«إحياء التكية السليمانية» في دمشق يثير المخاوف من تحويلها إلى مطاعم

وزارة الأوقاف تنفي «الاستثمار الرخيص»... و«الآثار» تهدد المعارضين

«التكية السليمانية» من أهم الآثار العثمانية في مدينة دمشق
«التكية السليمانية» من أهم الآثار العثمانية في مدينة دمشق
TT

«إحياء التكية السليمانية» في دمشق يثير المخاوف من تحويلها إلى مطاعم

«التكية السليمانية» من أهم الآثار العثمانية في مدينة دمشق
«التكية السليمانية» من أهم الآثار العثمانية في مدينة دمشق

أثارت التسريبات حول مشروع «إحياء التِّكِيَّة السليمانية» بدمشق وطرحها للاستثمار السياحي، المخاوف من العبث بملامح دمشق التاريخية، وتحويل ثاني أهم مواقعها التراثية بعد الجامع الأموي إلى ساحة مطاعم. واجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي حملات واسعة تدعو لوقف المشروع وحماية ذاكرة دمشق من همجية رؤوس الأموال الجدد، الذين لا يرون في مواقع دمشق التاريخية سوى ميدان لتبييض الأموال وتكثيرها، فمدينة دمشق معروفة بتكاياها ومدارسها ومساجدها المفتوحة للجميع من أهلها وزوارها، إلا إن أثرياء الحرب الذين لا يعرفون ماذا تعني دمشق لأهلها وفقرائها وعشاقها، راحوا يخنقونها بالمطاعم والمقاهي والملاهي من ذوات «النجوم الخمسة» لتكون حكراً عليهم يبددون أموالهم فيها ليلاً ويسترجعونها نهاراً.
مجموعة «معاً لحماية التكية السليمانية»، التي أنشئت الأسبوع الماضي على موقع «فيسبوك» وانضم إليها 4870 شخصاً خلال أقل من 3 أيام، حذّرت من أنّ مشروع إحياء التكية على وشك اكتمال توقيعه، ودعت إلى «منعه من أن يرى نور التخريب»، مستغربة موافقة مديرية الآثار عليه، وقالت إنّ المشروع «يغير بنية ووظيفة التكية تحت شعارات مختلفة: ترميم، واستثمار... وغيره»، مطالبة بـ«رفع الأذى المزمع إحداثه في التكية».
معماري دمشقي وموظف سابق في محافظة دمشق، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـ«الشرق الأوسط»: «إنّها ليست المرة الأولى التي تُثار فيها مثل هذه القضايا. المشكلة دائماً كانت في عدم إدراك الأهمية العليا للحفاظ على التراث بصفته جزءاً أساسياً من الهوية الحضارية»، وأضاف أنّ «سوريا ابتليت برأسمال جاهل أرعن ولد من رحم الحرب، متحالف مع موظفين فاسدين يعملون على تدمير الهوية التاريخية بزعم إحيائها». مضيفاً: «لقد صدر قرار يسمح بقطع أشجار التكية التي عدّها عالم الآثار الفرنسي الراحل جان سوفاجيه مثالاً نادراً في سوريا... وذلك لتنفيذ المشروع، إلّا إنّ العمل بالقرار توقّف بعد الاحتجاج عليه من قبل بعض الموظفين. ومثلما هناك فاسدون؛ فهناك موظفون أمناء على التراث أفنوا أعمارهم في حمايته، لكنّ أصواتهم غالباً لا تُسمع، فقد سبق أن حدثت قضية مماثلة تنمّ عن انعدام الثقافة والتحضر، عام 2015، لم تسرّب إلى الرأي العام عندما تقدم أحد المستثمرين بعرض لإقامة مطعم (خمسة نجوم)؛ بمعنى تضمنه (بارَاً) للمشروبات الكحولية في بهو دار الأوبرا (دار الأسد للموسيقى)، وكاد يحصل على الموافقة. فالعرض المالي كان مغرياً جداً، لولا تصدّي موظف كبير في الدولة للمشروع الذي سيحوّل دار الأوبرا من صرح ثقافي وحضاري إلى (صالة أفراح وليالٍ ملاح)»؛ حسب تعبير المعماري.
المديرية العامة للآثار والمتاحف ردّت على الحملة الموجهة ضدها ببيان نشرته على موقعها الرّسمي، من دون أن تنفي أو تؤكد صحّة المعلومات حول طرحها للاستثمار لتكون مطاعم، وقالت المديرية العامة للآثار والمتاحف إنّ «المشروع يهدف إلى إعادة الحياة لهذا الصرح المهم دون المساس بأي وظيفة من وظائفه، وأعمال الترميم والتدخل ستتم وفق أرفع المعايير المعتمدة دولياً وبإشراف مباشر من المديرية العامة للآثار والمتاحف، وتأهيل الموقع واستدامته يستلزمان تنفيذ بعض الخدمات البسيطة غير الظاهرة التي لن تؤثّر على مشهد الموقع ولا على قيمته الثقافية». ونوّهت بأنّ المشروع يجري بموافقة «خبراء اليونيسكو، مع بعض التعديلات الطفيفة التي أُخذ بها».
واتهمت مديرية الآثار والمتاحف معارضي المشروع بـ«وقف التنمية؛ سواء أدرك أصحابها ذلك أم لم يدركوا»، وهدّدت باللجوء إلى «القضاء المختص لمحاسبة كل من أساء إلينا بعمد أو بجهل».
وزارة الأوقاف في دمشق، المعنية بحماية «التِكِيّة السليمانية» بصفتها وقفاً تراثياً إسلامياً، وقد نالت نصيباً وافراً من حملة الانتقادات المعارضة لمشروع «إحياء» التكية السليمانية، نفت في بيان مقتضب؛ بوصفها «مؤتمنة» على التراث الإسلامي، صحة «ما يشاع حول استثمار الموقع في نشاطات استثمارية»، ووصفته بالإشاعات «رخيصة»، مؤكدة أنّ ما يجري في التكية السليمانية «دراسات لأعمال ترميم وتأهيل الموقع، بهدف الحفاظ على التراث المادي واللامادي في التكية، وتتم هذه الدراسات لدى أشهر بيوتات الهندسة الأثرية والمعمارية العالمية».
ويعود بناء «التكية السليمانية» في دمشق إلى عهد السلطان العثماني؛ سليمان القانوني، الذي أمر ببنائها عام 1554، في الموضع الذي كان يقوم عليه قصر الظاهر بيبرس المعروف باسم «قصر الأبلق»، وقد صمم البناء على مساحة 11 ألف متر مربع المعماري العثماني الشهير سنان، وأشرف على تنفيذه الذي استغرق 6 سنوات المهندس ملا آغا، وذلك في عهد الوالي خضر باشا. أمّا المدرسة الملحقة بالتكية فقد بُنيت سنة 1566، في عهد الوالي لالا مصطفى باشا. وتُقسم التكية إلى قسمين: الأول؛ التكية الكبرى، وتضم مسجداً ومدرسة. والثاني؛ التكية الصغرى وفيها حرم للصلاة وباحة واسعة تحيط بها أروقة وغرف تغطيها القباب. وكانت التكية الصغرى مأوى للغرباء وطلبة العلم والفقراء، وتضمّ اليوم المتحف الحربي السوري وسوق الحرف اليدوية.


مقالات ذات صلة

اكتشاف بقايا معبد الوادي لحتشبسوت في الأقصر

يوميات الشرق اكتشافات أثرية جديدة في الأقصر (البعثة الآثارية)

اكتشاف بقايا معبد الوادي لحتشبسوت في الأقصر

أعلن عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس، الأربعاء، عن اكتشاف بقايا معبد الوادي للملكة حتشبسوت بالأقصر (جنوب مصر)، مع عدد من الاكتشافات الأثرية الأخرى.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق شكّلت العلا ملتقى للحضارات القديمة حيث ربطت بين ثقافات شبه الجزيرة العربية (الشرق الأوسط)

شراكة سعودية - صينية لتعزيز الحفاظ على التراث بالعلا

وقّعت الهيئة الملكية لمحافظة العلا وأكاديمية «دونهوانغ» الصينية شراكة استراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون الثقافي والسياحي والتراثي بين المملكة والصين.

«الشرق الأوسط» (العلا)
يوميات الشرق الغرابة (SWNS)

تمثال غريب الشكل في الكويت يُحيِّر علماء الآثار

اكتُشف رأسٌ غريب الشكل لكائن غير معروف، من الفخار، يعود إلى آلاف السنوات خلال عملية تنقيب في الكويت، مما أثار حيرة علماء الآثار بشأنه.

«الشرق الأوسط» (وارسو)
يوميات الشرق المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: اكتشاف مصطبة طبيب ملكي يبرز تاريخ الدولة القديمة

أعلنت مصر، الاثنين، اكتشافاً أثرياً جديداً في منطقة سقارة (غرب القاهرة)، يتمثّل في مصطبة لطبيب ملكي بالدولة المصرية القديمة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق مدخل مقبرة بسقارة

مصر: اكتشاف مصاطب ومقابر أثرية تبوح بأسرار جديدة عن سقارة

ما زالت منطقة سقارة الأثرية تبوح بأسرارها، حيث اكتشفت البعثة الأثرية المصرية اليابانية مصاطب ومقابر ودفنات تكشف مزيداً عن تاريخ هذه المنطقة الأثرية المهمة. …

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)