، حتى باتوا يحتلون المرتبة الثالثة وأحياناً الرابعة بين الأحزاب الألمانية، حسب استطلاعات الرأي في كثير من المناطق.
وفي بريطانيا، ما زال حزب العمال، القوة الاشتراكية الأبرز، عاجزاً عن تحدي غريمه اليميني حزب المحافظين على الرغم من فوضى أزمة «البريكست».

اشتراكيون ضد المهاجرين

ولكن في الدنمارك، بعد فنلندا والسويد، حيث شُكلت حكومتان تحت قيادة الاشتراكيين قبل أشهر، كان الحال مختلفاً. إذ صعد الاشتراكيون بقيادة فريديريكسن حتى فازوا بالانتخابات الأخيرة.... وإن كان الثمن تخليهم عن سياسة الانفتاح التقليدي تجاه المهاجرين، وتبني سياسات وصفها البعض بأنها أقرب للسياسات التي اعتمدها النازيون أيام هتلر ضد اليهود. فقبل أن يفوزوا بالانتخابات الأخيرة، دعم الاشتراكيون - عندما كانوا في صفوف المعارضة - معظم السياسات المتعلقة بالهجرة واللجوء التي تقدّمت بها حكومة لارس لوكه راسموسن التي وُصفت بأنها كانت الحكومة الأكثر يمينية التي مرّت على الدنمارك.
من هذه القوانين، مثلاً، صوت الاشتراكيون لصالح قانون يجيز تجريد طالبي اللجوء الذين يصلون إلى الدنمارك من أموالهم ومجوهراتهم بحجة تمويل إقامتهم. كما صوّتوا لصالح مشروع يجبر اللاجئين على العمل لـ37 ساعة أسبوعياً مقابل تلقيهم إعانات الدولة، ولآخر يضع حدا للمهاجرين «غير الغربيين» في مخالفة لـ«الكوتا» التي وضعتها الأمم المتحدة لتوزيع اللاجئين. وأيضاً، صوّت الاشتراكيون لقانون يمنع ارتداء النقاب، ولآخر بفرض عقوبة بالسجن لأهالي الأولاد المهاجرين الذين يأخذون أطفالهم في إجازات طويلة إلى بلدهم الأم. كما أيدوا قراراً آخر بفرض دورات إجبارية تتعلق بالثقافة والقيم الدنماركية على أطفال لا تزيد أعمارهم على العام الواحد إذا كانوا من أصول غير دنماركية.
إزاء كل هذه القوانين كان الاشتراكيون يصوتون بتوجيهات من زعيمتهم الشابة فريديريكسن، التي تؤمن حقاً بأن الهجرة «تلعب دوراً سلبياً في المجتمع الدنماركي»، ومن ثم، تبنّت سياسة لترحيل اللاجئين عوضا عن دمجهم في المجتمع.
إذ كتبت فريديريكسن في سيرة ذاتية لها: «بالنسبة إليّ، يتضّح الأمر أكثر فأكثر، وهو أن ثمن العمالة غير المنظمة، والهجرة الجماعية، وحرية العمل، تدفعه الطبقة الدنيا». وأضافت: «كنت أعلم بأن تغيير موقف الحزب سيتطلّب كثيرا من الجهد، لكنني أدركت أن علي كسب هذه المعركة. عادة، أنا أسعى لإيجاد حل وسط... ولكن ليس فيما يتعلق بسياسة الهجرة».
وبالفعل، لم تتسامح فريديريكسن مع معارضي سياساتها هذه داخل الحزب. فعندما اعترضت زميلتها ميته غجيرسكوف، وهي وزيرة سابقة، على قرار حظر النقاب، حاولت زعيمة الحزب إبعادها عن مقعدها النيابي واختيار بديل لها، لكنها بعدما فشلت أقالتها من منصب المتحدث باسم الحزب في شؤون التنمية الدولية.

براغماتية يمينية داخل اليسار

أكثر من هذا، تؤمن فريديريكسن بأن تبني سياسة متشددة ضد اللاجئين والمهاجرين حاجة ماسة لاستعادة شعبية الاشتراكيين، ليس فقط في الدنمارك بل في عموم أوروبا. ووجهت انتقادات حادة للاشتراكيين في الدول الأخرى خلال لقاء عقد في العاصمة البرتغالية لشبونة في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، وقالت إنهم «خسروا ثقة ناخبيهم» بسبب فشلهم في منع العولمة من التأثير على حقوق العمال، وتغييبهم العدالة الاجتماعية»، ولم تتردد باتهامهم بالترويج للهجرة غير المنضبطة. وتابعت: «لسنوات ظللنا نقلل من أهمية التحديات التي تمثلها الهجرة الكبيرة. السياسات الاقتصادية والسياسية الخارجية لأوروبا ليبرالية أكثر من اللازم. لكننا فشلنا بالحفاظ على العقد الاجتماعي الذي يشكل أساس النموذج الاجتماعي للديمقراطيين الاشتراكيين».
وبالفعل نجحت سياسة فريديريكسن هذه حيث أخفقت الأحزاب الاشتراكية الأخرى في أوروبا، وكانت النتيجة إعادة حزبها الاشتراكي إلى سدة الحكم بعدما استعاد أصواتاً كان قد خسرها لصالح اليمين المتطرف والشعبويين. وأظهرت دراسات أن كثيرا من قواعد الحزب الذين كانوا هجروه لصالح اليمين المتطرف عادوا ليصوّتوا له بعد تغيير سياساته تجاه المهاجرين واللاجئين.
وفي المقابل، شدت الزعيمة الشابة حزبها نحو أقصى اليسار في سياسات المناخ والاقتصاد لناحية زيادة الضرائب على الأغنياء ووقف عصر النفقات. وحسب استطلاعات للرأي أجريت قبل الانتخابات، تبين أن على رأس أولويات الناخبين موضوعين: الهجرة والمناخ. ولم تضيع فريديريكسن الوقت في ترجمة نتائج الاستطلاعات لفوز انتخابي.
بالنسبة للمناخ، تعهدت رئيس الوزراء الجديدة بتخفيض الانبعاثات الكربونية بنسبة 70 في المائة خلال السنوات العشر المقبلة، ليصل بحسب تعهدها إلى مستوى أقل مما كان عليه قبل عام 1990. ومع اعتراف حكومتها بصعوبة تنفيذ هذا التعهد، فإنها قالت إن «العالم والدنمارك يعانيان من أزمة مناخية»، وإن الحدّ من ارتفاع درجات الحرارة «ليس فقط الأمر الذي يجب القيام به بل أيضا الأمر الأكثر مسؤولية اقتصاديا». وبالفعل، فإن التغير يظهر بشكل مخيف في الدنمارك، وخاصة، في جزيرة غرينلاند التي تخسر جبالها الجليدية بسبب التغير المناخي، وهو ما يجعل الدول الكبرى اليوم تتنافس على تقوية نفوذها هناك بسبب خطوط التجارة الجديدة التي يفتحها ذوبان جبال الجليد وتحوّلها إلى ممرات مائية.

سيرة شخصية

ولدت ميته فريديريكسن يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 في مدينة آلبورغ، رابع كبرى مدن الدنمارك، وانطلقت حياتها السياسية في وقت مبكر جداً. إذ قال والدها فليمنغ فريديريكسن في مقابلة مع وكالة الأنباء الدنماركية قبل الانتخابات الأخيرة إنها «كانت منشغلة بالأمور السياسية منذ سن صغيرة جدا، عندما كانت في السابعة من عمرها». وأردف: «لم يكن لدي شك أبدا بأن ميته يمكنها الذهاب إلى أبعد الحدود إذا ما أرادت ذلك».
في سن الـ15 أصبحت عضواً في جناح الشباب، بالحزب الديمقراطي الاشتراكي. ودخلت البرلمان عام 2001 عندما كانت في سن الـ24 لتصبح أصغر نائب في بلادها. وأكملت دراستها الجامعية في جامعة آلبورغ وهي في البرلمان، فبعدما حصلت على شهادة في العلوم السياسية والاجتماعية، حازت الماجستير في الدراسات الأفريقية.
عام 2005 تولّت فريديريكسن منصب المتحدثة باسم الحزب في شؤون السياسات الاجتماعية والثقافة والإعلام. وبين العامين 2005 و2011 شغلت منصب نائب زعيم الكتلة الاشتراكية في البرلمان. ثم في عام 2011 حصلت على أول منصب وزاري لها، عندما عيّنت وزيرة للعمل في أول حكومة ترأسها سيدة في الدنمارك هي الاشتراكية هيله ثورنينغ - شميت. وعام 2014 انتقلت من حقيبة العمل إلى حقيبة العدل. وفي يونيو (حزيران) الماضي، نجح حزبها في أن يكوّن أكبر كتلة نيابية في البرلمان. وبعد 3 أسابيع من المفاوضات مع الأحزاب الأخرى، أصبحت فريديريكسن رئيسة لحكومة أقلية بدعم من 4 أحزاب يسارية ووسطية في البرلمان.
رئيسة الوزراء الشابة أم لولدين، بنت وصبي، من زواج سابق. وهي الآن مخطوبة لمنتج أفلام، ومن المفترض أن يتزوجا نهاية هذا الصيف. وكانت قد أثارت جدلا قبل بضع سنوات عندما تبين أنها، إلى جانب ساسة آخرين في الحزب، ترسل ابنتها إلى مدرسة خاصة عوضاً عن المدارس الرسمية التابعة للدولة. وتسبب ذلك في نقمة من القاعدة الشعبية للحزب التي تعتبر المدارس الخاصة للنخب الغنية وتناقض مبدأ الاشتراكية.

خبرتها الدولية... محدودة

على صعيد آخر، رغم أن فريديريكسن دخلت عالم السياسة مبكراً، فإن تجربتها في السياسة الخارجية ليست عميقة. ولذا تبدو مواجهتها الدولية الأولى مع الرئيس ترمب ذات أهمية كبيرة. ومع ذلك، ورغم الجدل الذي تسببت به هذه المواجهة وغضب ترمب عليها، تبدو فريديريكسن متمسكة بأسلوب ردها عليه. إذ قالت في مقابلة أدلت بها لإذاعة دنماركية إنها لا تعتقد أن كلماتها كانت تنم عن قلة احترام للرئيس الأميركي، وأضافت: «لا أعتقد أنني كنت جافة أو قاسية في ردي، بل بالعكس أعتقد أن الرد من الجانب الدنماركي كان لطيفاً جداً. فعندما تكون دولتان حليفتين وصديقتين، مثل الدنمارك والولايات المتحدة، يجب أن يكون هناك مجال للتعبير عن الاختلاف في الرأي، وآمل بأن نوقف هذه السجالات قريباً».
ولكن مع الرئيس ترمب، خاصة، يصعب تخطي «اختلافات الرأي». وهو بعدما وصف فريديريكسن بـ«السيئة» بسبب ردّها عليه، كتب تغريدة على صفحته في «تويتر» ذكّرها فيها بأن بلادها لا تدفع مساهمتها المالية المطلوبة منها في حلف شمال الأطلسي «ناتو»، والتي من المفترض أن تصل إلى 2 في المائة من الناتج الإجمالي للدولة العضو في الحلف. وتابع أن الدنمارك تساهم بـ1.2 في المائة فقط، بينما «الولايات المتحدة تحمي أوروبا».
قد تكون تغريدة ترمب هذه تمهيداً لتحول العلاقات مع الدنمارك إلى ما يشبه العلاقة مع ألمانيا، التي لم يتفق فيها مع مستشارتها أنجيلا ميركل منذ بداية عهده، وما تردد حول انتقادها وانتقاد ألمانيا التي تضم ثاني أكبر قواعد عسكرية أميركية في العالم، كلما سنحت له الفرصة.
إلا أن فريديريكسن، الزعيمة الشابة الواصلة حديثاً إلى المنبر الدولي، تستفيد مؤقتاً، على الأقل، من الدعاية الدولية التي قدّمها لها هذا الجدل مع الرئيس الأميركي.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.