«أشبال أفريقيا» في شباك الإرهاب

«داعش» و«القاعدة» وضعا آليات جديدة لتجنيدهم

أطفال في أفريقيا يحملون الأسلحة من مواقع موالية لـ«القاعدة»
أطفال في أفريقيا يحملون الأسلحة من مواقع موالية لـ«القاعدة»
TT

«أشبال أفريقيا» في شباك الإرهاب

أطفال في أفريقيا يحملون الأسلحة من مواقع موالية لـ«القاعدة»
أطفال في أفريقيا يحملون الأسلحة من مواقع موالية لـ«القاعدة»

طرح التسجيل المصور لأبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي بثته مؤسسة «الفرقان» التابعة للتنظيم في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، دلالات كثيرة تتعلق بمسارات مُحتملة قد يتجه إليها التنظيم خلال المرحلة المقبلة، عبر السعي لتأسيس مجموعات تابعة له في أفريقيا، وتطوير استراتيجيته بالاعتماد بصورة أكثر على «الأشبال»، في ظل حالة التراجع الشديد الذي يعاني منه التنظيم بمعاقله الرئيسية السابقة، داخل العراق وسوريا.
خطط «داعش» اتسقت مع توجهات تنظيمات إرهابية أخرى للاعتماد على ظاهرة «الأشبال» في أفريقيا، في محاولة لسد النقص العددي الكبير في «المقاتلين»، ونشر أفكارها الآيديولوجية بين الصغار، لبناء أجيال تحمل الفكر المتطرف. وقال خبراء وباحثون في الحركات الأصولية إن «تنظيم (داعش) يسعى للأطفال لتنفيذ عملياته، وتوفير الدعم اللوجيستي، إذ يرى فيهم وسيلة لضمان الولاء على المدى البعيد، حيث يتم تدريبهم على الفكر التكفيري الدموي». وأكد الخبراء والباحثون لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك تنامياً خلال الأشهر الماضية لتجنيد الأطفال من قبل التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، و(داعش) يُخطط لتكوين جيل من الأطفال المغرر بهم».
ومصطلح «الأشبال» يقصد به الأطفال الذين يتلقون رعاية خاصة من قبل التنظيمات المتطرفة، عبر الاهتمام بتنشئتهم فكرياً على أفكار «الجهاد»، وبدنياً على حمل السلاح. ويُعد دفع الأطفال دون 16 عاماً للقتال أمراً محظوراً بموجب القانون الدولي، وطبقاً للمعاهدات والأعراف، كما يتم توصيفه بـ«جريمة حرب» من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

تغرير بالصغار
يقول تقرير أعده مرصد الفتاوى والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية إن «التنظيمات المبايعة لـ(القاعدة) في أفريقيا، والتنظيمات الأخرى الموالية لـ(داعش)، الأكثر إقبالاً على تجنيد الأطفال ودفعهم للقتال، خاصة أن أفريقيا تُعد موطناً لأكثر من 75 في المائة من إجمالي عدد الأطفال الذين يعيشون في مناطق الصراعات حول العالم».
وذكر التقرير أن حركة «بوكو حرام»، في غرب القارة الأفريقية، استخدمت الأطفال بشكل كبير في الآونة الأخيرة لتنفيذ عمليات انتحارية، حيث أكدت منظمة «اليونيسيف» أن تجنيد الأطفال في غرب أفريقيا تضاعف لأكثر من 3 مرات منذ عام 2010. واستخدمت الحركة أكثر من 135 طفلاً لتنفيذ عمليات إرهابية على معسكرات للجيش والقرى النيجيرية.
وذكر الدكتور إبراهيم نجم، مدير مرصد الفتاوى بالإفتاء المصرية، أن «أفريقيا الوسطى شهدت عمليات تجنيد للأطفال من قبل التنظيمات المتطرفة. وفي الصومال، أشارت (اليونيسيف) إلى أنه يتم تجنيد 200 طفل كل شهر على الأقل، خاصة من قبل حركة (الشباب)»، مضيفاً أن «كلاً من مالي والنيجر والكاميرون من الدول التي تشهد عمليات إرهابية متكررة بسبب انتشار خطر الإرهاب الذي تمثله (بوكو حرام) والتنظيمات المبايعة لـ(القاعدة)».
عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، قال: «تنوعت أساليب التنظيمات الإرهابية في تجنيد الأطفال، مثل التغرير بهم داخل المخيمات الدعوية، والسماح لهم باستخدام الأسلحة. وقد يتم استقطاب الصغار من خلال مواقع التواصل الاجتماعي»، مضيفاً: «وفي مرحلة لاحقة، يتم تدريبهم على القتال، لتخريج دفعات جاهزة للقتال، وغالباً ما يتم تجنيدهم كعناصر انتحارية بسبب قدرتهم على التنقل».
وأخيراً، وضعت منظمة «مشروع كلاريون» الأميركية بعض سمات للأطفال الذين يكونون أكثر عرضة للتطرف، كان من بينها الأطفال الذين يقضون وقتاً كبيراً على الإنترنت، وليس لديهم من يراقب أنشطتهم عبرها. وحددت المنظمة بعض علامات التطرف التي يُمكن للأبوين ملاحظتها على أطفالهم، ومن بينها قضاء الطفل كثيراً من وقته على الإنترنت، أو تصفح المواقع المتطرفة.

تطبيقات الإرهاب
في حين قال مؤشر للفتوى، تابع لدار الإفتاء المصرية، إن «(داعش) هو الأكثر استخداماً لتطبيقات الهواتف المحمولة للتأثير على عقول الشباب والمراهقين، فالتنظيم أطلق في مايو (أيار) 2016 تطبيق (حروف) لتعليم الأبجدية للأطفال لترسيخ مفاهيم العنف والقتال». وأكد المؤشر أن «لجوء التنظيمات الإرهابية لتدشين تطبيقات الهواتف للتأثير على عقول الشباب والأطفال، ومن ثم سهولة حشدهم وتجنيدهم، وضمان وجود الشعارات والفتاوى الجهادية والانتصارات الوهمية بشكل يومي بين يدي الشباب والأطفال عبر هواتفهم في كل مكان وزمان».
وأكد رسمي عجلان، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «هناك تنامياً خلال الأشهر الماضية لتجنيد الأطفال من قبل التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، و(داعش) يُخطط لتكوين جيل من الأطفال المغرر بهم»، مضيفاً أن «داعش» يُلقن الصغار الأفكار المتطرفة في سن مبكرة جداً، ويجبرهم على تنفيذ عمليات الإعدام للرهائن وعناصر التنظيم الهاربة.
واتفقت مع الرأي السابق دراسة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف بالقاهرة، أكدت أن تجنيد الأطفال في أفريقيا كارثة إنسانية وخطر كبير يُهدد الجميع دون استثناء، لافتة إلى أن «أكثر وسائل تجنيد الصغار خطراً هو (غسيل الأدمغة) عبر المدارس التعليمية التابعة لتلك التنظيمات، ما يعني أن هؤلاء الصغار تعرضوا لحالة (مسخ) للهوية بأفكار العنف والقتال، مما يجعلهم (قنابل موقوتة) قد تنفجر في وجه المجتمعات في أي وقت».
وقال مراقبون إنه في عام 2016، اعتمد «داعش» بشكل متزايد في العمليات الوحشية، لا سيما الإعدامات، على الأطفال، وقد بث التنظيم عدة إصدارات مرئية تظهر أطفالاً قاموا بعمليات إعدام بحق رهائن سقطوا في يد التنظيم، أو عناصر من التنظيم فكروا في الهروب من أرض الخلافة «المزعومة»، عقب اكتشاف زيف مزاعم «داعش».
وأكدت دراسة مرصد الأزهر في هذا الصدد أن «تجنيد الجماعات الإرهابية للأطفال، خاصة تجنيد (داعش) لأطفال أفريقيا، ما هو إلا محاولة لسد الخسائر في صفوف عناصره الإرهابية التي جندها من جميع دول العالم، فبسبب تلك الخسائر، بدأ اتجاه (داعش) يتحول إلى استراتيجية جديدة تُعوض خسائره البشرية في سوريا والعراق، وهي تجنيد الأطفال. ولأنه يعلم أن الأمر بات صعباً في البلدين، اتجه إلى الدول النائية في أفريقيا، ليعوض خسائره البشرية هناك، حيث الفقر والضعف الأمني في بعض الدول».

معسكرات تدريب
وأضافت دراسة مرصد الأزهر: «إن حركة (بوكو حرام) تتبع معايير مزدوجة في التعامل مع الأطفال، طبقاً للنوع، إذ تُجبر الفتيات على الزواج بأعضاء الحركة، ومن ثم تكليفهن بتنفيذ عمليات إرهابية. أما تجنيد الأطفال من قبل (الشباب) فلا يزال أمراً قائماً بشدة، وقد تم تجنيد قرابة 1800 طفل في الصومال من قبل الجماعات المسلحة خلال الأشهر الأولى من عام 2017. وتتراوح أعمار أولئك الأطفال بين العاشرة والخامسة عشرة، حيث تلقوا تدريبات عسكرية على استخدام الأسلحة النارية، والتعامل مع القنابل اليدوية والعبوات الناسفة في معسكرات خاصة، فضلاً عن تجنيد (داعش) لأطفال النيجر، فيما تعد أوغندا أبرز الدول الأفريقية تجنيداً للأطفال، أما مالي فلا تزال هناك بؤرة ضبابية فيما يتعلق بتجنيد الأطفال».
وفي هذا الصدد، نقل مركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة»، في أبوظبي، دراسة لجيسيكا تريسكو (زميل في معهد أميركان إنتربرايز)، بعنوان «التصدي لاستغلال الإرهابيين للشباب»، أصدرها المعهد في مايو (أيار) الماضي، وأشارت إلى أن الشباب يُمثلون مصدراً حيوياً لدعم كثير من التنظيمات الإرهابية، حيث أوضحت الدراسة أنه من بين 40 ألف عضو في تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، كان ما يقرب من 12 في المائة منهم من الأطفال دون سن الثامنة عشرة. وقد بلغت أعدادهم ما لا يقل عن 4640 من الأطفال القُصر، بالإضافة إلى ما يقرب من 730 طفلاً رضيعاً قد ولدوا لمقاتلين أجانب في الأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم خلال الفترة من أبريل (نيسان) عام 2013 حتى يونيو (حزيران) عام 2018، في حين تُشير التقديرات الكلية لأعداد الأطفال المولودين في الأراضي التي كانت يُسيطر عليها «داعش» إلى نحو 5 آلاف طفل.
وأشارت دراسة تريسكو إلى أن «هذا الرقم الكبير في أعداد الأطفال المولودين لآباء وأمهات منخرطين في تنظيمات إرهابية يعكس حجم المخاطر المستقبلية التي يُمكن أن تنجم، خاصة في ظل عدم وجود اهتمام دولي كاف بإدماج هؤلاء الأطفال، وإبعادهم عن البيئة المحفزة للتطرف العنيف، وهو ما يرتبط بما يثار منذ انحسار تنظيم (داعش) وهزيمته، حول مخاطر العائدين من التنظيم، سواء كانوا عائلات أو شباباً أو شابات أو أطفالاً، حيث إن هؤلاء جميعاً يُشكلون (قنابل موقوتة) في المجتمعات التي يمكن أن يستقروا بها».
من جهته، أكد عجلان أن «(داعش) يرى في الصغار وسيلة لضمان الولاء على المدى البعيد، حيث يُعد الأطفال صيداً ثميناً لجماعات التطرف، بسبب استغلال حسن نيتهم وضعف مداركهم، لنشر عقيدة التنظيم الدموية».


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.