تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

دعم المتطرفين في ليبيا وسط صمت المجتمع الدولي

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
TT

تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)

هل باتت لعبة الإرهاب في ليبيا تجرى على المكشوف، لا سيما من قبل تركيا وقطر؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو بالفعل، فلماذا يقف المجتمع الدولي صامتاً تجاه ما يجرى هناك، من غير محاولة جدية لتغيير الأوضاع، وتصويب ما اختل منها، وإنهاء الأزمة الليبية مرة واحدة؟

الثابت أن كثيراً من الأوراق قد اختلطت في الفترة الأخيرة، لا سيما تلك التي يحاول فيها الجيش الليبي تطهير البلاد من الإرهاب والإرهابيين، وقد لاحظ كثيرون أن عملية شحن المزيد من المقاتلين من تنظيم «داعش»، الفارين من سوريا والعراق إلى المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة الميليشيات، ماضية على قدم وساق، وباتت أجهزة الاستخبارات الدولية على بينة مما يحدث هناك، بالصوت والصورة، وبالوثائق والمعلومات.
ولم يعد سراً أن تركيا وقطر تقفان خلف ما يجرى في الداخل الليبي، فإردوغان الذي فشل مشروعه الإسلاموي في زمن «الربيع العربي المغشوش» ينظر إلى ليبيا الآن على أنها الأمل المتبقي له في إحياء أوهامه، وعنده أن نجاح المتطرفين الليبيين سوف يؤثر كل التأثير على تونس الجارة القريبة من الغرب، وربما يمكنه ذلك من مشاغبة مصر، الجار الشرقي الذي أفسد عليه خططه في الأعوام الماضية، بعد ثورة المصريين في 30 يوليو (تموز) 2013.
يوماً تلو الآخر، يتضح جلياً كيف أن أنقرة تقف وراء إمداد الميليشيات الليبية بالأسلحة والعتاد، لا سيما الثقيلة منها، في انتهاك واضح لقرار حظر التسليح المفروض على البلاد منذ عام 2011. وقد رصدت الأجهزة الاستخباراتية الأسبوعين الماضيين وصول أكثر من طائرة شحن أوكرانية تحديداً إلى العاصمة طرابلس، آتية من مطار أنقرة، محملة بالأسلحة الجديدة للميليشيات الموالية لحكومة السراج.
الطائرة من نوع «إليوشن آي إل - 76 تي دي» حطت في مطار معيتيقة الذي يخضع لسيطرة «قوة الردع الخاصة»، ذات المرجعية المتطرفة، التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق. وقبل تلك الرحلة بأيام قليلة، كان الغرب الليبي يشهد وصول عدد من الطائرات المحملة بالأسلحة والذخائر، آتية كذلك من تركيا، بهدف تمكين قوات السراج من مواجهة الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر.
لم يعد الأمر قاصراً على القوات البرية، فالسراج الذي خسر غالبية قطع السلاح الجوي (طائرتان من نوع «ميغ»، وطائرات من نوع «ميغ 23»، وطائرتان من نوع «ميراج إف - 1»، وطائرة من طراز «L 39») يعمل الآن جاهداً على استجلاب طائرات «درون» مسيرة من غير طيار من تركيا، في محاولة لإلحاق الضرر الكبير بقوات الجيش الوطني الليبي.
وفي هذا السياق، تفيد تقارير نشرتها بعض المواقع الاستخباراتية، مثل موقع «الاستخبارات الأفريقية»، إلى أن هناك صفقة تركية لتسليم حكومة الوفاق الليبية طائرات «درونز»، لتعويضها عن الطائرات التي خسرتها خلال معركة طرابلس، ويصل عددها إلى 8 طائرات من نوعية «تي - بي - 2» التي يمكنها مهاجمة وحدات الجيش الليبي، وإحداث خسائر بها، من غير أن يلحق بالميليشيات الليبية أضرار بشرية، مما يعنى أن تركيا تضرب بقرارات مجلس الأمن عرض الحائط، مرة وإلى الأبد، ولم يردع إردوغان أن الميليشيات الإرهابية العاملة في ليبيا قد استخدمت في الآونة الأخيرة هذه الأداة الجهنمية في قصف 4 سيارات مدنية، مما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، عقاباً لهم على تأييدهم الجيش الليبي.
هل يتوقف الدور التركي المخرب عند حدود الأسلحة والمعدات أم يمضى إلى جهة لعب العنصر البشري دوراً بعينه في تلك الأحداث؟
مع بداية يوليو الجاري، كشف مصدر عسكري ليبي عن أن القوات المسلحة الليبية قد حصلت على وثائق سفر خاصة بجنود في جهاز الاستخبارات التركية يساندون الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بطرابلس.
المصدر عينه أشار إلى أن الجيش الليبي رصد أسماء الـ19 ضابطاً تركياً الذين دفع بهم إردوغان لإدارة غرفة عمليات ميليشيات طرابلس، وإدارة الطائرات المسيرة.
من جهة أخرى، كشفت حادثة الصواريخ من نوع «جافلين»، التي تم العثور عليها في بعض مخازن السلاح في مدينة الغريان، عن أبعاد العلاقة الثلاثية التي تجمع «مايكل سولمان»، الشريك في شركة «ميركوري»، والسراج وقطر. فالشركة المشار إليها تقدم خدماتها للحكومة القطرية، و«سولمان» نفسه يعمل كبير مستشاري السيناتور الأميركي «روبرت مينندز»، المعروف بعلاقاته بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي.
وكان من الواضح أن ميليشيات ليبية، تدعمها قطر، هي من قامت بدس الصواريخ الفرنسية الثلاثة على مخازن سلاح الجيش الليبي، حتى يبدو أنه من يخرق قرارات الحظر على التسليح، غير أن ما فضح أمر المؤامرة الأخيرة هو أنها ليست الأولى التي تجرى على هذا النحو، فقد ساعدت قطر الميليشيات الليبية التابعة لها في شراء أسلحة متقدمة من بلغاريا، وإدخالها مهربة إلى البلاد، وكان من اليسير تتبع أرقامها المتسلسلة، ومعرقة من البائع ومن المشتري، الأمر الذي يشبه كثيراً قضية مركز اللاجئين، الذي كشفت فيه صور الأقمار الاصطناعية الفاعل الحقيقي، ومن الذي يُفعل الإرهاب على الأراضي الليبية، وفي كل مرة يحاول إلصاق التهمة بالجيش الوطني للبلاد. لم تكن قصة الصواريخ إلا محاولة للتغطية على المجزرة التي قامت بها ميليشيات طرابلس بحق جرحى جنود الجيش الوطني في مدينة غريان، حيث تم قتل 40 جريحاً من عناصر الجيش الليبي.
والسؤال المطروح الآن: هل تلعب تركيا وقطر دور الجسر الداعم لعودة «الدواعش» مرة جديدة إلى ليبيا؟
ليس سراً أن رجال قطر من المتطرفين والمرتبطين بـ«الجماعة المقاتلة» وغيرهم ينشطون هذه الأيام في نقل العناصر الإرهابية من العراق وسوريا إلى ليبيا، وأنه في حين يستغلون شركات النقل الخاصة بهم، التي هي في واقع الأمر ليست سوى أدوات قطرية وتمويل قطري، يفتح إردوغان مطاراته وموانيه، ويجعل بلاده بمثابة «ترانزيت» لنقل العناصر الإرهابية من مناطق فشل وإخفاق «داعش» إلى ميدان المعركة الجديد، التي يراد لها أن تتمدد إلى قلب أفريقيا، وهذه قصة أخرى.
قبل أيام، كان عضو مجلس النواب الليبي على السعيدي في مدينة طبرق، شرق البلاد، يؤكد على أن نقل عناصر إرهابية من تركيا إلى ليبيا ليس بالجديد، مشيراً إلى أن هؤلاء الإرهابيين يأتون لمحاربة ومواجهة قوات الجيش الليبي في عملياته العسكرية بطرابلس العاصمة.
هل لهذا السبب بدأ «الدواعش» في رفع إعلامهم مرة أخرى في ليبيا الأيام الماضية؟
مؤكد أن الأمر بالفعل على هذا النحو، ففي الأسبوع الأول من الشهر الجاري، نشرت الوكالة التابعة لتنظيم داعش الإرهابي «أعماق»، على تطبيق «تلغرام»، تسجيلاً مرئياً وسط منطقة صحراوية، زعمت أنها جنوب ليبيا، ظهر فيه عشرات المقاتلين يبايعون زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
التسجيل الذي حمل عنوان «والعاقبة للمتقين» تم تصويره غالباً في منطقة «سبها»، جنوب ليبيا، ومدته نحو 5 دقائق، تحدث فيها «محمود البرعصي» المكنى بـ«أبو مصعب الليبي»، مؤسس تنظيم «داعش» في بنغازي، يتوعد القوات التابعة للقيادة العامة بالانتقام ومزيد من القتال.
وفى مايو (أيار) الماضي، تبنى التنظيم نفسه الهجوم على مقر الكتيبة 160، التابعة للقيادة العامة للجيش، في مدينة «سبها»، مما أسفر عن مقتل 9 أفراد خلال الهجوم... هل يفهم القارئ الآن الأسباب التي أدت إلى تصريحات الرئيسي الروسي فلاديمير بوتين التي حذر فيها من انتقال عناصر تابعة لتنظيم «داعش» من الأراضي السورية إلى ليبيا؟
وبالعودة إلى السؤال المتقدم الخاص بالأسباب التي تدفع إردوغان للعب هذا الدور في ليبيا، نجد أن هناك كثيراً من الخيوط المتشابكة والخطوط المتداخلة، ذلك أنه وإن كان إردوغان يسعى لإعادة التاريخ إلى الوراء، وهذا ما فشل وسيفشل فيه على الدوام، فإن هناك محاولات أخرى للسيطرة على ليبيا من أجل تعويض خسائره في الداخل التركي في الفترة الأخيرة، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية تتدهور في بلاده، وينتظر لها أيضاً أن تصل إلى أوضاع صعبة، حال فرض الأميركيون عقوبات على أنقرة بعد إتمام صفقة الصواريخ «S-400» مع روسيا.
وتكشف لنا عدة تقارير دولية أبعاد التدخل التركي في ليبيا، منها ما كشفت عنه الإذاعة الألمانية «دويتشه فيلا»، من أن دافع تركيا للتدخل في ليبيا هو أطماعها في احتياطات البلاد الغنية من النفط والغاز، وموقعها الذي يتقاطع مع طرق التجارة الرئيسية في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى النفط والغاز، فإن تركيا تطمح لبسط سيطرة شركاتها على العقود الاقتصادية في ليبيا.
ويحاول إردوغان تعويض خسائره في ليبيا. ففي عهد القذافي، كانت هناك شركات تركية كثيرة تنشط في مجال الإنشاءات على وجه التحديد، وتجاوزت أرباحها مليارات الدولارات. وقد تراجع هذا الدور كثيراً بعد الإطاحة بالقذافي. والمعروف أن علاقات أنقرة الوثيقة بحكومة السراج مكنتها من وضع أقدام شركاتها مجدداً في البلاد، والحصول على عقود كثيرة في طرابلس وغيرها، خصوصاً عقود إنشاء الطريق الساحلي في طرابلس، إلا أن هذه المصالح علقت بحملة الجيش ضد طرابلس، وبذلك أصبح الجيش يشكل تهديداً كبيراً لأطماع تركيا الاقتصادية والمالية، مما دفع الأخيرة للوقوف بشكل كبير في صف السراج.
أما وكالة «بلومبرغ» الدولية، ذات الطابع الاقتصادي العالمي، فقد كشفت في تقرير لها أن إردوغان يسعى من خلال تدخله في ليبيا إلى الاستفادة من عدد من الامتيازات، بداية من النفط، مروراً بالغاز، وصولاً إلى صفقات إعادة الإعمار. وتقول الوكالة إن إردوغان يسعى إلى عقود وامتيازات تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار.
هل من خلاصة للمشهد المتقدم؟
من الواضح أن القضية الليبية باتت مركبة، وليست بسيطة، لا سيما مع تهديدات عودة «داعش» من جديد، فالمسألة أصبحت قضية أمن عالمي، وعلى الجانب الأوروبي هذه المرة أن يعوض أخطاءه السابقة التي قادت إلى الوضع الآني في ليبيا، كما ينبغي على المجتمع الدولي، خصوصاً موسكو التي لها مصالح كبرى في ليبيا وعموم أفريقيا، اتخاذ مواقف حاسمة وحازمة من أفعال إردوغان وتميم في ليبيا.
وماذا عن الجانب الأميركي؟
لا يزال الدور الأميركي بالنسبة لليبيا مثيراً للتساؤلات، غير أن توجهات ترمب بلا شك المضادة للإرهاب توضح لنا اتجاهات الرياح ناحية طرابلس خاصة، وإن كانت واشنطن منشغلة بالملف الإيراني.
وفى كل الأحوال، لا تبدو في الأفق نهاية قريبة أو سريعة للأزمة الليبية، وهذا هو أفضل مناخ للأصوليين والإرهابيين يمكن لهم أن ينموا فيه، فهل ينتظر العالم فصلاً دموياً «داعشياً» جديداً على ضفاف المتوسط؟


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟