تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

تفسير عملي لهجمات جماعة «التوحيد الوطنية»

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
TT

تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)

تؤشر الهجمات التي هزت أربع كنائس وبعض الفنادق في سريلانكا، 21 أبريل (نيسان) الماضي، تزامناً مع عيد الفصح، وخلّفت أزيد من 300 قتيل ونحو 500 جريح، على تحول جوهري في الممارسة الإرهابية لتنظيم «جماعة التوحيد الوطنية».
غير أن فهم هذا التغيُّر المسلكي للتنظيم السيريلانكي لا يمكن أن يتم دون فهم «الانزياح الفكري والعملي»، الواقع لتنظيم «داعش»، بعد دحره بالعراق وسوريا، والإعلان الأميركي عن القضاء عليه، بداية سنة 2019.

تحوُّل «داعش» وتكيفه مع الوضع الجديد بشكل سريع، فاجأ كثيراً من المتخصصين، خصوصاً أن المسار الجديد يناقض البنية التنظيمية القديمة، ويقطع مع «فلسفة» التنظيم الواحدي الرأس، والمتمركز حول «الخلافة»، وما يُسمى الدولة الموحدة، ووجوب الهجرة للعيش تحت راية الخليفة الواحد. ويتجه إلى بناء تنظيم شبكي يقوم على الآيديولوجية الدينية القتالية، تقوده قيادة تقر وتضمن البيعة عن بعد للبغدادي. وفي الوقت ذاته تتمتع، باعتبارها فروعاً عالمية، بالاستقلالية في تحديد الأهداف، وفقاً للسياق والظروف المحلية.

«التوحيد الوطنية»

ضمن هذا السياق العالمي المتسم بتوالد الجماعات الإرهابية، أعلنت الشرطة السريلانكية في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، عن اعتقال أربعة أشخاص ينتمون لتنظيم إرهابي حديث النشأة، وقد ضبطت السلطات مجموعة من المتفجرات في حوزة المعتقلين بالعملية.
لكن المفاجأة، المسجلة حالياً، هي ظهور اسم التنظيم المتطرف لجماعة «التوحيد الوطنية»، على مسرح الأحداث بعد العمليات الوحشية في 21 أبريل بسريلانكا. وقد أثار عدد القتلى في التفجيرات اهتماماً خاصاً من قبل المنظومة الدولية، ووسائل الإعلام. غير أن الغموض الذي صاحب العمليات، سرعان ما كشف عن ارتباط «التوحيد الوطنية»، بالمنظمة الإرهابية العالمية «داعش» بزعامة البغدادي. هذا الأخير أثنى في تسجيله الأخير على الفرع السريلانكي، وتبنى التفجيرات واعتبرها ثأراً للباغور، آخر معقل فقده تنظيمه بسوريا، في مارس (آذار) 2019.
عُرفت «جماعة التوحيد الوطنية»، بزعامة محمد قاسم محمد زهران، باعتبارها تنظيماً دينياً يقوم ببعض الأعمال الاجتماعية والإغاثة، بالإضافة للتعليم الديني. كما عرفت الجماعة المتطرفة بمحليّتها، حيث لا ترتبط بتنظيم «توحيد تاميل نادو» الهندية بأي روابط تنظيمية. بل تعود جذورها لمجموعة متشددة أطلقت على نفسها اسم «جماعة التوحيد في سريلانكا».
ولم تكشف «التوحيد الوطنية»، عن نزعاتها المتطرفة إلا سنة 2016 حيث قام التنظيم بعمليات سرية لتخريب تماثيل بوذية، كما أصدر في السنة ذاتها منشورات تهاجم البوذيين والهندوس، في البلاد، مما أدى لاعتقال السلطات المتحدث باسم الجماعة وزعيمها في ذلك الوقت، عبد الرازق، في 2016، بتهمة التحريض على العنصرية، قبل أن تفرج عنه في العام نفسه. وفي هذه الفترة، كانت التوترات العرقية، خصوصاً بين البوذيين والمسلمين، تتصاعد علناً قبل أن يهدأ الوضع في نهاية المطاف، إلا أنه اندلع مرة أخرى سنة 2019.
يشار إلى أن سنة 2016، عرفت كذلك إقراراً من السلطات الرسمية بالتحاق 32 فرداً من مسلمي سريلانكا بتنظيم «داعش»، في سوريا والعراق. وتشير تقارير كثيرة إلى أن عودة بعض المقاتلين السريلانكيين من التنظيم إلى بلادهم، بعد هزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، تضاعف من خطر ازدياد النشاط الإرهابي بالبلاد، وبجنوب شرقي آسيا عموماً.

الأسلوب المتجدد

يبدو أن الهجوم الذي ضرب في 21 أبريل سريلانكا، هو نفس أسلوب، تنظيم «داعش». فهذا التنظيم الذي يصارع من أجل تسجيل الإرهاب باعتباره «اسماً تجارياً» خاصاً به، يعتمد من حيث الأهداف المختارة على «سياسة موحدة»، تركز على هدفين: الأول قتل أكبر نسبة من الأجانب، والثاني ضرب البنية الاقتصادية للدولة المهاجمة. ويتضح أن هذه السياسة، التي تطبق خارج العراق وسوريا، لم تكن وليدة 2019. بل إن «داعش» طبقها منذ هجمات باريس عامي 2015 و2016، واعتبر نجاحها في أوروبا مقياساً لصوابية التوجه الداعشي الجديد.
السياسة ذاتها، المعتمدة على قتل الأجانب وإرباك الاقتصاد، نجدها كذلك في هجمات «داعش» قبل عامين في أبريل 2017. حيث وقع تفجيران انتحاريان في مدينتي طنطا والإسكندرية المصريتين، واستهدفا كنيسة وكاتدرائية. مما أسفر عن قتل 45 شخصاً، وإصابة أكثر من 120 آخرين. وفي 13 مايو (أيار) 2018، نفذت عائلة هجمات انتحارية على ثلاث كنائس في سورابايا، ثاني أكبر مدن إندونيسيا، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 40 آخرين.
ويمكن القول إن السياسة الداعشية الجديدة، تُظهر من جهة، أن هجمات سريلانكا الأخيرة هي تعبير عن مزيد من التغيير في منهج «الدولة الإسلامية»، وقدرتها على استعمال التنظيمات المحلية، للتحول إلى راعٍ للإرهاب و«محتكر» لممارسته في جميع أنحاء العالم.
ومن جهة ثانية، يبدو أن تنظيم «داعش» وفكره المتطرف يلعب دوراً ما في الأحداث الدينية التي تقع بدولة جزر المالديف الصغيرة، إذ انضم نحو 450 من مواطنيها للقتال مع تنظيم البغدادي في سوريا والعراق. وبالتالي فهناك مخاوف من توسع تأثير «داعش» في المنطقة ليمتد من باكستان وصولاً إلى الهند ودولة النبال. فإذا كانت «داعش» تريد احتكار الإرهاب لنفسها، فإن التنظيمات الإرهابية المحلية بدورها ترغب في استثمار اسم «داعش» لتجلب وتستقطب المقاتلين.
يحصل هذا في الوقت الذي تفيد فيه كثير من التقارير المتعلقة بالإرهاب والأمن العالمي، بأن المقاتلين الأجانب المطرودين من العراق وسوريا، في طريقهم إلى الانتشار في أماكن مثل بنغلاديش والفلبين وإندونيسيا، وأن خبرتهم القتالية مكّنتهم من المساعدة في إنشاء خلايا لشن هجمات، حيث شهدت دكا هجوماً مفاجئاً في عام 2016 نفذته «جماعة المجاهدين في بنغلاديش»، وهي مجموعة محظورة لا ترتبط تنظيمياً بـ«الدولة الإسلامية».
وبعد ذلك، سيطر فرع تنظيم البغدادي في الفلبين على مدينة مراوي في عام 2017. وفي سورابايا الإندونيسية، وقعت هجمات مميتة على كنائس في عام 2018، وانضمت سريلانكا إلى القائمة سنة 2019. وفقاً لهذا المسار، فإن السياسة الجديدة لـ«داعش» تتجه لخلق توجه جديد في تدبير العلاقة بين التنظيم المركزي والمجموعات المحلية.
من جهة ثالثة، لا يمكن قياس الوضع الحالي لـ«داعش»، دون فهم أنه حركة آيديولوجية عالمية، وليست كياناً تنظيمياً واحداً، كما كانت وقت السيطرة على الموصل بالعراق والرقة بسوريا. فالتنظيم اليوم يعتمد على الولاء أكثر من اعتماده على الهيكلة التنظيمية، ويبدو أن تجربة المقاتلين الذين انضمّوا لـ«الخلافة»، وإعادة انتشارهم بعد الهزيمة، يساعد بشكل قوي في التكيف مع الوضع الجديد، والدخول في مرحلة التحول لتنظيم شبكي عالمي، قد يتجاوز تجربة «القاعدة» في هذا المجال. وهذا ما يظهر في تجربة «داعش»، غرب أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا، والجهاديين المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
إن الهجمات التي تم ذكرها أعلاه، في سريلانكا، وسورابايا، ومراوي، تؤكد أن المجموعات المحلية، هي التي تمنح الإشعاع العالمي لـ«داعش». بينما يمنحها تنظيم البغدادي، آيديولوجيته واسمه، في خريطة الامتياز الجهادي المحلي، وهذا ما ينتج تموقعاً متجدداً للحركة الإرهابية العالمية.
صحيح أن هذا لا يكشف كل خيوط الارتباط بين العالمية والمحلية في الإرهاب الداعشي. لكن دور الخلية المحلية في سريلانكا يؤشر على وجود أفراد تم تدريبهم من قِبل مَن لهم تجربة وصلة مباشرة بالمركز، وهذا ما جعل منها هجمات من نوع جديد، تعبر عن تجربة الفرع المحلي في تمثُّل الآيديولوجية، والممارسة الإرهابية للتنظيم المركزي.
إن هذا التحول، الذي بدأ في باريس ما بين عامي 2015 و2016، وانتقل إلى آسيا، يحتاج من التحالف الدولي ضد الإرهاب، إلى بذل مزيد من الجهود لمساعدة السلطات البنغلاديشية، والإندونيسية، والفلبينية، والسريلانكية وغيرها، على مواجهة التهديدات الإرهابية التي تمثلها، التنظيمات المحلية في علاقتها بآيديولوجية «داعش» القتالية.
من الواضح أن هجمات سيريلانكا تمثل ضربة كبيرة لجهود مكافحة الإرهاب. غير أنه من المهم تعقب كل تفاصيل العملية الإرهابية وفك لغز علاقة «جماعة التوحيد الوطني» بتنظيم «داعش». وربما تكون المهمة العاجلة هي منع الخلية المسؤولة عن صنع المتفجرات، من النشاط مرة أخرى وتنافي تكرار الهجمات مرة أخرى. ذلك أن ترك مثل هذه التنظيمات المحلية دون تعقب جدي، يمنحها فرصاً لخلق التهديد والتوسع.
من جهة أخرى، يجب على سريلانكا والدول المجاورة لها، الدخول في تحالف إقليمي ضد الإرهاب، وخلق تعاون وتنسيق أمني مشترك يسهّل تبادل المعلومات، والخبرات، وإجراء تدريبات مشتركة، تهم الحد من النشاطات الإرهابية، في منطقة جنوب وشرق آسيا.
إجمالاً يمكن القول إن تنظيم البغدادي، استطاع خلق دينامية متوحشة في صيغة غير مركزية. فالتنظيم الذي يتحول بسرعة نحو بناء مجموعات محلية، بعقلية آيديولوجية موحدة واستقلالية تنظيمية أنجز قفزة مهمة مكّنته من الوصول لمناطق مختلفة في العالم. ولعب في ذلك على أوتار متعددة مثل، الإثنية والطائفية والمظلومية... فقد اعتبر مركز «صوفان للدراسات الأمنية» ومقره نيويورك أن هجمات سريلانكا هدفها توتير الوضع بين المجموعات الطائفية وزعزعة حكومات الدول التي تقع فيها. أما معهد أبحاث السلام في العاصمة النرويجية أوسلو، فقد اعتبر أن الجانب الأمني هو السبب الرئيسي في اختيار الأهداف بسريلانكا. ذلك أن الكنائس الكاثوليكية، والفنادق، لا تخضع للمراقبة الأمنية، كما أن البلاد تشهد تراخياً للقوى الأمنية في لعب دورها.
أما الجانب العرقي، الذي يلعب عليه «داعش» وفروعه، فلم يسجل المعهد أن هناك عنفاً بين الجماعات العرقية، خلال العشر سنوات الأخيرة. وبالتالي، من الصعب أن تتبنى الطائفة الإسلامية آيديولوجية وفكر تنظيم «داعش» الإرهابي، واستعماله ضد المجموعات العرقية والدينية الأخرى. وكل ما تقدم يجعلنا نقر بأن هناك جانباً من الغموض في طبيعة وأسباب وأهداف «داعش» من الهجوم على الكنائس والفنادق بسريلانكا، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن هذا الغموض، لا ينفي تمكن التنظيم من تنشيط خلايا ومجموعات، مكّنته من توسيع الجغرافية التي تتعرض لتهديداته، رغم أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أعلن منذ بداية 2019، عن هزيمة «داعش».
* استاذ زائر للعلوم السياسية
ـ جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».