تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

تفسير عملي لهجمات جماعة «التوحيد الوطنية»

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
TT

تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)

تؤشر الهجمات التي هزت أربع كنائس وبعض الفنادق في سريلانكا، 21 أبريل (نيسان) الماضي، تزامناً مع عيد الفصح، وخلّفت أزيد من 300 قتيل ونحو 500 جريح، على تحول جوهري في الممارسة الإرهابية لتنظيم «جماعة التوحيد الوطنية».
غير أن فهم هذا التغيُّر المسلكي للتنظيم السيريلانكي لا يمكن أن يتم دون فهم «الانزياح الفكري والعملي»، الواقع لتنظيم «داعش»، بعد دحره بالعراق وسوريا، والإعلان الأميركي عن القضاء عليه، بداية سنة 2019.

تحوُّل «داعش» وتكيفه مع الوضع الجديد بشكل سريع، فاجأ كثيراً من المتخصصين، خصوصاً أن المسار الجديد يناقض البنية التنظيمية القديمة، ويقطع مع «فلسفة» التنظيم الواحدي الرأس، والمتمركز حول «الخلافة»، وما يُسمى الدولة الموحدة، ووجوب الهجرة للعيش تحت راية الخليفة الواحد. ويتجه إلى بناء تنظيم شبكي يقوم على الآيديولوجية الدينية القتالية، تقوده قيادة تقر وتضمن البيعة عن بعد للبغدادي. وفي الوقت ذاته تتمتع، باعتبارها فروعاً عالمية، بالاستقلالية في تحديد الأهداف، وفقاً للسياق والظروف المحلية.

«التوحيد الوطنية»

ضمن هذا السياق العالمي المتسم بتوالد الجماعات الإرهابية، أعلنت الشرطة السريلانكية في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، عن اعتقال أربعة أشخاص ينتمون لتنظيم إرهابي حديث النشأة، وقد ضبطت السلطات مجموعة من المتفجرات في حوزة المعتقلين بالعملية.
لكن المفاجأة، المسجلة حالياً، هي ظهور اسم التنظيم المتطرف لجماعة «التوحيد الوطنية»، على مسرح الأحداث بعد العمليات الوحشية في 21 أبريل بسريلانكا. وقد أثار عدد القتلى في التفجيرات اهتماماً خاصاً من قبل المنظومة الدولية، ووسائل الإعلام. غير أن الغموض الذي صاحب العمليات، سرعان ما كشف عن ارتباط «التوحيد الوطنية»، بالمنظمة الإرهابية العالمية «داعش» بزعامة البغدادي. هذا الأخير أثنى في تسجيله الأخير على الفرع السريلانكي، وتبنى التفجيرات واعتبرها ثأراً للباغور، آخر معقل فقده تنظيمه بسوريا، في مارس (آذار) 2019.
عُرفت «جماعة التوحيد الوطنية»، بزعامة محمد قاسم محمد زهران، باعتبارها تنظيماً دينياً يقوم ببعض الأعمال الاجتماعية والإغاثة، بالإضافة للتعليم الديني. كما عرفت الجماعة المتطرفة بمحليّتها، حيث لا ترتبط بتنظيم «توحيد تاميل نادو» الهندية بأي روابط تنظيمية. بل تعود جذورها لمجموعة متشددة أطلقت على نفسها اسم «جماعة التوحيد في سريلانكا».
ولم تكشف «التوحيد الوطنية»، عن نزعاتها المتطرفة إلا سنة 2016 حيث قام التنظيم بعمليات سرية لتخريب تماثيل بوذية، كما أصدر في السنة ذاتها منشورات تهاجم البوذيين والهندوس، في البلاد، مما أدى لاعتقال السلطات المتحدث باسم الجماعة وزعيمها في ذلك الوقت، عبد الرازق، في 2016، بتهمة التحريض على العنصرية، قبل أن تفرج عنه في العام نفسه. وفي هذه الفترة، كانت التوترات العرقية، خصوصاً بين البوذيين والمسلمين، تتصاعد علناً قبل أن يهدأ الوضع في نهاية المطاف، إلا أنه اندلع مرة أخرى سنة 2019.
يشار إلى أن سنة 2016، عرفت كذلك إقراراً من السلطات الرسمية بالتحاق 32 فرداً من مسلمي سريلانكا بتنظيم «داعش»، في سوريا والعراق. وتشير تقارير كثيرة إلى أن عودة بعض المقاتلين السريلانكيين من التنظيم إلى بلادهم، بعد هزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، تضاعف من خطر ازدياد النشاط الإرهابي بالبلاد، وبجنوب شرقي آسيا عموماً.

الأسلوب المتجدد

يبدو أن الهجوم الذي ضرب في 21 أبريل سريلانكا، هو نفس أسلوب، تنظيم «داعش». فهذا التنظيم الذي يصارع من أجل تسجيل الإرهاب باعتباره «اسماً تجارياً» خاصاً به، يعتمد من حيث الأهداف المختارة على «سياسة موحدة»، تركز على هدفين: الأول قتل أكبر نسبة من الأجانب، والثاني ضرب البنية الاقتصادية للدولة المهاجمة. ويتضح أن هذه السياسة، التي تطبق خارج العراق وسوريا، لم تكن وليدة 2019. بل إن «داعش» طبقها منذ هجمات باريس عامي 2015 و2016، واعتبر نجاحها في أوروبا مقياساً لصوابية التوجه الداعشي الجديد.
السياسة ذاتها، المعتمدة على قتل الأجانب وإرباك الاقتصاد، نجدها كذلك في هجمات «داعش» قبل عامين في أبريل 2017. حيث وقع تفجيران انتحاريان في مدينتي طنطا والإسكندرية المصريتين، واستهدفا كنيسة وكاتدرائية. مما أسفر عن قتل 45 شخصاً، وإصابة أكثر من 120 آخرين. وفي 13 مايو (أيار) 2018، نفذت عائلة هجمات انتحارية على ثلاث كنائس في سورابايا، ثاني أكبر مدن إندونيسيا، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 40 آخرين.
ويمكن القول إن السياسة الداعشية الجديدة، تُظهر من جهة، أن هجمات سريلانكا الأخيرة هي تعبير عن مزيد من التغيير في منهج «الدولة الإسلامية»، وقدرتها على استعمال التنظيمات المحلية، للتحول إلى راعٍ للإرهاب و«محتكر» لممارسته في جميع أنحاء العالم.
ومن جهة ثانية، يبدو أن تنظيم «داعش» وفكره المتطرف يلعب دوراً ما في الأحداث الدينية التي تقع بدولة جزر المالديف الصغيرة، إذ انضم نحو 450 من مواطنيها للقتال مع تنظيم البغدادي في سوريا والعراق. وبالتالي فهناك مخاوف من توسع تأثير «داعش» في المنطقة ليمتد من باكستان وصولاً إلى الهند ودولة النبال. فإذا كانت «داعش» تريد احتكار الإرهاب لنفسها، فإن التنظيمات الإرهابية المحلية بدورها ترغب في استثمار اسم «داعش» لتجلب وتستقطب المقاتلين.
يحصل هذا في الوقت الذي تفيد فيه كثير من التقارير المتعلقة بالإرهاب والأمن العالمي، بأن المقاتلين الأجانب المطرودين من العراق وسوريا، في طريقهم إلى الانتشار في أماكن مثل بنغلاديش والفلبين وإندونيسيا، وأن خبرتهم القتالية مكّنتهم من المساعدة في إنشاء خلايا لشن هجمات، حيث شهدت دكا هجوماً مفاجئاً في عام 2016 نفذته «جماعة المجاهدين في بنغلاديش»، وهي مجموعة محظورة لا ترتبط تنظيمياً بـ«الدولة الإسلامية».
وبعد ذلك، سيطر فرع تنظيم البغدادي في الفلبين على مدينة مراوي في عام 2017. وفي سورابايا الإندونيسية، وقعت هجمات مميتة على كنائس في عام 2018، وانضمت سريلانكا إلى القائمة سنة 2019. وفقاً لهذا المسار، فإن السياسة الجديدة لـ«داعش» تتجه لخلق توجه جديد في تدبير العلاقة بين التنظيم المركزي والمجموعات المحلية.
من جهة ثالثة، لا يمكن قياس الوضع الحالي لـ«داعش»، دون فهم أنه حركة آيديولوجية عالمية، وليست كياناً تنظيمياً واحداً، كما كانت وقت السيطرة على الموصل بالعراق والرقة بسوريا. فالتنظيم اليوم يعتمد على الولاء أكثر من اعتماده على الهيكلة التنظيمية، ويبدو أن تجربة المقاتلين الذين انضمّوا لـ«الخلافة»، وإعادة انتشارهم بعد الهزيمة، يساعد بشكل قوي في التكيف مع الوضع الجديد، والدخول في مرحلة التحول لتنظيم شبكي عالمي، قد يتجاوز تجربة «القاعدة» في هذا المجال. وهذا ما يظهر في تجربة «داعش»، غرب أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا، والجهاديين المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
إن الهجمات التي تم ذكرها أعلاه، في سريلانكا، وسورابايا، ومراوي، تؤكد أن المجموعات المحلية، هي التي تمنح الإشعاع العالمي لـ«داعش». بينما يمنحها تنظيم البغدادي، آيديولوجيته واسمه، في خريطة الامتياز الجهادي المحلي، وهذا ما ينتج تموقعاً متجدداً للحركة الإرهابية العالمية.
صحيح أن هذا لا يكشف كل خيوط الارتباط بين العالمية والمحلية في الإرهاب الداعشي. لكن دور الخلية المحلية في سريلانكا يؤشر على وجود أفراد تم تدريبهم من قِبل مَن لهم تجربة وصلة مباشرة بالمركز، وهذا ما جعل منها هجمات من نوع جديد، تعبر عن تجربة الفرع المحلي في تمثُّل الآيديولوجية، والممارسة الإرهابية للتنظيم المركزي.
إن هذا التحول، الذي بدأ في باريس ما بين عامي 2015 و2016، وانتقل إلى آسيا، يحتاج من التحالف الدولي ضد الإرهاب، إلى بذل مزيد من الجهود لمساعدة السلطات البنغلاديشية، والإندونيسية، والفلبينية، والسريلانكية وغيرها، على مواجهة التهديدات الإرهابية التي تمثلها، التنظيمات المحلية في علاقتها بآيديولوجية «داعش» القتالية.
من الواضح أن هجمات سيريلانكا تمثل ضربة كبيرة لجهود مكافحة الإرهاب. غير أنه من المهم تعقب كل تفاصيل العملية الإرهابية وفك لغز علاقة «جماعة التوحيد الوطني» بتنظيم «داعش». وربما تكون المهمة العاجلة هي منع الخلية المسؤولة عن صنع المتفجرات، من النشاط مرة أخرى وتنافي تكرار الهجمات مرة أخرى. ذلك أن ترك مثل هذه التنظيمات المحلية دون تعقب جدي، يمنحها فرصاً لخلق التهديد والتوسع.
من جهة أخرى، يجب على سريلانكا والدول المجاورة لها، الدخول في تحالف إقليمي ضد الإرهاب، وخلق تعاون وتنسيق أمني مشترك يسهّل تبادل المعلومات، والخبرات، وإجراء تدريبات مشتركة، تهم الحد من النشاطات الإرهابية، في منطقة جنوب وشرق آسيا.
إجمالاً يمكن القول إن تنظيم البغدادي، استطاع خلق دينامية متوحشة في صيغة غير مركزية. فالتنظيم الذي يتحول بسرعة نحو بناء مجموعات محلية، بعقلية آيديولوجية موحدة واستقلالية تنظيمية أنجز قفزة مهمة مكّنته من الوصول لمناطق مختلفة في العالم. ولعب في ذلك على أوتار متعددة مثل، الإثنية والطائفية والمظلومية... فقد اعتبر مركز «صوفان للدراسات الأمنية» ومقره نيويورك أن هجمات سريلانكا هدفها توتير الوضع بين المجموعات الطائفية وزعزعة حكومات الدول التي تقع فيها. أما معهد أبحاث السلام في العاصمة النرويجية أوسلو، فقد اعتبر أن الجانب الأمني هو السبب الرئيسي في اختيار الأهداف بسريلانكا. ذلك أن الكنائس الكاثوليكية، والفنادق، لا تخضع للمراقبة الأمنية، كما أن البلاد تشهد تراخياً للقوى الأمنية في لعب دورها.
أما الجانب العرقي، الذي يلعب عليه «داعش» وفروعه، فلم يسجل المعهد أن هناك عنفاً بين الجماعات العرقية، خلال العشر سنوات الأخيرة. وبالتالي، من الصعب أن تتبنى الطائفة الإسلامية آيديولوجية وفكر تنظيم «داعش» الإرهابي، واستعماله ضد المجموعات العرقية والدينية الأخرى. وكل ما تقدم يجعلنا نقر بأن هناك جانباً من الغموض في طبيعة وأسباب وأهداف «داعش» من الهجوم على الكنائس والفنادق بسريلانكا، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن هذا الغموض، لا ينفي تمكن التنظيم من تنشيط خلايا ومجموعات، مكّنته من توسيع الجغرافية التي تتعرض لتهديداته، رغم أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أعلن منذ بداية 2019، عن هزيمة «داعش».
* استاذ زائر للعلوم السياسية
ـ جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.