سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
TT

سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يتراءى لمن يحدق في نظراته الزائغة أن فلاديمير بوتين يبيع بضاعة مغشوشة. قد يبيع السكّر لمُصاب بالسكري، أو فاكهة طُمر فاسدها تحت طبقة رقيقة من ثمار طازجة.
بروزه الأول انطوى على غشّ: ضابط الـ«كي جي بي» الذي كان في ألمانيا الشرقية إبان ثورتها، أحرق الوثائق التي في حوزته. إتلاف الوثائق قد تستدعيه ضرورات حربية أو مصلحة وطنية، لكن ذلك لا يلغي كونه تزويراً للتاريخ.
في صعوده المبكر مارس الغش حين أوكل إلى التلفزيون إعادة صنعه وتوضيبه. لقد لعب على ازدواج يتطلبه الروس في حقبة فقدوا فيها ثقتهم بالنفس: قيل إنه، هو الذي يجيد الألمانية، وجهٌ يشبه وجوه «الآريين». هذا ما خاطب قرف الروس مما هم فيه. لكنْ شاع أيضاً أنه ينتصر على «الآريين» لأنه يُشبه جاسوساً شعبياً اسمه ماكس ستيرليتس يُروى أنه اخترق المخابرات النازية في الحرب العالمية الثانية ودارت حول نجاحاته أعمال تلفزيونية كثيرة؛ شيء روسي من رأفت الهجان.
كذلك اشتغل بوتين على صورته بتقديم نفسه مضاداً لبوريس يلتسن: الأخير ثرثار وسكير ومترهل. هو صامت ورياضي وشاب. لقد بالغَ في تعميم الصور التي تنقله وهو يلعب الجودو، ويرمي بالمسدس في نادٍ للرماية، ويسابق بسيارات السباق، ويتزلج مُعانقاً الدبَبة، ويراقب «المخاطر» مِن على متن طائرة حربية أو على ظهر غواصة بحرية. التركيز لا يكلّ على كونه قوياً وفحلاً. الصورة هذه عززتها الحملة المتواصلة على المثليين بوصفهم «ناقصي الرجولة» وممن يدنسون «طهارة» روسيا.
وبوتين كان يغش في إبداعه السياسي منذ 2008، أي نظرية التناوب على الرئاسة مع صنيعته ديمتري ميدفيديف، فضلاً عن الغش عبر التهويل بغزو أميركي وأوروبي لروسيا، خصوصاً في المواسم الانتخابية. هذا ما يُظهر معارضيه الديمقراطيين مجرد عملاء للغزاة. وبالفعل فاضطهاده المنظمات غير الحكومية والتلويح بمخاطرها المزعومة جزء من الوعي التآمري لضابط المخابرات السابق، وقد سبق لروسيا أن أنتجت أشهر وثيقة تآمرية في التاريخ: «بروتوكولات حكماء صهيون». آنذاك أيضاً كان البوليس السري (القيصري) وراء تلك الفبركة.
وهو يغشّ حين يصور نهوض روسيا كنتيجة منطقية وطبيعية لتدهور أميركا وأوروبا. قد يكون مرض روسيا غير قابل للعلاج، فلنعملْ إذن على أمراض أوروبا وأميركا، فنستمدّ الصحة من مرضهما. ومَن يستطيع أن يسيء إلى أوروبا أكثر من حلفائه الشعبويين والقوميين، ومَن الذي يسيء إلى أميركا أكثر من رئاسة دونالد ترمب لها؟
أصدقاؤه هم هؤلاء، وأكثر الذين صادقهم من زعماء الغرب كان الإيطالي سيلفيو برلسكوني. علاقتهما «المميزة» استمرت بعد استقالة الأخير، متخبطاً بفضائحه، عام 2011.
لكن بوتين يغشّ أيضاً في تاريخ روسيا، حيث مَن يعملون على توثيق الحقبة الستالينية وارتكاباتها قد يواجهون العقاب وتهمة العمالة، وهو يغش طبعاً بالتزوير الانتخابي الذي بلغ ذروته في انتخابات 2012 الرئاسية. لقد كان التزوير من طبيعة رقمية وإلكترونية، لكن التحكم بالوحش التقني بدا صعباً: هكذا بلغت نسبة الأصوات المقترعة 146 في المائة من مجموع السكان. في الشيشان التي ذبحها، أحرز بوتين نسبة خارقة من الأصوات! هكذا لم يُخفِ أحد أكبر آباء الشعبوية المعاصرة على نطاق عالمي استعداده لفعل كل ما يجعله زعيماً خالداً.

- سياسات القوة
في الداخل كما في الخارج، كانت «الحلول الأمنية» دين بوتين وديدنه. تعيينه رئيساً للحكومة في 1999 صاحَبَه شن حرب الشيشان الثانية، رداً على هجوم متمردين شيشانيين على داغستان. المطلوب كان دائماً الاستحواذ على القوة والقومية، والتأسيس لحروب لاحقة ضد «الإرهاب».
يومذاك تولاه صانعُه بوريس بيريجوفسكي، أحد أكبر الأوليغارشيين الجدد وأحد أكبر مالكي وسائل الإعلام، الذي بات لاحقاً عدوه وقتيله. قدمه إلى يلتسن، وفي 2000 أوصله إلى الرئاسة بعدما تولى تلفزيون بيريجوفسكي تدميرَ مُنافسيه.
الثورات الملونة في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004 وقيرغيزستان 2005 أخافتْه وكرهها بحس سلطوي وأمني يميز جميع المناهضين للثورات. إنها «اضطرابات» في محيط روسيا تذكر بثورات 1989 - 1990 التي قوضت الاتحاد السوفياتي. هكذا أُخضعت جورجيا في 2008. ومثلما تذرعت موسكو بدعم الأوسيتيين والأبخازيين هناك، تذرعت بدعم الأقلية الروسية في أوكرانيا. في 2014 تدخل في شرق البلد المذكور وضم القرم.
في غضون ذلك، وفي 2013 تحديداً، لعب دوراً أساسياً كضامن لبشار الأسد، ينقل أسلحته الكيماوية إلى روسيا. الارتكابات اللاحقة بينت أن الأسد لا يزال يملك تلك الأسلحة. أواخر صيف 2015، بدأ تدخله العسكري المباشر في سوريا «بطلب من حكومتها». بعض قوات النخبة نقلها من أوكرانيا إليها. في 14 مارس، أعلن أن المهمة تكاد تنتهي وأمر بسحب «الجزء الأساسي» من جنوده. النشاطات العسكرية ما لبثت أن توسعت مجدداً، ودلَّت على أن «المهمة» لم تنتهِ. على أي حال، تُوجت «المهمة» تلك بتدمير حلب. قبل ذلك وبعده، حمى النظامَ السوري في مجلس الأمن.
بيد أن الغشّ في بوتين ينبع من اعتبار وطني يتعدى شخصه. ذاك أن ما يملي الغشّ هو ضرورة إظهار بلده بمظهر البلد القوي الذي كانه مع بطرس الأكبر أو جوزيف ستالين، فيما الحقيقة أنه ضعيف ينبغي التستر على ضعفه.
الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عهدي غورباتشوف ويلتسن حلها جزئياً ارتفاعُ أسعار النفط والغاز. لكن روسيا ظلت تعتمد على تصدير السلع من غير أية مساهمة تُذكر في ثورة الاتصالات وتقنياتها. زاد في إضعاف اقتصادها العقوبات الدولية التي فُرضت عليها في 2014 بعد إلحاقها القرم. المعارض بوريس نِمْتسوف رأى أن بوتين يحول البلد إلى «مستعمَرة مواد أولية» للصين. والحال أن الأخيرة، لا روسيا، باتت الأقرب إلى أن تكون زعيمة «الشرق». هذا التطور يحض على البحث عن موقع في العلاقات الدولية يُنتزع بالتخريب وبسد الفراغات التي تخلفها سياسة الانسحاب الأميركي من العالم. ناقدُه نمتسوف اغتيل في موسكو عام 2015. ذاك أن الغشّ وحده لا يكفي أحياناً.
لقد برعت روسيا بوتين في أمرين يكادان يختصران ما الذي اختارته من الحداثة: المواد الكيماوية والبيولوجية وغازات الأعصاب، و«تهكير» المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل. محطة التقاطع بين هاتين الوجهتين هي القتل.
منذ تسلمه السلطة في 2000 قُتل، فضلاً عن نمتسوف، 21 صحافياً وعدد من الناشطين والسياسيين. هؤلاء بعض أبرزهم: سيرغي يوشنكوف، سياسي ليبرالي اغتيل في موسكو عام 2003. في العام نفسه سُمم يوري شيكوشيخين، الصحافي والكاتب الذي كان يتابع قصص العنف والفساد. في 2006 اغتيلت أنا بوليتكوفسكايا في شقتها بموسكو، وهي الصحافية التي كشفت فضائح الفساد في الجيش وجرائم هذا الجيش في الشيشان. اغتيالها يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) كانت له دلالة رمزية: إنه يوم عيد ميلاد بوتين. في 2009 اتسع نطاق الدم: قتل محامي حقوق الإنسان والمدافع عن المدنيين الشيشان ستانيسلاف مركيلوف على مقربة من الكرملين. قتلت معه الصحافية أناستازيا بابوروفا. توفي القاضي سيرغي ماغنِتسكي تحت تعذيب الشرطة. ماغنِتسكي كان يتابع مسألة فساد ينخر ذاك الجهاز. قُتلت الصحافية ناتاليا إستميروفا بعد خطفها، ورُميت جثتها في الغابة. إستميروفا كانت ترصد الجرائم في الشيشان. سُمم ضابط المخابرات السابق ألكسندر ليتفننكو في لندن. وفي لندن أيضاً، في 2013، قُتل صانع بوتين، بيريجوفسكي، مخنوقاً في منزله. في 2017، اغتيل في أوكرانيا المعارض دنيس فوروننكوف. في 2018، في بريطانيا، سُمم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته لكنهما أُنقذا.

- شروط الخلاص
كان ينبغي، كي يغدو بوتين مخلصاً، أن يكون سلفه رجل كبوريس يلتسن، وأن يجوع الروس، وأن تنشأ أزمة دستورية كبرى في 1993 تأدى عنها قصف البرلمان في بلد حديث العهد بالديمقراطية، وأن تتطور المشكلة الشيشانية إلى حرب قومية عام 1994، وكان المطلوب أيضاً أن يصاب الناس باليأس من السرديات الكبرى: من الشيوعية ولكنْ أيضاً من الرأسمالية كما شاهدوها في عهدي غورباتشوف ويلتسن، وأن يتضخّم دور الإعلام بحيث يمسي هو صانع المعنى ومصدر النجوم والسياسة، كما يتحول جامعاً أوحد بين ملايين الروس المبعثرين. وكان المطلوب كذلك أن يصعد الأوليغارشيون الذين امتلكوا منابر الإعلام مستفيدين من تصدع الدولة ومن الخصخصة العشوائية لملكياتها. وكان المطلوب أن تستولي الخرافة على العقل، فلا يصدق أحد أحداً لكن الجميع يصدقون الشائعات والخرافات، وأن تتفتت السلطة لتتوزع على كتل نفوذ متصارعة، كالأوليغارشيا المالية، وهي كثيرة الأجنحة، والرئاسة والبرلمان والجيش والمخابرات. وكان المطلوب أن يتمنع الغرب عن إنجاد روسيا بعد سقوط الشيوعية، فلا ينشأ مشروع مارشال لإنهاضها، ولا توقف المصارف الألمانية عن ضخ رساميلها إلى الخارج، بينما يتمدد «الناتو» شرقاً، رغم انتهاء الحرب الباردة التي نشأ بسببها. التدخل الأميركي في حرب البوسنة وقصف بلغراد في 1998 قُدّم بوصفه إيذاناً باقتراب الخطر والمؤامرة. وأخيراً، كان المطلوب انفجار الحنين إلى ماضي القوة السوفياتية في ظل إخفاق متعدد الأوجه.
والذهب ينقلب تراباً في كف روسيا، حيث لا الاشتراكية أفلحت مع لينين، ولا الرأسمالية والديمقراطية أقلعتا مع يلتسن. إذن ها هو الغشّ يجرب حظه مع بوتين.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!