سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
TT

سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يتراءى لمن يحدق في نظراته الزائغة أن فلاديمير بوتين يبيع بضاعة مغشوشة. قد يبيع السكّر لمُصاب بالسكري، أو فاكهة طُمر فاسدها تحت طبقة رقيقة من ثمار طازجة.
بروزه الأول انطوى على غشّ: ضابط الـ«كي جي بي» الذي كان في ألمانيا الشرقية إبان ثورتها، أحرق الوثائق التي في حوزته. إتلاف الوثائق قد تستدعيه ضرورات حربية أو مصلحة وطنية، لكن ذلك لا يلغي كونه تزويراً للتاريخ.
في صعوده المبكر مارس الغش حين أوكل إلى التلفزيون إعادة صنعه وتوضيبه. لقد لعب على ازدواج يتطلبه الروس في حقبة فقدوا فيها ثقتهم بالنفس: قيل إنه، هو الذي يجيد الألمانية، وجهٌ يشبه وجوه «الآريين». هذا ما خاطب قرف الروس مما هم فيه. لكنْ شاع أيضاً أنه ينتصر على «الآريين» لأنه يُشبه جاسوساً شعبياً اسمه ماكس ستيرليتس يُروى أنه اخترق المخابرات النازية في الحرب العالمية الثانية ودارت حول نجاحاته أعمال تلفزيونية كثيرة؛ شيء روسي من رأفت الهجان.
كذلك اشتغل بوتين على صورته بتقديم نفسه مضاداً لبوريس يلتسن: الأخير ثرثار وسكير ومترهل. هو صامت ورياضي وشاب. لقد بالغَ في تعميم الصور التي تنقله وهو يلعب الجودو، ويرمي بالمسدس في نادٍ للرماية، ويسابق بسيارات السباق، ويتزلج مُعانقاً الدبَبة، ويراقب «المخاطر» مِن على متن طائرة حربية أو على ظهر غواصة بحرية. التركيز لا يكلّ على كونه قوياً وفحلاً. الصورة هذه عززتها الحملة المتواصلة على المثليين بوصفهم «ناقصي الرجولة» وممن يدنسون «طهارة» روسيا.
وبوتين كان يغش في إبداعه السياسي منذ 2008، أي نظرية التناوب على الرئاسة مع صنيعته ديمتري ميدفيديف، فضلاً عن الغش عبر التهويل بغزو أميركي وأوروبي لروسيا، خصوصاً في المواسم الانتخابية. هذا ما يُظهر معارضيه الديمقراطيين مجرد عملاء للغزاة. وبالفعل فاضطهاده المنظمات غير الحكومية والتلويح بمخاطرها المزعومة جزء من الوعي التآمري لضابط المخابرات السابق، وقد سبق لروسيا أن أنتجت أشهر وثيقة تآمرية في التاريخ: «بروتوكولات حكماء صهيون». آنذاك أيضاً كان البوليس السري (القيصري) وراء تلك الفبركة.
وهو يغشّ حين يصور نهوض روسيا كنتيجة منطقية وطبيعية لتدهور أميركا وأوروبا. قد يكون مرض روسيا غير قابل للعلاج، فلنعملْ إذن على أمراض أوروبا وأميركا، فنستمدّ الصحة من مرضهما. ومَن يستطيع أن يسيء إلى أوروبا أكثر من حلفائه الشعبويين والقوميين، ومَن الذي يسيء إلى أميركا أكثر من رئاسة دونالد ترمب لها؟
أصدقاؤه هم هؤلاء، وأكثر الذين صادقهم من زعماء الغرب كان الإيطالي سيلفيو برلسكوني. علاقتهما «المميزة» استمرت بعد استقالة الأخير، متخبطاً بفضائحه، عام 2011.
لكن بوتين يغشّ أيضاً في تاريخ روسيا، حيث مَن يعملون على توثيق الحقبة الستالينية وارتكاباتها قد يواجهون العقاب وتهمة العمالة، وهو يغش طبعاً بالتزوير الانتخابي الذي بلغ ذروته في انتخابات 2012 الرئاسية. لقد كان التزوير من طبيعة رقمية وإلكترونية، لكن التحكم بالوحش التقني بدا صعباً: هكذا بلغت نسبة الأصوات المقترعة 146 في المائة من مجموع السكان. في الشيشان التي ذبحها، أحرز بوتين نسبة خارقة من الأصوات! هكذا لم يُخفِ أحد أكبر آباء الشعبوية المعاصرة على نطاق عالمي استعداده لفعل كل ما يجعله زعيماً خالداً.

- سياسات القوة
في الداخل كما في الخارج، كانت «الحلول الأمنية» دين بوتين وديدنه. تعيينه رئيساً للحكومة في 1999 صاحَبَه شن حرب الشيشان الثانية، رداً على هجوم متمردين شيشانيين على داغستان. المطلوب كان دائماً الاستحواذ على القوة والقومية، والتأسيس لحروب لاحقة ضد «الإرهاب».
يومذاك تولاه صانعُه بوريس بيريجوفسكي، أحد أكبر الأوليغارشيين الجدد وأحد أكبر مالكي وسائل الإعلام، الذي بات لاحقاً عدوه وقتيله. قدمه إلى يلتسن، وفي 2000 أوصله إلى الرئاسة بعدما تولى تلفزيون بيريجوفسكي تدميرَ مُنافسيه.
الثورات الملونة في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004 وقيرغيزستان 2005 أخافتْه وكرهها بحس سلطوي وأمني يميز جميع المناهضين للثورات. إنها «اضطرابات» في محيط روسيا تذكر بثورات 1989 - 1990 التي قوضت الاتحاد السوفياتي. هكذا أُخضعت جورجيا في 2008. ومثلما تذرعت موسكو بدعم الأوسيتيين والأبخازيين هناك، تذرعت بدعم الأقلية الروسية في أوكرانيا. في 2014 تدخل في شرق البلد المذكور وضم القرم.
في غضون ذلك، وفي 2013 تحديداً، لعب دوراً أساسياً كضامن لبشار الأسد، ينقل أسلحته الكيماوية إلى روسيا. الارتكابات اللاحقة بينت أن الأسد لا يزال يملك تلك الأسلحة. أواخر صيف 2015، بدأ تدخله العسكري المباشر في سوريا «بطلب من حكومتها». بعض قوات النخبة نقلها من أوكرانيا إليها. في 14 مارس، أعلن أن المهمة تكاد تنتهي وأمر بسحب «الجزء الأساسي» من جنوده. النشاطات العسكرية ما لبثت أن توسعت مجدداً، ودلَّت على أن «المهمة» لم تنتهِ. على أي حال، تُوجت «المهمة» تلك بتدمير حلب. قبل ذلك وبعده، حمى النظامَ السوري في مجلس الأمن.
بيد أن الغشّ في بوتين ينبع من اعتبار وطني يتعدى شخصه. ذاك أن ما يملي الغشّ هو ضرورة إظهار بلده بمظهر البلد القوي الذي كانه مع بطرس الأكبر أو جوزيف ستالين، فيما الحقيقة أنه ضعيف ينبغي التستر على ضعفه.
الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عهدي غورباتشوف ويلتسن حلها جزئياً ارتفاعُ أسعار النفط والغاز. لكن روسيا ظلت تعتمد على تصدير السلع من غير أية مساهمة تُذكر في ثورة الاتصالات وتقنياتها. زاد في إضعاف اقتصادها العقوبات الدولية التي فُرضت عليها في 2014 بعد إلحاقها القرم. المعارض بوريس نِمْتسوف رأى أن بوتين يحول البلد إلى «مستعمَرة مواد أولية» للصين. والحال أن الأخيرة، لا روسيا، باتت الأقرب إلى أن تكون زعيمة «الشرق». هذا التطور يحض على البحث عن موقع في العلاقات الدولية يُنتزع بالتخريب وبسد الفراغات التي تخلفها سياسة الانسحاب الأميركي من العالم. ناقدُه نمتسوف اغتيل في موسكو عام 2015. ذاك أن الغشّ وحده لا يكفي أحياناً.
لقد برعت روسيا بوتين في أمرين يكادان يختصران ما الذي اختارته من الحداثة: المواد الكيماوية والبيولوجية وغازات الأعصاب، و«تهكير» المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل. محطة التقاطع بين هاتين الوجهتين هي القتل.
منذ تسلمه السلطة في 2000 قُتل، فضلاً عن نمتسوف، 21 صحافياً وعدد من الناشطين والسياسيين. هؤلاء بعض أبرزهم: سيرغي يوشنكوف، سياسي ليبرالي اغتيل في موسكو عام 2003. في العام نفسه سُمم يوري شيكوشيخين، الصحافي والكاتب الذي كان يتابع قصص العنف والفساد. في 2006 اغتيلت أنا بوليتكوفسكايا في شقتها بموسكو، وهي الصحافية التي كشفت فضائح الفساد في الجيش وجرائم هذا الجيش في الشيشان. اغتيالها يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) كانت له دلالة رمزية: إنه يوم عيد ميلاد بوتين. في 2009 اتسع نطاق الدم: قتل محامي حقوق الإنسان والمدافع عن المدنيين الشيشان ستانيسلاف مركيلوف على مقربة من الكرملين. قتلت معه الصحافية أناستازيا بابوروفا. توفي القاضي سيرغي ماغنِتسكي تحت تعذيب الشرطة. ماغنِتسكي كان يتابع مسألة فساد ينخر ذاك الجهاز. قُتلت الصحافية ناتاليا إستميروفا بعد خطفها، ورُميت جثتها في الغابة. إستميروفا كانت ترصد الجرائم في الشيشان. سُمم ضابط المخابرات السابق ألكسندر ليتفننكو في لندن. وفي لندن أيضاً، في 2013، قُتل صانع بوتين، بيريجوفسكي، مخنوقاً في منزله. في 2017، اغتيل في أوكرانيا المعارض دنيس فوروننكوف. في 2018، في بريطانيا، سُمم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته لكنهما أُنقذا.

- شروط الخلاص
كان ينبغي، كي يغدو بوتين مخلصاً، أن يكون سلفه رجل كبوريس يلتسن، وأن يجوع الروس، وأن تنشأ أزمة دستورية كبرى في 1993 تأدى عنها قصف البرلمان في بلد حديث العهد بالديمقراطية، وأن تتطور المشكلة الشيشانية إلى حرب قومية عام 1994، وكان المطلوب أيضاً أن يصاب الناس باليأس من السرديات الكبرى: من الشيوعية ولكنْ أيضاً من الرأسمالية كما شاهدوها في عهدي غورباتشوف ويلتسن، وأن يتضخّم دور الإعلام بحيث يمسي هو صانع المعنى ومصدر النجوم والسياسة، كما يتحول جامعاً أوحد بين ملايين الروس المبعثرين. وكان المطلوب كذلك أن يصعد الأوليغارشيون الذين امتلكوا منابر الإعلام مستفيدين من تصدع الدولة ومن الخصخصة العشوائية لملكياتها. وكان المطلوب أن تستولي الخرافة على العقل، فلا يصدق أحد أحداً لكن الجميع يصدقون الشائعات والخرافات، وأن تتفتت السلطة لتتوزع على كتل نفوذ متصارعة، كالأوليغارشيا المالية، وهي كثيرة الأجنحة، والرئاسة والبرلمان والجيش والمخابرات. وكان المطلوب أن يتمنع الغرب عن إنجاد روسيا بعد سقوط الشيوعية، فلا ينشأ مشروع مارشال لإنهاضها، ولا توقف المصارف الألمانية عن ضخ رساميلها إلى الخارج، بينما يتمدد «الناتو» شرقاً، رغم انتهاء الحرب الباردة التي نشأ بسببها. التدخل الأميركي في حرب البوسنة وقصف بلغراد في 1998 قُدّم بوصفه إيذاناً باقتراب الخطر والمؤامرة. وأخيراً، كان المطلوب انفجار الحنين إلى ماضي القوة السوفياتية في ظل إخفاق متعدد الأوجه.
والذهب ينقلب تراباً في كف روسيا، حيث لا الاشتراكية أفلحت مع لينين، ولا الرأسمالية والديمقراطية أقلعتا مع يلتسن. إذن ها هو الغشّ يجرب حظه مع بوتين.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.