باريس تسعى لإقناع العراق بمحاكمة «الدواعش» الفرنسيين على أراضيه

مخاوف حكومية ورفض شعبي لإعادتهم

TT

باريس تسعى لإقناع العراق بمحاكمة «الدواعش» الفرنسيين على أراضيه

في كل التصريحات العلنية التي صدرت عن المسؤولين الفرنسيين والعراقيين بمناسبة زيارة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى باريس، ثمة موضوع بقي في الظل رغم أنه أحد المواضيع الأكثر إزعاجاً للمسؤولين الفرنسيين لأنه يتناول مصير الدواعش الفرنسيين المحتجزين لدى «قسد» و«قوات سوريا الديمقراطية» شمال وشمال شرقي سوريا. وبعكس ما تؤكده السلطات الفرنسية المعنية (وزارات العدل والداخلية والخارجية) بشأن «ثبات» سياستها إزاء هذا الملف المتفجر، فإن مواقف باريس كانت متذبذبة ومتقلبة بتقلب الظروف والمعطيات. وتقوم الصيغة «الأخيرة» على مبدأ أن المتشددين الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية يجب أن يحاكموا في المناطق التي ارتكبوا فيها جرائمهم أو جنحهم أي في العراق وسوريا. أما بشأن القاصرين، فإن الموقف الفرنسي يقوم على النظر في كل حالة على حدة. ورغم الدعاوى التي قدمتها عائلات القاصرين، أمام المحاكم الفرنسية أو الأوروبية أو حتى لدى الأمم المتحدة، فإن باريس ما زالت حتى اليوم متمسكة بموقفها.
حقيقة الأمر أن المشكلة الحقيقية بالنسبة لفرنسا تتمثل في مصير الجهاديين والجهاديات وعائلاتهم المحتجزين في المناطق الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية، والسبب في ذلك أن هذه المناطق ليس لها وضع قانوني معترف به دولياً، كما أنها لا تتمتع بمحاكم رسمية، وبالتالي فإنها غير مؤهلة لمحاكمة الجهاديين المعتقلين لديها أكانوا فرنسيين أو غير فرنسيين. من جهة أخرى، لا تريد باريس أن يسلموا إلى السلطات السورية التي يمكن أن تستخدمهم لاحقاً كورقة مساومة. أما على المستوى الفرنسي الداخلي، فإن كل استطلاعات الرأي تبين أن غالبية ساحقة من الفرنسيين لا ترغب في عودة هؤلاء إلى الأراضي الفرنسية خوفاً من الإرهاب، بل إن هذا الرفض ينسحب أيضاً على القاصرين. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأوروبية نهاية مايو (أيار) الجاري وصعود التيارات اليمينية المتطرفة، فإن الحكومة الفرنسية تتجنب منح اليمين المتطرف السوط الذي سيجلدها به.
إزاء هذه التعقيدات، لم يتبق للحكومة الفرنسية من حلول سوى «الحل العراقي»، أي أن تقبل السلطات العراقية استقبال هؤلاء الجهاديين وأن يحاكموا أمام محاكمها. لكن بغداد، الراغبة في مساعدة فرنسا وبلدان أوروبية صديقة ساعدتها في حربها على «داعش»، كان عليها، أولاً، أن تبرر قانونياً هذه اللفتة، وثانياً أن تطلب «الثمن المقابل». وبالنسبة للنقطة الأولى، تربط بغداد قبول محاكمة هؤلاء الجهاديين بارتكابهم أعمالاً جرمية على الأراضي العراقية. أما بالنسبة للنقطة الثانية، فإن المفاوضات قائمة بين بغداد والدول المعنية لتحديد «الثمن». وفي هذا السياق، فإن صحيفة «لو فيغارو» اليمينية الفرنسية نقلت عن أوساط على علاقة بالملف معلومات تفيد بأن صفقة «سرية» أبرمت بين باريس وبغداد تقوم باريس بموجبها، مقابل احتفاظ العراق بجهادييها، بتقديم تجهيزات عسكرية وإلكترونية، وتوفير قواعد خلفية للوحدات الفرنسية المنتشرة حالياً إلى جانب «قسد» في حال انسحابها من شرق الفرات وفي حال عمدت القوات الأميركية إلى الانسحاب من هذه المنطقة. وأفادت الصحيفة المذكورة بأن العراق يطالب بتعويضات مالية تبلغ 1.8 مليار دولار لقبول استقبال الجهاديين الفرنسيين وغير الفرنسيين.
حقيقة الأمر أنه لا تتوافر معلومات دقيقة عن أعداد الفرنسيين المعنيين بهذه المسألة. فالمعلوم أن العراق استقبل حتى اليوم 14 متشدداً فرنسياً سلمتهم إليه القوات الكردية - العربية السورية. وبحسب صحيفة «ليبراسيون» في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي، فإن السلطات الأمنية الفرنسية أعدت لوائح مفصلة تتضمن 250 اسماً من المتطرفين وعائلاتهم من أجل إعادتهم في رحلتين جويتين إلى فرنسا، الأمر الذي يتناقض مع السياسة المعلنة للحكومة، ويؤشر للإرباك الواقعة فيه السلطات الفرنسية. وبالطبع دافعت هذه السلطات عن نفسها بالقول إن ما ذكر ليس سوى «فرضيات عمل» وليس خطة للتنفيذ.
اللافت أن باريس عمدت إلى التدخل لدى السلطات العراقية عندما أصدرت إحدى محاكم بغداد حكماً بالإعدام على جهادية فرنسية. والمعرف أن فرنسا وضعت حداً، في الثمانينات، لحكم الإعدام وتدعو، في كل مناسبة، الدول التي ما زال فيها هذا الحكم سارياً إلى إلغائه. والمفارقة أنها مضطرة للتدخل مرتين: الأولى، لدفع العراق لقبول محاكمة جهادييها وإبقائهم على أراضيه، والثانية من أجل تجنيبهم حكم الإعدام.
لا تنفي مصادر رسمية فرنسية وجود «تواصل وبحث» بين باريس وبغداد بشأن هؤلاء المتطرفين، لكنها تنفي التوصل إلى اتفاق، وتعتبر أن الطرف العراقي يريد اتفاقاً عاماً مع الدول الغربية المعنية بهذه المسألة. أما على المستوى الثنائي، فإن باريس وبغداد توصلتا إلى بلورة «خريطة طريق لشراكة استراتيجية» بمناسبة زيارة عبد المهدي للعاصمة الفرنسية. ومن بين ما تنص عليه هذه الخريطة التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» تعزيز التعاون الأمني، ويمكن إدراج «المقابل» الذي تقبل فرنسا بتقديمه للعراق في إطاره.


مقالات ذات صلة

تركيا: استضافة لافتة لرئيس وزراء كردستان ورئيس حزب «حراك الجيل الجديد»

شؤون إقليمية إردوغان مستقبلاً رئيس وزراء إقليم كردستاني العراق مسرور بارزاني (الرئاسة التركية)

تركيا: استضافة لافتة لرئيس وزراء كردستان ورئيس حزب «حراك الجيل الجديد»

أجرى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مباحثات مع رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني، بالتزامن مع زيارة رئيس حزب «حراك الجيل الجديد»، شاسوار عبد الواحد

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا جنود ماليون خلال تدريبات عسكرية على مواجهة الإرهاب (أ.ف.ب)

تنظيم «القاعدة» يهاجم مدينة مالية على حدود موريتانيا

يأتي الهجوم في وقت يصعّد تنظيم «القاعدة» من هجماته المسلحة في وسط وشمال مالي، فيما يكثف الجيش المالي من عملياته العسكرية ضد معاقل التنظيم.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي مقاتلان من الفصائل الموالية لتركيا في جنوب منبج (أ.ف.ب)

تحذيرات تركية من سيناريوهات لتقسيم سوريا إلى 4 دويلات

تتصاعد التحذيرات والمخاوف في تركيا من احتمالات تقسيم سوريا بعد سقوط نظام الأسد في الوقت الذي تستمر فيه الاشتباكات بين الفصائل و«قسد» في شرق حلب.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الولايات المتحدة​ علم أميركي يرفرف في مهب الريح خلف سياج من الأسلاك الشائكة في معسكر السجن الأميركي في خليج غوانتانامو (د.ب.أ)

بايدن يدفع جهود إغلاق غوانتانامو بنقل 11 سجيناً لعُمان

أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها نقلت 11 رجلاً يمنياً إلى سلطنة عُمان، هذا الأسبوع، بعد احتجازهم أكثر من عقدين من دون تهم في قاعدة غوانتانامو.

علي بردى (واشنطن )
أميركا اللاتينية شرطة فنزويلا (متداولة)

السلطات الفنزويلية تعتقل أكثر من 120 أجنبياً بتهم تتعلق بالإرهاب

أعلن وزير الداخلية الفنزويلي ديوسدادو كابيلو، الاثنين، أن السلطات اعتقلت أكثر من 120 أجنبياً بتهم تتعلق بالإرهاب، عقب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها.

«الشرق الأوسط» (كاراكاس )

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.