تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

دعم المتطرفين في ليبيا وسط صمت المجتمع الدولي

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
TT

تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)

هل باتت لعبة الإرهاب في ليبيا تجرى على المكشوف، لا سيما من قبل تركيا وقطر؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو بالفعل، فلماذا يقف المجتمع الدولي صامتاً تجاه ما يجرى هناك، من غير محاولة جدية لتغيير الأوضاع، وتصويب ما اختل منها، وإنهاء الأزمة الليبية مرة واحدة؟

الثابت أن كثيراً من الأوراق قد اختلطت في الفترة الأخيرة، لا سيما تلك التي يحاول فيها الجيش الليبي تطهير البلاد من الإرهاب والإرهابيين، وقد لاحظ كثيرون أن عملية شحن المزيد من المقاتلين من تنظيم «داعش»، الفارين من سوريا والعراق إلى المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة الميليشيات، ماضية على قدم وساق، وباتت أجهزة الاستخبارات الدولية على بينة مما يحدث هناك، بالصوت والصورة، وبالوثائق والمعلومات.
ولم يعد سراً أن تركيا وقطر تقفان خلف ما يجرى في الداخل الليبي، فإردوغان الذي فشل مشروعه الإسلاموي في زمن «الربيع العربي المغشوش» ينظر إلى ليبيا الآن على أنها الأمل المتبقي له في إحياء أوهامه، وعنده أن نجاح المتطرفين الليبيين سوف يؤثر كل التأثير على تونس الجارة القريبة من الغرب، وربما يمكنه ذلك من مشاغبة مصر، الجار الشرقي الذي أفسد عليه خططه في الأعوام الماضية، بعد ثورة المصريين في 30 يوليو (تموز) 2013.
يوماً تلو الآخر، يتضح جلياً كيف أن أنقرة تقف وراء إمداد الميليشيات الليبية بالأسلحة والعتاد، لا سيما الثقيلة منها، في انتهاك واضح لقرار حظر التسليح المفروض على البلاد منذ عام 2011. وقد رصدت الأجهزة الاستخباراتية الأسبوعين الماضيين وصول أكثر من طائرة شحن أوكرانية تحديداً إلى العاصمة طرابلس، آتية من مطار أنقرة، محملة بالأسلحة الجديدة للميليشيات الموالية لحكومة السراج.
الطائرة من نوع «إليوشن آي إل - 76 تي دي» حطت في مطار معيتيقة الذي يخضع لسيطرة «قوة الردع الخاصة»، ذات المرجعية المتطرفة، التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق. وقبل تلك الرحلة بأيام قليلة، كان الغرب الليبي يشهد وصول عدد من الطائرات المحملة بالأسلحة والذخائر، آتية كذلك من تركيا، بهدف تمكين قوات السراج من مواجهة الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر.
لم يعد الأمر قاصراً على القوات البرية، فالسراج الذي خسر غالبية قطع السلاح الجوي (طائرتان من نوع «ميغ»، وطائرات من نوع «ميغ 23»، وطائرتان من نوع «ميراج إف - 1»، وطائرة من طراز «L 39») يعمل الآن جاهداً على استجلاب طائرات «درون» مسيرة من غير طيار من تركيا، في محاولة لإلحاق الضرر الكبير بقوات الجيش الوطني الليبي.
وفي هذا السياق، تفيد تقارير نشرتها بعض المواقع الاستخباراتية، مثل موقع «الاستخبارات الأفريقية»، إلى أن هناك صفقة تركية لتسليم حكومة الوفاق الليبية طائرات «درونز»، لتعويضها عن الطائرات التي خسرتها خلال معركة طرابلس، ويصل عددها إلى 8 طائرات من نوعية «تي - بي - 2» التي يمكنها مهاجمة وحدات الجيش الليبي، وإحداث خسائر بها، من غير أن يلحق بالميليشيات الليبية أضرار بشرية، مما يعنى أن تركيا تضرب بقرارات مجلس الأمن عرض الحائط، مرة وإلى الأبد، ولم يردع إردوغان أن الميليشيات الإرهابية العاملة في ليبيا قد استخدمت في الآونة الأخيرة هذه الأداة الجهنمية في قصف 4 سيارات مدنية، مما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، عقاباً لهم على تأييدهم الجيش الليبي.
هل يتوقف الدور التركي المخرب عند حدود الأسلحة والمعدات أم يمضى إلى جهة لعب العنصر البشري دوراً بعينه في تلك الأحداث؟
مع بداية يوليو الجاري، كشف مصدر عسكري ليبي عن أن القوات المسلحة الليبية قد حصلت على وثائق سفر خاصة بجنود في جهاز الاستخبارات التركية يساندون الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بطرابلس.
المصدر عينه أشار إلى أن الجيش الليبي رصد أسماء الـ19 ضابطاً تركياً الذين دفع بهم إردوغان لإدارة غرفة عمليات ميليشيات طرابلس، وإدارة الطائرات المسيرة.
من جهة أخرى، كشفت حادثة الصواريخ من نوع «جافلين»، التي تم العثور عليها في بعض مخازن السلاح في مدينة الغريان، عن أبعاد العلاقة الثلاثية التي تجمع «مايكل سولمان»، الشريك في شركة «ميركوري»، والسراج وقطر. فالشركة المشار إليها تقدم خدماتها للحكومة القطرية، و«سولمان» نفسه يعمل كبير مستشاري السيناتور الأميركي «روبرت مينندز»، المعروف بعلاقاته بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي.
وكان من الواضح أن ميليشيات ليبية، تدعمها قطر، هي من قامت بدس الصواريخ الفرنسية الثلاثة على مخازن سلاح الجيش الليبي، حتى يبدو أنه من يخرق قرارات الحظر على التسليح، غير أن ما فضح أمر المؤامرة الأخيرة هو أنها ليست الأولى التي تجرى على هذا النحو، فقد ساعدت قطر الميليشيات الليبية التابعة لها في شراء أسلحة متقدمة من بلغاريا، وإدخالها مهربة إلى البلاد، وكان من اليسير تتبع أرقامها المتسلسلة، ومعرقة من البائع ومن المشتري، الأمر الذي يشبه كثيراً قضية مركز اللاجئين، الذي كشفت فيه صور الأقمار الاصطناعية الفاعل الحقيقي، ومن الذي يُفعل الإرهاب على الأراضي الليبية، وفي كل مرة يحاول إلصاق التهمة بالجيش الوطني للبلاد. لم تكن قصة الصواريخ إلا محاولة للتغطية على المجزرة التي قامت بها ميليشيات طرابلس بحق جرحى جنود الجيش الوطني في مدينة غريان، حيث تم قتل 40 جريحاً من عناصر الجيش الليبي.
والسؤال المطروح الآن: هل تلعب تركيا وقطر دور الجسر الداعم لعودة «الدواعش» مرة جديدة إلى ليبيا؟
ليس سراً أن رجال قطر من المتطرفين والمرتبطين بـ«الجماعة المقاتلة» وغيرهم ينشطون هذه الأيام في نقل العناصر الإرهابية من العراق وسوريا إلى ليبيا، وأنه في حين يستغلون شركات النقل الخاصة بهم، التي هي في واقع الأمر ليست سوى أدوات قطرية وتمويل قطري، يفتح إردوغان مطاراته وموانيه، ويجعل بلاده بمثابة «ترانزيت» لنقل العناصر الإرهابية من مناطق فشل وإخفاق «داعش» إلى ميدان المعركة الجديد، التي يراد لها أن تتمدد إلى قلب أفريقيا، وهذه قصة أخرى.
قبل أيام، كان عضو مجلس النواب الليبي على السعيدي في مدينة طبرق، شرق البلاد، يؤكد على أن نقل عناصر إرهابية من تركيا إلى ليبيا ليس بالجديد، مشيراً إلى أن هؤلاء الإرهابيين يأتون لمحاربة ومواجهة قوات الجيش الليبي في عملياته العسكرية بطرابلس العاصمة.
هل لهذا السبب بدأ «الدواعش» في رفع إعلامهم مرة أخرى في ليبيا الأيام الماضية؟
مؤكد أن الأمر بالفعل على هذا النحو، ففي الأسبوع الأول من الشهر الجاري، نشرت الوكالة التابعة لتنظيم داعش الإرهابي «أعماق»، على تطبيق «تلغرام»، تسجيلاً مرئياً وسط منطقة صحراوية، زعمت أنها جنوب ليبيا، ظهر فيه عشرات المقاتلين يبايعون زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
التسجيل الذي حمل عنوان «والعاقبة للمتقين» تم تصويره غالباً في منطقة «سبها»، جنوب ليبيا، ومدته نحو 5 دقائق، تحدث فيها «محمود البرعصي» المكنى بـ«أبو مصعب الليبي»، مؤسس تنظيم «داعش» في بنغازي، يتوعد القوات التابعة للقيادة العامة بالانتقام ومزيد من القتال.
وفى مايو (أيار) الماضي، تبنى التنظيم نفسه الهجوم على مقر الكتيبة 160، التابعة للقيادة العامة للجيش، في مدينة «سبها»، مما أسفر عن مقتل 9 أفراد خلال الهجوم... هل يفهم القارئ الآن الأسباب التي أدت إلى تصريحات الرئيسي الروسي فلاديمير بوتين التي حذر فيها من انتقال عناصر تابعة لتنظيم «داعش» من الأراضي السورية إلى ليبيا؟
وبالعودة إلى السؤال المتقدم الخاص بالأسباب التي تدفع إردوغان للعب هذا الدور في ليبيا، نجد أن هناك كثيراً من الخيوط المتشابكة والخطوط المتداخلة، ذلك أنه وإن كان إردوغان يسعى لإعادة التاريخ إلى الوراء، وهذا ما فشل وسيفشل فيه على الدوام، فإن هناك محاولات أخرى للسيطرة على ليبيا من أجل تعويض خسائره في الداخل التركي في الفترة الأخيرة، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية تتدهور في بلاده، وينتظر لها أيضاً أن تصل إلى أوضاع صعبة، حال فرض الأميركيون عقوبات على أنقرة بعد إتمام صفقة الصواريخ «S-400» مع روسيا.
وتكشف لنا عدة تقارير دولية أبعاد التدخل التركي في ليبيا، منها ما كشفت عنه الإذاعة الألمانية «دويتشه فيلا»، من أن دافع تركيا للتدخل في ليبيا هو أطماعها في احتياطات البلاد الغنية من النفط والغاز، وموقعها الذي يتقاطع مع طرق التجارة الرئيسية في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى النفط والغاز، فإن تركيا تطمح لبسط سيطرة شركاتها على العقود الاقتصادية في ليبيا.
ويحاول إردوغان تعويض خسائره في ليبيا. ففي عهد القذافي، كانت هناك شركات تركية كثيرة تنشط في مجال الإنشاءات على وجه التحديد، وتجاوزت أرباحها مليارات الدولارات. وقد تراجع هذا الدور كثيراً بعد الإطاحة بالقذافي. والمعروف أن علاقات أنقرة الوثيقة بحكومة السراج مكنتها من وضع أقدام شركاتها مجدداً في البلاد، والحصول على عقود كثيرة في طرابلس وغيرها، خصوصاً عقود إنشاء الطريق الساحلي في طرابلس، إلا أن هذه المصالح علقت بحملة الجيش ضد طرابلس، وبذلك أصبح الجيش يشكل تهديداً كبيراً لأطماع تركيا الاقتصادية والمالية، مما دفع الأخيرة للوقوف بشكل كبير في صف السراج.
أما وكالة «بلومبرغ» الدولية، ذات الطابع الاقتصادي العالمي، فقد كشفت في تقرير لها أن إردوغان يسعى من خلال تدخله في ليبيا إلى الاستفادة من عدد من الامتيازات، بداية من النفط، مروراً بالغاز، وصولاً إلى صفقات إعادة الإعمار. وتقول الوكالة إن إردوغان يسعى إلى عقود وامتيازات تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار.
هل من خلاصة للمشهد المتقدم؟
من الواضح أن القضية الليبية باتت مركبة، وليست بسيطة، لا سيما مع تهديدات عودة «داعش» من جديد، فالمسألة أصبحت قضية أمن عالمي، وعلى الجانب الأوروبي هذه المرة أن يعوض أخطاءه السابقة التي قادت إلى الوضع الآني في ليبيا، كما ينبغي على المجتمع الدولي، خصوصاً موسكو التي لها مصالح كبرى في ليبيا وعموم أفريقيا، اتخاذ مواقف حاسمة وحازمة من أفعال إردوغان وتميم في ليبيا.
وماذا عن الجانب الأميركي؟
لا يزال الدور الأميركي بالنسبة لليبيا مثيراً للتساؤلات، غير أن توجهات ترمب بلا شك المضادة للإرهاب توضح لنا اتجاهات الرياح ناحية طرابلس خاصة، وإن كانت واشنطن منشغلة بالملف الإيراني.
وفى كل الأحوال، لا تبدو في الأفق نهاية قريبة أو سريعة للأزمة الليبية، وهذا هو أفضل مناخ للأصوليين والإرهابيين يمكن لهم أن ينموا فيه، فهل ينتظر العالم فصلاً دموياً «داعشياً» جديداً على ضفاف المتوسط؟


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».