تنطلق في نيويورك ولوس أنجليس وبضعة مدن أميركية أخرى، في الخامس عشر من هذا الشهر، نسخة جديدة من فيلم «سفر الرؤيا الآن» لعملاق السينما الأميركية فرنسيس فورد كوبولا. نسخة يعلوها العنوان التالي: Apocalypse Now - The Final Cut.
كلمتا «فاينال كَت» تعنيان أن صاحب الفيلم ضمّ إليه مشاهد لم تُشاهد من قبل وزّعها في أنحاء مختلفة من الفيلم؛ ما يعني، بالضرورة، أنه أعاد توليف الفيلم. ليس بكامله، بل في المواقع التي لا بد له ضم تلك المشاهد فيها.
يعني أيضاً أننا لن نرى بعد ذلك أي إضافة أخرى. هذا كل شيء. النسخة السابقة من الفيلم، تلك التي شهدت عرضها الأول في مهرجان «كان» في التاسع عشر من مايو (أيار) سنة 1979، تألفت من 147 دقيقة (ساعتان و45 دقيقة). النسخة الجديدة تتألف من 3 ساعات و3 دقائق تحتوي على مزيد من مشاهد مارلون براندو ومارتن شين، ومزيد من مشاهد الرحلة الطويلة عبر النهر الداكن وما يقع على أطرافه، لكن من بينها 5 دقائق يعيد فيها كوبولا تقديم الفيلم بنفسه.
ما يعنيه إعادة طرح «سفر الرؤيا الآن» إلى الشاشات الكبيرة هو أكثر من مجرد إضافة بضع دقائق فوق فيلم جرى الاحتفاء به أكثر من مرة منذ عروضه الأولى.
ففي الوقت الذي يأتي فيه هذا العرض تذكيراً بقيمة الشاشة الكبيرة وتجهيزاتها الصوتية التي لا يمكن الحصول على مثيل لها مهما كانت تقنية الأجهزة المنزلية مرتفعة، يتوجه جيل جديد من المشاهدين لالتقاط رؤية تتيح لهم التعرف عن كثب على سبب تمتع هذا الفيلم بإعجاب شبه إجماعي من قِبل النقاد القدامى منهم والجدد.
من ناحية أخرى، هو تذكير بفترة من الزمن كان المخرج فيها سيد العمل السينمائي وليس موظفاً فيه. وتذكير بمخرج صنع الأفلام الكبيرة (مثل «العراب» و«العراب2») بروح وأسلوب المخرج المستقل عن الوصايا وتعليمات الاستوديو. مخرج صنع أفلامه كما يريد بصرف النظر عن حجم ميزانياتها، وحين لاحظ أن طاقماً من المنتجين المنفذين والمحامين وأصحاب العقود باتوا أكثر شراسة في محاولاتهم فرض أفكارهم في العمل، تنحى جانباً وأمّ عدداً كبيراً من الأفلام الصغيرة. المهم عنده هو ألا يفقد استقلاله.
- استقلال مبكر
حكايته بالطبع بدأت قبل هذا الفيلم الحربي الكبير الذي، كما أوردنا في صفحة السينما الجمعة الماضي، تعرض لحرب فيتنام وجنونها كما لم يفعل فيلم من قبل أو من بعد.
فرنسيس فورد كوبولا من مواليد 1939 في مدينة دترويت من أبوين ولدا في أميركا لكنهما انحدرا من إيطاليا. والده، كارمن كوبولا، كان عازفاً في فرقة تتبع الشرطة وهو في صباه لم يمانع في تعلم الموسيقى بدوره، لكن غرامه كان الصور المتحركة التي بدأ يعاينها عندما اشترى له والده كاميرا سوبر 8 وجهاز توليف.
مثل مارتن سكورسيزي كان كوبولا في طفولته متوعك الصحة. أصيب بشلل الأطفال ما أشعل خياله. لم يكن ناجحاً في المدرسة، لكنه كان كثير الخيال منذ صباه. أبدى اهتماماً متزايداً بالدراما فتحوّل إليها كلياً عندما دخل الكلية وأخذ يكتب ويخرج مسرحيات فوق مسرح الكلية.
درس السينما في جامعة UCLA وقام بتحقيق أفلام قصيرة قبل أن ينجز أول فيلم طويل له تحت عنوان Dementia 13. الفيلم من إنتاج روجر كورمان (ما زال حياً في الثالثة والتسعين من العمر) الذي كان جمع من حوله مخرجين عدة (مونتي هلمان، جاك هِل) وممثلين (من جاك نيكولسون، ومونتي هلمان، ووورن أوتس، وبيتر فوندا، وبروس ديرن، ودنيس هوبر، الخ…).
حتى الناقد بيتر بوغدانوفيتش وجد نفسه متعاوناً مع كورمان لأجل تحقيق فيلمه السينمائي الأول «أهداف» (1968). لكن كوبولا لم يكن يريد أن ينجز أفلامه على شاكلة تجارية محضة وعلى نحو لا يضمن خلالها قدراً من الأسلوب البصري الذي لم يكن كورمان مكترثاً له. استقل كوبولا عن ذلك المنتج وانطلق لتحقيق أفلامه الأولى كما يرغب قدر المستطاع وأنجز «قوس قزح فنيان» و«أناس المطر» ما بين 1968 و1969.
في عام 1972 أخرج «العراب» الذي لم تشهد السينما مثيلاً له بين كل ما أنتجته من أفلام عصابات. القفزة من أفلام صغيرة بلا حسيب ورقيب واستوديو يقف وراء المخرج كظله، وبين هذا الفيلم كانت مفاجئة. كثيرون تساءلوا من أين جاء هذا العبقري الذي يضارع بعمله أعتى مخرجي أميركا.
لكن لأمانة الموضوع، فإن «العراب» لم يكن أول فيلم ينجزه لحساب استوديو كبير (باراماونت) بل كان أكبر فيلم، نسبة لتكلفته، يحققه كوبولا في هذا الشأن. لأن «قوس قزح فينيان» (1968) كان أول احتكاك له مع شركة كبيرة هي وورنر: فانتازيا موسيقية مستوحاة من كتاب مقتبس بدوره عن مسرحية، ومن بطولة المغنية البريطانية بيتولا كلارك. رُشّـح الفيلم لأوسكارين ولخمس «غولدن غلوبس»، وهو إذ لم ينل منها شيئاً، إلا أنه كان اللافت الأول لموهبة رجل يستطيع أن ينفّـذ فيلماً عالي العناصر الإنتاجية بأسلوبه الفني الخاص.
فيلمه التالي: «أناس المطر»، كان أيضاً من توزيع وورنر، لكن إنتاجه انتمى إلى شركة أسسها بنفسه هي «أميركان زيتروب» وتناول فيه حياة امرأة (شيرلي نايت) تبحث عن هويتها الاجتماعية والعاطفية بعيداً عن التأثير الاجتماعي المحيط بها.
- علاقة وطيدة
كان من حق نقاد السبعينات والمعنيين التساؤل عمن هو هذا الـ«كوبولا»، ومن أين جاء ليتمتع بكل ما تمتع به من إمكانات لتحقيق «العراب» و- الأهم - لينجز عملاً لا يمكن دحضه. ذلك لأن «العراب» فيلم ينضح باستعراضات السينما حين تزهو بقوة من فيها وما فيها. كل عنصر من عناصر تأليف الفيلم، من مفردات الإخراج إلى التصوير إلى التمثيل (من أصحاب الأدوار الكبيرة وتلك الصغيرة جداً) إلى الموسيقى إلى تصميم المناظر إلى السيناريو وإلى الإخراج من حيث الإدارة العامّة والسيطرة على كل تلك العناصر وسواها، قلّ مثيله في التاريخ.
كفيلم عصابات، يأتي «العرّاب» في المقام الأول، لكنه ليس فيلم عصابات فقط، بل فيلم عن الفترة الزمنية وشيفراتها، وعن الصراع بين اتجاهات تكشف عن عالم وراء العالم الذي كنا نعتقد أنه هو السائد. الفساد السياسي مختلط بالفساد الإعلامي، ممتزج بالفساد الفردي.
وحين يأتي الأمر للتمثيل، لا يهم إذا كنت تلتقط مارلون براندو، أو آل باتشينو، أو جيمس كان، أو روبرت دوفال، أو جون غازال، وغيرهم مما يرد في المقدّمة، أو سترلينغ هايدن، أو آب فيغودا، أو رتشارد كاستيلانو، أو تاليا شاير، أو أليكس روكو من الذين لعبوا أدواراً مساندة أو حتى سارو أورزي، فيتو سكوتّي، آل لاتييري، رتشارد برايت، سيمونيتا ستيفانيللي من الذين لعبوا أدواراً صغيرة، كلّ واحد منهم أجاد وترك في المخيلة أثراً مفعماً. إنه كما لو أن كل واحد من هؤلاء وُلد ليمثّل هذا الدور، صغيراً أو كبيراً، ويمضي. وهذا ما حدث مرة أخرى في «العراب2» الفيلم الذي يعتبره بعض النقّاد أفضل «العرّابين».
وبين «العراب» الأول (1972) والثاني (1974) الذي أكمل فيه سيرة شخصيات آل كاروليوني وتطرق فيه إلى جوانب جديدة في زمانين مختلفين لم يتطرّق إليها في فيلمه الأول، أنجز عملاً رائعاً آخر هو «المحادثة» الذي يقدم حالة خبير تنصت اسمه هاري كول (جين هاكمان) يعيش حياة وحيدة لا تخلو من كبت المشاعر والعواطف. يهوى عزف الساكسفون ويحيط نفسه بسرية كبيرة تدفعه لأن يبقى حذراً ومنعزلاً. وهو يكتشف أن المرأة التي طُلب منه التجسس عليها ما هي إلا زوجة رئيسه التي تلتقي بشاب تحبه. إذ تستند المؤسسة إلى براهينه يدرك هاري بأن تجسسه كان الدليل الذي استند إليه رئيس الوكالة للإيعاز بقتل زوجته. هذا الإدراك يدفع هاري لحالة من الخوف والانطواء يزيدها شعوره بالذنب وسيكولوجيته المعقدة التي تدفعه للانجراف صوب الهاوية.
هذه الأفلام الثلاثة، بالإضافة إلى سواها في السنوات التالية، تعكس علاقة وطيدة بين الفنان والوطن الذي يعيش فيه. كوبولا يبدو مدركاً حسنات وسيئات الحياة في أميركا التي هي، في أفلامه، غير أميركا في أي أفلام أخرى. تعامله مع هذا الوطن الذي ينتمي إليه كان من منظور خاص لم يشاركه فيه أحد.
تذكر كوبولا فتذكر جداراً زمنياً عازلاً بين السينما الأميركية قبل ولوجه السينما في منتصف الستينات وما بعدها. ليس وحده الذي بنى هذا الجدار، بل شارك في بنائه لجانب مارتن سكورسيزي، وودي ألن، جورج أ. روميرو، جورج لوكاس، ستيفن سبيلبرغ وبرايان دي بالما. لكن ما اختلف فيه هو أنه في الوقت الذي طوع فيه كل هؤلاء، خصوصاً لوكاس وسبيلبرغ، مواهبهم لتتناسب مع متطلّبات هوليوود، لوى كوبولا شروط هوليوود نفسها فارضاً، بالتدريج، نوعية تفكيره ومنوال ثقافته وتمسّكه بحق المخرج في تقرير مصير فيلمه.
وفي الوقت الذي ارتفعت فيه الاحتجاجات على الحرب الفيتنامية ونهض أكثر من مخرج أميركي للحديث عن ويلاتها (من أوليفر ستون إلى برايان دي بالما ومن هال آشبي إلى كارل رايز مرورا بعشرات) اهتم كوبولا بأن يصوّر جحيم الحرب ذاته. لم يكن منواله تقديم مثال في حكاية، بل تقديم حكايات ممتزجة مصاغة كما لو كانت أوبرا فنية هائلة.
- رجل وحلمه
كوبولا السبعينات انشغل أيضاً بتحقيق أفلام تؤم النوع الهوليوودي إنما مع تغيير ملحوظ. الكوميديا التي في «بيغي سو تتزوّج» (بطولة كاثلين تيرنر - 1986) مختلفة عن أي كوميديا أخرى، الميوزيكال العاطفي المرهف «واحد من القلب» (بطولة تيري غار - 1982) كان مختلفاً عن أي ميوزيكال هوليوودي آخر قبله وبعده. ضم هذه الأفلام لبعضها بعضاً تجد أن كوبولا إنما تحدّث عن أميركا من وجهة نظر منفردة. بطبيعة الحال، كل فيلم أميركي هو عن أميركا، تماماً كما الحال مع كل فيلم مصري أو فرنسي أو هندي. مهما بلغت درجة التغريب فإن الفيلم من أي مكان يقترح أن أحداثه وشخصياته تنتمي إلى زمن ومكان أميركيين كما إلى ثقافة أميركية ومجتمع أميركي. لكن الخروج عن النص الهوليوودي فجأة يقرّب الفيلم أكثر إلى المحيط الاجتماعي والحديث عن الأجيال كما لا تمارسه غالبية الإنتاجات الأميركية.
في أفلامه لا يسرد كوبولا القصّة فقط، بل يكوّن عالمها الذي تنتمي إليه. من هذا المنطلق فإن فيلمه البيوغرافي عن مصمم السيارات في الخمسينات وعنوانه «تاكر: رجل وحلمه» لا يحكي قصّة الرجل فقط، بل قصّة الخمسينات ويوازي بين المؤسسة الصناعية التي حرمته من تحقيق حلمه بتصميم سيارة مختلفة عن السائد مع المؤسسة الهوليوودية التي - عادة ما - تحرّم المخرج المختلف من تحقيق فيلمه الذي في البال.
وهناك ملاحظة أخرى تخص هذا العبقري الذي لا يزال في الصورة قريباً وبعيداً في الوقت ذاته. كان كوبولا يستطيع، بعد نجاحه الكبير في «العراب»، وبضعة أفلام أخرى له، إنجاز ما يريد من مشاريع تدر عليه المزيد من فرص التمويل والإيرادات. كان يستطيع أن يزاحم سبيلبرغ ولوكاس على إنجاز أفلام من نوعية «إنديانا جونز» و«ستار وورز» لو أراد، أو قبول أعمال كان مارتن سكورسيزي يقبل بها من دون تبرير فني مقنع («كايب فير»، «كازينو» الخ...) لكنه اختار تحقيق الفيلمين اللذين رفعا حاجبَي هوليوود تعجباً، وأكدا لها أن هذا السينمائي لا يكترث لأن يحذو حذو سواه من أبناء جيله. ففي أوج شهرته أنجز فيلمين صغيرين بالأبيض والأسود هما «الخارجون» (The Outsiders) و«رامبل فيش» وكلاهما مع مجموعة من الممثلين الشبّان لم يسمع بهم أحد من قبل: مات ديلون، توم كروز، ميكي رورك، س. توماس هاول، فنسنت سبانو، رالف ماكيو، باتريك سوايز، روب لاو، إميليو استيفيز، دايان لاين. هؤلاء توزّعت بهم الدروب، لكن كل منهم تولّى بطولة أفلام بمفرده لاحقاً.
كوبولا اليوم (80 سنة)، وبعد 29 فيلماً منجزاً، ما زال يعيش على أمجاد حققها بنفسه وبطريقته ومن دون تنازل. في الوقت ذاته، يغازل حالياً مشروع فيلم كتبه بعنوان «ميغابوليس» يدور حول نيويورك بعد كارثة دمرتها ومحاولة حفنة من المؤمنين بها إعادة بنائها من جديد. هذا المشروع قد يعيده إلى صرح الأفلام الكبيرة ولو أن هذا يتوقف على أمر واحد: أن تفتح هوليوود عينيها من جديد على إبداعات كوبولا وتؤمن برؤيته... الآن.
فرنسيس فورد كوبولا خريج سينما لا تعرف المستحيل
يعود بنسخة جديدة من تحفته وبمشروع عن نيويورك
فرنسيس فورد كوبولا خريج سينما لا تعرف المستحيل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة