ملتقى الرواية في فلسطين نجح بمن استطاع إليه سبيلاً

الاحتلال عرقل مشاركة 30 ضيفاً من البلاد العربية وغزة

جدارية في متحف الرئيس عرفات
جدارية في متحف الرئيس عرفات
TT

ملتقى الرواية في فلسطين نجح بمن استطاع إليه سبيلاً

جدارية في متحف الرئيس عرفات
جدارية في متحف الرئيس عرفات

أيام لا تُنسى، تلك التي أمضاها عدد من الأدباء القادمين من بلاد الهجرات مع زملائهم أدباء وروائيي فلسطين المحتلة. كانت تلبية الدعوة لا تقبل التردد لحضور الملتقى الثاني للرواية العربية في فلسطين. وكان الأمل أن يتمكن جميع المدعوين الذين زاد عددهم على الأربعين من الحضور. لكن سلطات الاحتلال تماهلت عن النظر في طلب تصاريح الدخول للآتين من البلاد العربية، وكذلك لأدباء وروائيي غزة، بهدف عرقلة الفعالية التي باتت لها، بعد دورتها الأولى، أصداء واسعة.
لم يحضر الكويتي طالب الرفاعي، ولا العمانية بشرى خلفان، ولا اليمني علي المقري، ولا السوداني أمير تاج السر، ولا التونسية وئام غداس، ولا المصريان أشرف عشماوي وفاطمة البودي، ولا الليبية نجوى بن شتوان، ولا الجزائري أمين زاوي، ولا غيرهم من الروائيين والناشرين، لكن صورهم تألقت على الشاشة الكبيرة التي تصدرت مسرح بلدية رام الله، وكان غيابهم يدل على خشية المحتل من الكلمة، ومن تلاقي الكاتب مع شخصياته الحقيقية. إنه «خوف الغزاة من الذكريات» و«خوف الطغاة من الأغنيات»، كما وصفه محمود درويش في واحدة من أشهر قصائده. ورغم الغياب، نجح الملتقى بمن حضر من الأدباء الذين يحملون جوازات بلاد المهجر. كما نجح بفضل الحشد الجميل من روائيي فلسطين وشعرائها ومثقفيها من جانبي الخط الذي اخترعوه وسمّوه «الأخضر».
انطلق الملتقى في ذكرى استشهاد الشاعر والروائي والصحافي المناضل غسان كنفاني، عام 1972 في بيروت. وكان حفل الافتتاح الذي ساهمت في إحيائه «فرقة الرافدين للفنون الشعبية» عرساً بمعنى الكلمة، حين خرج أهالي رام الله بالمئات للترحيب بالأدباء والتعبير عن فرحتهم باللقاء. كانت عبارة «كسر الحصار» تتكرر بينهم. وكذلك التذكير بأن «زيارة السجين لا تعني التطبيع مع السجّان». لكن المشاركة لم تكن زيارة لسجين بل لشعب يبذل دماء أبنائه وبناته منذ أكثر من نصف قرن لكي لا يتنازل عن حريته. وكان من الجميل ألا تقتصر جلسات الملتقى على مدينة رام الله، بل تنقلت ما بين البيرة وطولكرم وبيت لحم ووصلت حتى مخيم الدهيشة. ساروا في دروب تحفّ بها صور الشهداء مرسومة على الجدران التي تحولت إلى جرائد ولافتات. وكم كان مثيراً أن تعقد في خيمة الاعتصام هناك ندوة عن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، أدارها الروائي الفلسطيني أسامة العيسة، ابن المخيم، وحرص على حضورها مثقفون وصحافيون منهم الكاتبة الإسرائيلية أميرة هاس التي اشتهرت بتقاريرها التي تدين الاحتلال، وبسببها تعرضت لأقسى ما يمكن أن يتعرض له صحافي من نبذ وشتائم. وأميرة تتكلم مع الحضور باللهجة الفلسطينية، وقالت إنها تتعلم العربية الفصحى لكي تقرأ الروايات التي ينشرها الكتّاب العرب.
في جلسة عن كتابة المنفى، وقف فلسطيني متقدم في السن وانتقد الروائيين الجالسين على المنصة، لأنهم يقيمون خارج أوطانهم ودعاهم للعودة والعمل فيها ومن أجلها. واحتدم الجدل حول كلامه. وكان الرد حول أشكال التعسف التي يتعرض لها الأديب في البلاد العربية. والسؤال هو: هل تنتهي علاقة الكاتب بوطنه بمجرد مغادرته له؟ ألا يكتبون جميعاً عن الأوطان حتى وهم في المنافي البعيدة والمَهاجر؟ خشي المشرفون على الجلسة من تطور النقاش إلى معركة كلامية. ما الضير؟ كان الرأي أن ملتقى فلسطين هو الأجدر من أي منتدى غيره على احتواء هذا النوع من المواجهات. هنا لا رقابة على الكلام من أي نوع. يطلب وزير الثقافة الكلام فيقول له مدير الجلسة إن دوره لم يحن بعد، وإن هناك من طلب الكلام قبله. ولعل من حظوظ أدباء فلسطين أن وزراء ثقافتهم هم من الروائيين. وهم يقدمون أنفسهم بأنهم من أهل الكلمة قبل كونهم من أهل السياسة.
لم يكن المشاركون يعرفون أن لرام الله والبيرة سيدة تجلس في مقعد المحافظ. إن الدكتورة ليلى غنّام هي أول امرأة عربية تشغل هذا المنصب. وهي ذات شخصية آسرة وحضور بهيج بحيث إن بلدات مجاورة تطالب بها. لقد تخصصت في الخدمة الاجتماعية وتحمل الماجستير في الإرشاد التربوي. ولها شهادة دكتوراه في الصحة النفسية من جامعة المنيا في مصر، قالت إن ظروفها لم تكن سهلة، وتأخرت ست سنوات عن الالتحاق بالجامعة، لأن شقيقيها كانا في السجن. وفي عشائها مع الروائيين اعتذرت عن تأخرها على ندوتهم لأنها كانت، وهي المحجبة، تحضر صلاة في الكنيسة على روح الفنان المناضل الراحل وليم نصار.
زار المشاركون في الملتقى متحف الرئيس عرفات، ووضعوا إكليل ورد على ضريحه. شاهدوا مكتبه البسيط والغرفة التي كان ينام فيها على سرير مرتجل أثناء حصار الإسرائيليين له في المقاطعة. ثم عقدوا جلسة حول نشر الكتب وتوزيعها في إحدى قاعات المتحف. كانوا يشعرون بأن روح «الختيار» تحوم فوق رؤوسهم فلم يشتبك الكتّاب مع الناشرين ولا مع قراصنة الروايات، ولم يرفعوا الصوت كما جرى في ندوة «كتابة المنفى». ويمكن لمن تسنى له حضور مؤتمرات عربية كثيرة أن يشهد بأن لا مكان للملل في ندوات ملتقى فلسطين، ولا لإغفاءة أو لهروب من القاعة بحجة تدخين سيجارة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».