الصين... من عملاق نائم على بساط الفقر إلى قطب «الجيوتكنولوجيا»

الرئيس الصيني شي جينبينغ (أ. ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ (أ. ب)
TT

الصين... من عملاق نائم على بساط الفقر إلى قطب «الجيوتكنولوجيا»

الرئيس الصيني شي جينبينغ (أ. ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ (أ. ب)

لعل من أبرز ملامح أواخر القرن الماضي ومطالع القرن الحالي، الصعود الصاروخي لـ «التنّين الصيني»، وانتقال أكثر الدول سكّاناً من عملاق نائم على بساط من الفقر إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقريباً إلى احتلال المرتبة الأولى.
هذه القصّة المذهلة بدأت قبل أربعين عاماً عندما تخلّت الصين عن سياسات أبقت الاقتصاد أسير الضعف والركود، خاضعاً للسيطرة المركزية، ومعزولاً عن الاقتصاد العالمي. ففي العام 1979 انطلق مسلسل الإصلاحات الاقتصادية وتحرير التجارة وتعزيز الاستثمار وتنفيذ إصلاحات السوق الحرة، بمبادرة من دينغ شياو بينغ خليفة ماو تسي تونغ في الزعامة. ولم تنفك الصين منذ ذلك الحين تحقق نمواً مذهلاً بحيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحقيقي ما معدّله 9.5 في المائة حتى العام 2017، وهو بحسب وصف البنك الدولي «أسرع توسّع مستدام لاقتصاد كبير في التاريخ».
ومكّن هذا النمو الصين من مضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي كل ثماني سنوات، وساعد على انتشال حوالى 800 مليون شخص من براثن الفقر. بل أصبحت الصين شريكاً تجارياً رئيسياً للولايات المتحدة على الرغم من التوتر الحالي بينهما. كما تعد الصين أكبر حامل أجنبي لسندات الخزانة الأميركية (أكثر من تريليون دولار) التي تساعد في تمويل الديون الفدرالية والحفاظ على أسعار الفائدة الأميركية منخفضة.
على سبيل المقارنة، كان حجم الاقتصاد الصيني عام 1980 أكثر بقليل من 300 مليار دولار، بينما كان حجم الاقتصاد الأميركي 2.86 تريليون. أما اليوم فالرقم الصيني هو 14.3 تريليون، والرقم الأميركي هو 21.5 تريليون. ويتوقع الخبراء أن يبلغ الناتج الإجمالي الصيني 30.7 تريليون دولار عام 2025، مقابل 28.57 تريليون للولايات المتحدة.
لا شك في أن دولة تحقق نموا اقتصادياً بهذا الحجم وهذه الوتيرة لا يمكنها الاكتفاء بـ «الداخل»، بل لا بد لها من التطلع إلى الخارج، سواء لإيجاد أسواق تصريف، أو مصادر للمواد الأولية الضرورية للصناعة. هذا ما يخبرنا به التاريخ والحاضر، مع فرق جوهري: الصين لم تلجأ إلى القوة العسكرية – أقلّه حتى الآن – لتحقق فتوحات اقتصادية، بل امتشقت «السيف الاقتصادي» و«الدرع التجارية»، وخاضت معركة حققت فيها نجاحات كبيرة، وكسبت الكثير من الأصدقاء والقليل من الأعداء.
بتعبير آخر، يمكن القول إن الصين لم تنظر إلى العالم نظرة جيوسياسية تقليدية، بل استخدمت عدسة «جيوتكنولوجية»، لكي تمضي في تحقيق طموحاتها السياسية في عملية تتسارع وتتسع مع الوقت. وجعل التوسع الاقتصادي غير المسبوق من الصين «كوكباً» يملك قوة جاذبية بحيث يجمع الأسواق الناشئة لتدور في مداره.
وإذا استثينا بحر الصين الجنوبي ومشكلة تايوان حيث يستعرض العملاق الأصفر بعض العضلات العسكرية من حين إلى آخر، يعتمد طموح الصين بشكل متزايد على الموانئ والطرق السريعة وخطوط الأنابيب، وفتح أسواق جديدة للتكنولوجيا الصينية المتقدمة.

«الحزام والطريق»
فيما بقيت الدول الغربية متمسكة بمبادئ السيادة الوطنية التي بُنيت على أساس معاهدة وستفاليا، مع تناسي القويّ لهذه المبادئ عندما يقرر الاستقواء على الضعيف خارقاً سيادته ليفرض عليه في النهاية سيطرة اقتصادية، سلكت الصين «طريق الحرير»، ومدّت اليد إلى عالم تتصوّره كشبكة واحدة معقدة من سلاسل الإمدادات والشرايين التجارية.
من هنا وُلدت فكرة «مبادرة الحزام والطريق» كاستراتيجية تنمية عالمية تتبنّاها الصين وتتضمن تطوير البنى التحتية والقيام باستثمارات تفوق قيمتها المقدّرة تريليون دولار في نحو 70 دولة في آسيا وأوروبا وإفريقيا والأميركتين، تضم حوالى 65 في المائة من سكان العالم ونحو ثلث الناتج الإجمالي العالمي. وكل هذا يجعل من المبادرة أكبر مشروع للبنى التحتية في التاريخ.
وقد أعلنت الصين عن المبادرة عام 2013، ونقلتها إلى حيز التنفيذ بصورة تدريجية، إلى أن بلغت محطة مهمة في مارس (آذار) الماضي عندما وقعت الحكومتان الصينية والإيطالية اتفاقاً ضخماً، وصارت إيطاليا بالتالي أول دولة أوروبية غربية تنضم إلى المشروع.
أما الأهداف المعلنة للمبادرة كما أعلنتها بكين، فهي «بناء سوق كبير موحد والاستفادة القصوى من كل من الأسواق الدولية والمحلية، من خلال التبادل الثقافي والتكامل، لتعزيز التفاهم والثقة بين الدول الأعضاء، والوصول إلى نمط اقتصادي مبتكر يضمن تدفقات رأس المال وتجميع المواهب والمهارات وقاعدة بيانات التكنولوجيا» لتكون كلها في متناول الجميع.
وفي الواقع تريد الصين فتح أسواق لتصريف فائض قوتها الاقتصادية لكي تضمن استمرار النمو عبر بناء شبكة تجارية كبيرة لاستيعاب السلع الصينية التي تعتمد على التقنيات المتقدمة. ويشمل ذلك السيارات الكهربائية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والروبوتيّات، والذكاء الصناعي، وأشباه الموصّلات، وتكنولوجيا الطاقة النظيفة، والمعدات الكهربائية المتقدمة، والبنى التحتية لسكك الحديد والملاحة البحرية. ولا شك في أن هذه الأهداف، إذا تحققت، ستجعل من الصين القوة العظمى الأولى عالمياً، والتي تقف على قمة هرم بنته بمداميك التكنولوجيا المتقدّمة.
والمفارقة أن هذا الانفتاح الهجومي من دولة لا يزال يحكمها حزب واحد هو الحزب الشيوعي، تتصدّى له الولايات المتحدة التي تجسّد الليبرالية الاقتصادية والرأسمالية غير المقيّدة، عبر اعتماد سياسة حمائية صارمة. والحال أن تحوّل الصين إلى قطب التكنولوجيا المتقدّمة يشكل «تهديدًا غير مسبوق» للصناعة الأميركية، وفق تقرير استخباريّ صدر العام الماضي. وفي السياق نفسه، يشكو الاتحاد الأوروبي من أن شركات التكنولوجيا الصينية هي مجرد امتدادات للأجهزة الحكومية الصينية. وليست الأزمة الأخيرة المستمرة بين دول غربية وشركة «هواوي» الصينية سوى مثال على ذلك.
مهما يكن من أمر، بدت القمة الثانية حول مبادرة «الحزام والطريق» التي استضافتها بكين في أبريل (نيسان) الماضي، بمثابة قبول عالمي واسع بها، بدليل المشاركة الكبيرة وتوقيع اتفاقات على هامشها تجاوزت قيمتها 64 مليار دولار. وعموماً، توفر استثمارات الصين في الاقتصادات الناشئة أسواقاً جديدة في قطاعات عدة، لأن المبالغ المعنية هي بالمليارات سنوياً، وهي بالتالي توفر فرص عمل وتدفع النمو في البلدان المستثمَر فيها.
هل تبحث الصين عبر استثماراتها ومبادرة «الحزام والطريق» عن زيادة نفوذها العالمي؟
هي حتماً تريد ذلك لأنه من طبائع الدول. لكن النفوذ الآتي في شكل استثمارات ومشاريع يبدو مقبولاً، أو هو على الأقل شكل جديد من العولمة سيفرض نفسه فصلاً أساسياً في «كتب السياسة».


مقالات ذات صلة

من الوعود إلى الواقع... الأسواق تتفاعل بقلق مع تصعيد رسوم ترمب الجمركية

الاقتصاد متداولون يعملون في قاعة بورصة نيويورك (أ.ف.ب)

من الوعود إلى الواقع... الأسواق تتفاعل بقلق مع تصعيد رسوم ترمب الجمركية

لم تعُد الأسواق تنظر إلى دونالد ترمب على أنه مجرد مُطلق للوعود، بل باتت تتفاعل بسرعة مع سياساته الاقتصادية، متوقعة تباطؤ النمو في الولايات المتحدة والعالم.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة )
الاقتصاد ترمب يشارك في طاولة مستديرة حول سياسة الزراعة مع مزارعين ومسؤولين في سميثتون ببنسلفانيا سبتمبر 2024 (رويترز)

​رسوم ترمب الجمركية تدخل حيز التنفيذ الثلاثاء وسط ترقب الأسواق العالمية

من المقرر أن يبدأ يوم الثلاثاء الرابع من مارس تطبيق الرسوم الجمركية التي أعلن عنها الرئيس دونالد ترمب وسط حالة من الترقب في الأسواق العالمية

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد سبائك معروضة في معرض الذهب بمتحف التاريخ الطبيعي بنيويورك (رويترز)

الذهب يرتفع بفعل ضعف الدولار وعدم اليقين بشأن اتفاق السلام في أوكرانيا

ارتفعت أسعار الذهب، يوم الاثنين، بدعم ضعف الدولار، في حين أدى التأخير بإيجاد السلام بأوكرانيا والمخاوف بشأن الرسوم الجمركية إلى تغذية الطلب على الملاذ الآمن.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مضخة رفع قرب احتياطي النفط الخام في حقل النفط بحوض بيرميان في ميدلاند بتكساس (رويترز)

النفط يتعافى بعد بيانات صينية إيجابية والاستعداد لرسوم ترمب

ارتفعت أسعار النفط واحداً في المائة يوم الاثنين بعد أن عززت بيانات قوية في قطاع الصناعات التحويلية الصيني، التفاؤل بشأن الطلب.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة )
الاقتصاد رئيس جنوب أفريقيا يلقي كلمته الافتتاحية خلال اجتماع وزراء المالية والبنوك المركزية لمجموعة العشرين في كيب تاون (أ.ف.ب)

رئيس جنوب أفريقيا لـ«العشرين»: التعاون متعدد الأطراف ضروري للاستقرار الاقتصادي العالمي

أكد رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، أهمية التعاون متعدد الأطراف لتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي خلال افتتاحه أعمال وزراء مالية مجموعة العشرين.

«الشرق الأوسط» (كيب تاون)

للعام الثاني على التوالي... الصين ترفع موازنتها الدفاعية بنسبة 7.2%

 تخطّط الصين لخلق 12 مليون وظيفة حضرية هذا العام (رويترز)
تخطّط الصين لخلق 12 مليون وظيفة حضرية هذا العام (رويترز)
TT

للعام الثاني على التوالي... الصين ترفع موازنتها الدفاعية بنسبة 7.2%

 تخطّط الصين لخلق 12 مليون وظيفة حضرية هذا العام (رويترز)
تخطّط الصين لخلق 12 مليون وظيفة حضرية هذا العام (رويترز)

أعلنت بكين في تقرير حكومي، اليوم (الأربعاء)، أنّ موازنة الدفاع الصينية، ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم لكنّها متأخرة كثيراً عن نظيرتها الأميركية، سترتفع في عام 2025 بنسبة 7.2 في المئة، أي نفس معدل الزيادة الذي سجّلته العام الماضي.

وقالت الحكومة في تقرير ميزانية العام 2025، إنّها ستخصص للنفقات الدفاعية 1784.7 تريليون يوان (245.7 مليار دولار)، وهو مبلغ يقلّ بثلاث مرات عن ميزانية الدفاع الأميركية.

عناصر من الجيش الصيني (رويترز)

وأظهرت وثيقة صينية رسمية، أنّ بكين تسعى هذا العام لتحقيق نمو اقتصادي «بنسبة 5 في المئة تقريباً» ومعدّل تضخّم بنسبة 2 في المئة وتخطّط أيضاً لخلق 12 مليون وظيفة حضرية.

وبذلك يكون معدلا النمو والتضخّم المستهدفان هذان العام مماثلين لما كانا عليه في العام الماضي، في وقت تواصل فيه الصين التعامل مع أزمة ديون قطاع العقارات، وارتفاع معدلات البطالة، وتباطؤ الاستهلاك بالإضافة إلى الحرب التجارية التي بدأها لتوّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضدّ العملاق الآسيوي.

وتعهّدت الصين، اليوم (الأربعاء)، جعل الطلب المحلي «المحرّك الرئيسي» لنموّها الاقتصادي، وذلك في تقرير حدّدت فيه الحكومة أهدافها التنموية لهذا العام.

وقالت الحكومة في تقريرها: «سنعالج بأسرع وقت ممكن ضعف الطلب المحلّي، وبخاصة استهلاك الأسر، من أجل أن يصبح هذا الطلب المحلّي المحرّك الرئيسي وحجر الزاوية للنمو الاقتصادي».