الإرهاب في الساحل الأفريقي

قسوة الطبيعة... ووحشية التنظيمات المتطرفة

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب في الساحل الأفريقي

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)

قُتل 28 جندياً في النيجر، منتصف الشهر الحالي، واعتُبر 11 آخرون مفقودين، بعد هجوم على تونغو تونغو في منطقة تيلابيري، قرب الحدود المالية، ونقل كثير من الجرحى إلى مستشفيات العاصمة نيامي للعلاج.
وقد عرفت هذه المنطقة بالهجوم الذي قتل فيه أربعة جنود أميركيين وخمسة جنود من النيجر في 2017، وتبنى تنظيم «داعش في الصحراء الكبرى»، العملية، في تسجيل مصور بثه بعد الحادث.

على أثر هذه العملية الإرهابية، طالبت بوركينا فاسو يوم 16 مايو (أيار) الحالي الأمم المتحدة، وأعضاء مجلس الأمن بتأسيس «تحالف دولي» ضد الإرهاب لمنطقة الساحل، شبيه بالتحالف الدولي ضد الإرهاب بالعراق وسوريا. وقال مسؤول أمني لوسائل الإعلام، بخصوص الهجوم في منطقة تيلابيري، غرب النيجر، قرب الحدود المالية، إن «الكمين» كان عملاً مدبراً من «مجموعة إرهابية تضم مئات الرجال المدججين بالسلاح من الشمال». ويأتي هذا الهجوم الوحشي بالتزامن مع اجتماع لدول الساحل مع دول الاتحاد الأوروبي ببروكسل للتداول حول تصاعد الإرهاب بالساحل والصحراء.
وقد اعترفت الممثلة السامية الأوروبية فيديريكا موغيريني، بأن الوضع الحالي المتسم بتوسع وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية بالساحل، يضع الاتحاد الأوروبي ودول الساحل في «حالة من التناقض»، حيث «تتزايد جهود الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لصالح بلدان الساحل الخمسة الكبرى، لكن مستوى الأمن يتدهور». ومن جهته، يرى تيبيل درامي، وزير خارجية مالي، أن «ما نحتاج إليه هو تسريع الإجراءات، وتعبئة دولية ملموسة، وتحالف دولي ضد التهديد الإرهابي، ومزيد من الجهود». أما وزير الشؤون الخارجية والدفاع البلجيكي ديدييه رايندرز، فإنه يرى أن «الأمر متروك أيضاً للبلدان المعنية للسيطرة على حدودها ووقف حركة المرور المكثفة هناك. كما يدعو الأوروبيون الشركاء إلى نزع سلاح الميليشيات وإصلاح قوات الأمن وإنهاء الإفلات من العقاب، وإعادة نشر الخدمات العامة في المناطق الحدودية».
قال ثلاثة من كبار المسؤولين في المجال الإنساني لدى الأمم المتحدة، في الأسبوع الثاني من مايو 2019، إن الهجمات المسلحة المتكررة والمتطورة في منطقة الساحل ونقص الغذاء المرتبط بالجفاف الشديد في العام الماضي قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، مما عرّض مستقبل «جيل كامل» للخطر. وقد سجلت سنة 2018، تزايداً لحوادث العنف في المنطقة إلى مستويات أعلى، أي إلى أربعة أضعاف مما كانت عليه في ذروة أزمة مالي في عام 2013. كما عرفت هذه السنة نشاطاً مكثفاً للجماعات المتطرفة عبر الحدود في مناطق شاسعة، معظمها فقيرة وذات كثافة سكانية منخفضة. ويأتي هذا مع تزايد التوترات في المجتمعات المحلية المقهورة، وتتفاقم بفعل ديناميات الصراع وجداول أعمال الجماعات المسلحة. وهذا بدوره رفع من حدة العنف بين المدنيين مباشرة، في بوركينا فاسو، حيث تنتشر الهجمات المسلحة في المناطق الحدودية الشرقية والجنوبية، وتمس الدول الساحلية المجاورة. ولخطورة هذه الموجة الجديدة من الإرهاب، حذر المنسقون المقيمون والإنسانيون التابعون للأمم المتحدة، في نداء لزيادة التمويل لدعم ملايين الأشخاص المتضررين من انتشار العنف في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، من أن عدم الاستقرار يهدد بالانتشار إلى بلدان غرب أفريقيا الأخرى.
ذلك أن تشابك نشاط الجماعات الإرهابية، وقسوة الطبيعة، أديا إلى تزايد الاحتياجات، وتصاعدت موجات النزوح خمسة أضعاف في عام واحد. مسجلة أكثر من 330 ألف نازح، بالإضافة إلى 100 ألف لاجئ.
وقال مبيرانجا جاسارابوي، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في مالي إن هذا يؤدي «لدمار مزدوج». ففي مالي «أغلقت أكثر من 1800 مدرسة وأكثر من 80 مركزاً صحياً، أو عملت بشكل جزئي فقط»، وهذا ما يمنح الفرص للمتطرفين لتقديم هذه الخدمات للسكان المحليين. وبالنسبة لبينتو جيبو المنسق المقيم للشؤون الإنسانية في النيجر، على الأمم المتحدة أن تتحرك بسرعة لمحاصرة العنف في هذه المنطقة على مستوى الإغاثة المستمرة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى مستوى التقليص من الشعور بالتهميش والحرمان من الحقوق. وفي هذا السياق، كشفت الأمم المتحدة، أن نحو 5.1 مليون شخص يحتاجون للمساعدة الإنسانية في مناطق، تاهوا وتيلابيري في بوركينا فاسو ومالي والنيجر. كما ناشدت منظمات الإغاثة تقديم 600 مليون دولار لمساعدة 3.7 مليون من أشد الناس احتياجاً في البلدان الثلاثة، غير أن التمويل المتوفر حالياً هو نحو 19 في المائة فقط. وهذا الضعف في الإمكانيات يجعل مستقبل جيل كامل على المحك. ذلك أن هذا الوضع المتأزم شجع المجتمعات الإثنية على التحارب والعنف المتبادل، مع بروز مؤشرات تدل على تطور الأجهزة والأسلحة وطرق القتال التي تمارسها الجماعات الإرهابية بمنطقة الساحل. وقالت متسي ماكيثا، منسقة الأمم المتحدة المقيمة في بوركينا فاسو: «إننا بحاجة إلى جهد متضافر حتى نتمكن من تهيئة الظروف التي تمكّن المجتمعات من تعزيز روابطها المجتمعية التقليدية».
ففي جميع أنحاء المنطقة المشتعلة، زاد عدد النازحين بشكل مخيف مع غياب لحماية المدنيين. وعلى سبيل المثال، زاد عدد النازحين داخلياً، في مالي بأكثر من الضعف خلال 2018م، ليصل إلى نحو 100 ألف شخص. ومن جهتها، تواجه بوركينا فاسو نزوحاً غير مسبوق، حيث غادر أكثر من 100 ألف شخص منازلهم في النصف الأول من 2019. أما النيجر، فقد شهدت منطقتا تيلابيري وتاهوا فيها ترك أكثر من 70000 شخص منازلهم، بسبب أعمال العنف.
وتزداد معاناة السكان والحاجة إلى مساعدات غذائية، وسط موجهة قاتلة من الجفاف، حيث يواجه نحو 1.8 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي. كما أن سوء التغذية الحاد يهدد حياة نحو 400 ألف طفل. ومما يزيد قتامة الوضع أن نشاط الجماعات الإرهابية وانتشار العنف والجريمة، وانعدام الأمن، فرضت قيوداً على الحركة، وأزمت وضعية المجتمعات الرعوية والمزارعين. ولا يبدو أن جهود 248 مؤسسة إغاثية تعمل في المناطق المتأثرة، مع الشركاء المحليين، كافية للتخفيف بشكل عاجل من الأزمة المزدوجة التي تضرب منطقة الساحل.
ولتحقيق التقدم في العمل الإغاثي، والتقليل من موجة العنف الحالية، يلزم تضافر عمل مختلف الفاعلين المحليين والعالميين، وتكثيف صنوف الشراكات بين المجتمعات المحلية والحكومات والجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية والشركاء الدوليين، ذلك أن التنسيق الشامل بين هذه الأطراف، هو الذي سيدعم الاتجاه الحالي، الرامي للتدخل العاجل والفعال، لتحسن معيشة حياة ملايين من الأشخاص في منطقة الساحل.
من الناحية التاريخية، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، تتميز منطقة الساحل بتغيرات مناخية قوية وسقوط أمطار غير منتظمة تشكل اثنتين من أكبر العقبات أمام الأمن الغذائي والحد من الفقر في المنطقة. ويقول الخبراء إن الأمور ازدادت سوءاً في العقود الأولى، من القرن 21، حيث زاد تواتر وشدة الجفاف والفيضانات خلال هذه الفترة، مما أربك النشاط الاقتصادي للمنطقة، وغير طبيعة العلاقة السائدة بين الجماعات السكانية، خصوصاً الرعوية. وتفيد منظمة الأغذية والزراعة بأن أكثر من 80 في المائة من أراضي المنطقة متدهورة. فيما يرى مالكولم بوتس من جامعة كاليفورنيا، أنه بحلول عام 2050، ستشهد منطقة الساحل ارتفاعاً لانبعاث غازات دفيئة، مما سيوثر بدوره على درجات الحرارة، التي ستكون أكثر دفئاً بمقدار 3 إلى 5 درجات مئوية، وبالتالي ستصبح الأحداث المناخية القاسية أكثر شيوعاً وانتشاراً بالمنطقة.
ويفسر برنامج الأمم المتحدة للبيئة، هذه الإشكالية المستفحلة، بناء على عوامل مختلفة تفسر الأزمة البيئية لمنطقة الساحل، حيث يرى البرنامج الأممي أن نمو السكان المتزايد، والمصاحب لتدهور الأراضي الزراعية، وإزالة الغابات والمحاصيل المستمرة والرعي الجائر، وهطول الأمطار غير المنتظم، وعدم الاستفادة من مياه الأمطار، وافتقار الحكومات إلى سياسات بيئية متماسكة، وغياب أولويات التنمية المركزية والمحلية، كل هذا أدى إلى تحويل نسبة كبيرة من جغرافية الساحل إلى أراضٍ قاحلة، مما أدى إلى تدهور والموارد المائية، والماشية.
رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الاتحاد الأوروبي، وكل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، بقصد تقوية جبهة مكافحة الإرهاب بالساحل، فإن عمليات القوة المشتركة، تواجه صعوبات جمة. فقد اضطرت بعد الهجوم على مقرها في سيفاري في 29 يونيو (حزيران) 2018 للتوقف، ولم تستأنف إلا في يناير (كانون الثاني) 2019. ورغم الدعم العسكري الكبير لقوة «برخان» الفرنسية، لا يزال جيش الساحل لمكافحة الإرهاب لا يعمل بشكل كامل، بعد خمس سنوات من التعبئة والدعم، وبالتالي لم يصل إلى نسبة 80 في المائة من الإمكانية والنشاط الذي كانت مرسوماً له في أفق 2019.
على أي حال، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة حول دور القوة المشتركة (جي 5)، التي ساهم فيها الاتحاد الأوروبي بمبلغ 147 مليون يورو، التي لا يمكن أن تغطي سوى بعض الجوانب اللوجيستيكية غير الفعالة، أمام تصاعد قوة الجماعات الإرهابية. وللعمل في المناطق الحدودية، أنشأت الدول الخمس (مالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، وبوركينا فاسو)، قوات أمن إقليمية خاصة بها، مكونة من نحو 5000 رجل تحت «القيادة المركزية»، غير أن هذه القوة تعاني من الضعف المزمن، ومن قلة الإمكانيات، مما يسمح للجماعات الإرهابية بحرية أكبر في النشاط داخل جغرافية شاسعة ومأزومة، إثنياً، ودينياً، ومناخياً.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.