ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
TT

ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)

أحدث وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض سنة 2017 زلزالاً في العلاقات الدولية وفي صورة القيادة الأميركية. رئيس لا يعمد إلى المهادنة ولبس القفازات في مواجهة القضايا الساخنة، مع الحلفاء أو الخصوم. لا يقيم وزناً للتحالفات التقليدية التي ربطت واشنطن بحلفائها الأوروبيين وبجيرانها لسنوات مديدة. وكيفما كان قياس حسابات الربح والخسارة في سياسة ترمب، فإن الأكيد أن هاجسه الأساسي هو قاعدته الانتخابية داخل الولايات المتحدة، وهي القاعدة التي يدغدغها بشعارات مثل «أميركا أولا» أو «أميركا عظمى من جديد»، في انتقاد لا يتضمن أي التباس لسياسات أسلافه، التي يعتبر أن مهمته الأساسية هي إصلاحها، ووضع الولايات المتحدة من جديد على الطريق الصحيح، كما يراه.
مع إعلان دونالد ترمب ترشحه لولاية ثانية، وبدء التنافس بين الديمقراطيين على اختيار المرشح الذي يرون أنه الأفضل لكسب السباق، نفتح في هذه الصفحة ملف رئاسة ترمب من ثلاث زوايا: سياسته الخارجية، وعلاقاته الصعبة مع الحلفاء الأوروبيين، والصراع بين الديمقراطيين على اختيار من يستطيع منافسته.

في 15 يوليو (تموز) من العام الماضي، وبلغة استفزازية، في مقابلة مع شبكة «سي بي إس»، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب رؤيته «العميقة» للاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد هو في نظره «العدو الرئيسي» للولايات المتحدة، وهو بذلك يكون أخطر من روسيا والصين اللتين وصفهما ترمب أيضا بأنهما عدوتان. ولمزيد من الإيضاح، فقد وصف ترمب الاتحاد الأوروبي بأنه «صعب المراس والمنافس الأول لأميركا في العالم اليوم». ولا يأخذ الرئيس الأميركي على الأوروبيين فقط أنهم لا يساهمون بما يتوجب عليهم للحلف الأطلسي (2 في المائة من الدخل القومي الخام) بل إنهم يمولون روسيا التي يطلبون منه حمايتهم منها. والدليل على ذلك مساهمة ألمانيا في مشروع الغاز الروسي الجديد. رؤية ترمب التبسيطية للسياسة الدولية تفضي إلى ما يلي: «يطلب منا أن ندافع عن جهة (أوروبا) وهذه الجهة تدفع المليارات لطرف آخر (روسيا) التي يريدون منا أن ندرأ شرها عنهم». برأيه، فإن أمرا كهذا «مثير للسخرية».
ثمة إجماع بين الأوروبيين أن أيا من رؤساء الولايات المتحدة لم يقل في أوروبا ما قاله ساكن البيت الأبيض، وأن العلاقات بين ضفتي الأطلسي لم تكن أبدا إلى هذا الحد رهينة «مزاجية» رئيس يمارس الدبلوماسية على طريقة التغريدات الصباحية بعد ليلة يقضيها مشاهداً «فوكس نيوز». ولا يبدو أن الأشهر الـ12 التي انقضت منذ المقابلة التي أجرتها معه «سي بي إس» قد غيرت الكثير في علاقات الرئيس الأميركي مع القارة القديمة أو رؤيته لها. ومؤخرا لم يتردد في القول إن أوروبا «لا تهمه» وإن بلاده سخية للغاية معها إذ أنها تهتم بها وتصرف الكثير عليها في إطار الحلف الأطلسي ومع ذلك فإن الأوروبيين «يستفيدون منا ومنذ زمن طويل في علاقاتنا التجارية»، ما يعني بالنسبة إليه أن هناك خطأ ما يتعين تصحيحه.
هذه المقاربة الترمبية تربك الأوروبيين. وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطالب نظيره الأميركي، في حديث إلى مجلة «نيو يوركر» هذا الأسبوع بأن «يوضح موقفه» من الاتحاد الأوروبي بعد الذي قاله في مسألة «بركسيت» ودعوته بريطانيا إلى قطيعة مع شركائها الأوروبيين. ولم يتردد ترمب في التدخل المباشر والفاضح، خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا، في شؤونها وشؤون الاتحاد الداخلية. وبحسب ماكرون، ثمة «مناطق مبهمة» في مقاربة ترمب تحتاج لجلاء غموضها. وهل يمكن أن ينسى ماكرون السهام التي وجهها ترمب إليه عندما دعا، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى قيام «جيش أوروبي حقيقي» حتى تخفف أوروبا من الاعتماد في دفاعها على الشريك الأميركي وعلى الحلف الأطلسي. وكان رد ترمب صاعقا إذ ذكّر ماكرون بأنه «لولا تدخل القوات الأميركية (في الحرب العالمية الثانية) لكان الفرنسيون يدرسون الألمانية» في إشارة إلى احتلال القوات النازية لفرنسا.
حقيقة الأمر أن الملفات الخلافية بين ترمب وأوروبا عديدة. فالصداقة التقليدية بين الطرفين أصيبت في الصميم. الرئيس الأميركي غاضب من المستشارة الألمانية التي كرسها باراك أوباما «زعيمة العالم الحر والمدافعة عنه» قبل رحيله عن البيت الأبيض. وعلاقات ترمب مع ماكرون مزاجية وتتأرجح بين نقيضين: البرودة الشديدة والحرارة الخانقة. أما رئيسة الوزراء البريطانية التي حاولت التقرب منه فقد لفظها بفظاظة عندما اعتبر أن بوريس جونسون، خليفتها المحتمل، سيكون أقدر على إخراج بريطانيا من الاتحاد لا بل إنه لم يتردد في الاجتماع بزعيم اليمين البريطاني المتطرف نايجل فراج الذي وصفه بأنه «صديق». وفيما خص الزعماء الأوروبيين الآخرين فحدث ولا حرج...
لقد وصلت حالة انعدام الثقة بين الأوروبيين والإدارة الأميركية الحالية إلى درجة أن مصادر دبلوماسية فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن أفضل ما يتمنونه من قمة بياريتز (جنوب غربي فرنسا) لمجموعة البلدان السبع التي ستلتئم في نهاية أغسطس (آب) برئاسة فرنسا هي أن «تمر بخير»، بمعنى ألا يعمد ترمب إلى تغريدات قاتلة أو أن يرفض بيانا تم التحضير له لأسابيع بعد أن يركب طائرته عائدا لبلاده. وتضيف هذه المصادر أنه يتعين على الأوروبيين أن «يتأقلموا» في تعاملهم مع ترمب. فالأخير «ما زال أمامه 18 شهرا في البيت الأبيض ثم من يدري؟ ربما علينا أن نزيد أربع سنوات إضافية» في حال نجح في ولاية ثانية.
يتوقع الأوروبيون أن تتواصل حالة التجاذب مع ترمب للسنوات القادمة. فالأخير اختصر «فلسفته» السياسية بشعاره الرئيسي «أميركا أولا» وهو يطبقه عمليا من خلال سياسة «أحادية» ترفض جذريا الإدارة الجماعية لشؤون العالم. والأدلة على ذلك لا تحصى: فالرئيس الأميركي باشر ولايته بالخروج من اتفاقية المناخ المسماة «اتفاقية باريس» المبرمة نهاية العام 2015 مستندا إلى نظرية أن النشاطات الإنسانية لا علاقة لها بزيادة حرارة الأرض وأن الدراسات العلمية التي تتوقع ارتفاع الحرارة وذوبان جبال الجليد وارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات لا أساس لها. وأتبع ذلك بالخروج من منظمة اليونيسكو وبإطلاق حرب تجارية تنسف الأسس التي تقوم عليها منظمة التجارة الدولية ولا تستهدف فقط الصين بل أقرب المقربين إلى بلاده مثل كندا والمكسيك والدول الأوروبية. كذلك هدد ترمب بالانسحاب من الحلف الأطلسي وتوسل في سياساته اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية العابرة للحدود بفعل قوة الاقتصاد الأميركي وعملته الدولار.
ما يحرج الأوروبيين في سياسة ترمب الخارجية عدم القدرة على توقعها واستباقها. ففي ملف كوريا الشمالية النووي، احتار الأوروبيون بين رئيس يملك «زرا نوويا» أقوى من الزر الكوري وهو قادر على «محو» كوريا الشمالية عن الخريطة. وفي اليوم التالي لقاء فعناق ورسائل غرام مع كيم جونغ أون. وفي الملف الفلسطيني، وأد ترمب عشرات السنوات من سياسة واشنطن التقليدية الرافضة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كذلك غض النظر عن الاستيطان الإسرائيلي وحل الدولتين. وبما أن ذلك لم يكف، فقد «منح» الجولان الذي لا يملكه إلى إسرائيل التي تحتله. وفي الملف الإيراني، وفي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية، سحب ترمب توقيع بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وها هي أميركا وإيران تلعبان على حافة الهاوية في منطقة استراتيجية للعالم أجمع بفضل مخزونها من النفط والغاز ومضائقها. وفي سوريا، يجهد الأوروبيون لفك رموز سياسة البيت الأبيض كما يجهدون لمعرفة كيف ستتطور علاقاته مع روسيا.
إزاء هذه الملفات، ثمة تناقض عمودي بين مواقف ترمب ومواقف شركائه الأوروبيين. ومفاجأة هؤلاء حلت عندما أعلن ترمب أنه سينسحب دون تشاور مسبق من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في التسعينات. والحال أن هذه الصواريخ تهم الأوروبيين ومصيرهم بالدرجة الأولى وبالتالي يريدون أن تكون لهم كلمتهم بشأنها.
هكذا، تمضي الأمور بين طرفين تربطهما مبدئيا علاقات تحالف تاريخية وقيم أساسية مشتركة. وربما يكون حلم ترمب أن يجر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دولا أخرى، بحيث يتهاوى الاتحاد وعملته (اليورو) ويكون بإمكانه عندها إبرام اتفاقات مع كل طرف على حدة، تكون بطبيعة الحال لصالح الولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

المحكمة العليا ترفض طلب ترمب تعليق نطق الحكم بحقه في نيويورك

الولايات المتحدة​ رسم توضيحي لجلسة محاكمة ترمب، في نيويورك 7 مايو 2024 (رويترز)

المحكمة العليا ترفض طلب ترمب تعليق نطق الحكم بحقه في نيويورك

رفضت المحكمة العليا الأميركية الخميس محاولة الرئيس المنتخب دونالد ترمب في اللحظة الأخيرة وقف نطق الحكم بحقه في قضية شراء سكوت ممثلة الأفلام الإباحية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا رئيس الاتحاد الأوروبي أنطونيو كوستا ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين (حساب كوستا عبر منصة «إكس»)

الاتحاد الأوروبي رداً على ترمب: «نحن أقوى معاً»

شدّد رئيس الاتحاد الأوروبي أنطونيو كوستا، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، على أنّ الولايات المتحدة وأوروبا «هما أقوى معاً».

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال جنازة الرئيس الراحل جيمي كارتر (أ.ب)

المحكمة العليا الأميركية تنظر طلب ترمب تأجيل الحكم في قضية «شراء الصمت»

رفضت محكمة الاستئناف في نيويورك طلب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب تأجيل النطق بالحكم بشأن إدانته بتهم جنائية تتعلق بدفع أموال لشراء صمت ممثلة إباحية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك )
الولايات المتحدة​ ترمب يتحدث وبجانبه السيناتور الجمهوري جون باراسو بعد اجتماع مع المشرعين الجمهوريين بمبنى الكابيتول في 8 يناير (رويترز)

ترمب بـ«الكابيتول» منفتحاً على خيارات جمهورية لتحقيق أولوياته

عبّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب عن انفتاحه على استراتيجيات مختلفة لإقرار أولوياته التشريعية، داعياً الجمهوريين إلى تجاوز خلافاتهم حول الحدود والطاقة.

علي بردى (واشنطن)
الولايات المتحدة​ حضر الرؤساء الخمسة مراسم جنازة كارتر في واشنطن الخميس (أ.ف.ب)

أميركا تودّع كارتر في جنازة وطنية يحضرها 5 رؤساء

أقامت الولايات المتحدة، الخميس، جنازة وطنية للرئيس السابق جيمي كارتر، لتتوّج بذلك تكريماً استمر أياماً عدة للحائز جائزة نوبل للسلام.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري