«مستحيل أن تتخلى أُم عن طفلها حتى ولو أنجبته من عدوها»، تقول سما*، وهي تحتضن جورب صغيرتها خديجة*، التي تركتها في مدينة الرقة السورية حين فرّت إلى العراق بمساعدة عناصر «حزب العمال الكردستاني».
«تعرضت للبيع والشراء ثلاث مرّات»، تستذكر سما تنقلها بين «بورصة» «داعش» في الرقّة لمدة ثلاث سنوات (2014 - 2017). «مالكوها» الثلاثة اعتدوا عليها منذ كانت في السابعة عشرة. لمدة عامين، ظلّت هذه الشابة رهن «حيازة» أبو حفص (أربعيني العمر، مصري)، أنجبت خلالهما طفلتها عام 2015 لتتضاعف مأساتها: «لا أعرف لها أبا».
تقول سما وهي تبكي: «فكّرت في عائلتي كيف يكون موقفهم أمام الناس في حال عدت إلى منطقتي (مجمع خانة صور - شمال جبل سنجار)، ومعي طفلتي التي أنجبتها من عدو».
- نبذ الأطفال
مأساة سما وابنتها تتكرر مع مئات الإيزيديات، اللواتي تعرضن لاستعباد واغتصاب ممنهج بين عامي (2014 - 2017). يوثّق هذا التحقيق معاناة سبع مُحررات تشتّت أطفالهن دون عنوان أو وثائق، بعد أن أنجبن من عناصر «داعش».
معظم الأطفال - بين سن الفطام ويزيد قليلا - إما تركوا في مناطق «داعش» بسبب صدود مجتمع الأمهات شبه المغلق أو قتلوا مع أمهاتهم أثناء فرارهن. ومن أعيد منهم رفقة أمهاتهم يواجهون الآن عزلا مجتمعيا وحرمانا من الأوراق الثبوتية، في خرق للدستور وقانون الجنسية العراقي.
وعادت 13 سيدة إيزيدية بأجنّة، وهي تنتظر أيضا مصيرا مجهولا، بعدما رفضت المغتصبات مخرج الإجهاض لمحو آثار الاستعباد والنخاسة من الذاكرة. وهكذا بات الأطفال ضائعين بين أمهات عاجزات وآباء مجهولين. فبينما يرفض وجهاء استيعابهم تحجم وزارة الداخلية عن منحهم وثائق ثبوتية.
- عُرف وقانون
مديرة التعليم الابتدائي في وزارة التربية والتعليم شهرزاد مصطفى تقول إن الوزارة تعمل مع وزارة الداخلية لإثبات نسب هؤلاء الأطفال، من خلال إحالتهم إلى لجان تقدير سن في وزارة الصحة. على أن مصطفى تشرح أن هذا الجهد لم يتوصل حتى الآن إلى إثبات أي من حالات النسب بسبب الاختلاف بين خلفيتي الأم والأب، ونبذ المجتمع الإيزيدي للأطفال. ولم يستقبل قطاع التعليم الابتدائي حتى الآن أي أطفال من أم إيزيدية وأب «داعشي» لأنهم لم يصلوا إلى السن القانونية للالتحاق بالمرحلة الابتدائية؛ وهو ست سنوات، بحسب ما تشرح.
«الإيزيديون لا يقبلون أن ينضم إليهم أفراد جدد، لأن الإيزيدي يصبح إيزيديا بالولادة فقط من أب وأم إيزيديين»، بحسب المسؤول الإيزيدي في العراق شيروان إسماعيل. ويطالب إسماعيل بحلول بديلة.
- مأساة مضاعفة
تقطن سما مع شقيقاتها الثلاث، نهلة* 25 عاما، وزبيدة* 23 عاما، وعبير* 27 عاما، وأبيها سالم دلكاني* في خيمة صغيرة (في مخيم إيسيان - محافظة دهوك). يقول دلكاني إن بناته الثلاث أنجبن أطفالا بعدما تعرضن للاغتصاب، كما حدث مع سما، ثم تركنهم في مناطق سيطرة «داعش». ويشرح الجد قسريا: «ونحن بوصفنا مجتمعا إيزيديا لا نقبل طفلا نسله (داعش)، أو حتى من خارج الإيزيديين... لا نقبل الغرباء». ويؤكد دلكاني أن «داعش» خطفت 71 شخصا من عائلته، مصير 41 منهم لا يزال مجهولا.
بعد اجتياح «داعش» لمدن شمال العراق، نزح 260 ألف إيزيدي إلى مناطق أخرى متفرقة بالعراق؛ مثل إقليم كردستان، فيما هاجر مائة ألف آخرون من إجمالي 550 ألف نسمة؛ عدد الإيزيديين قبل المأساة، بحسب إحصاء المديرية العامة للشؤون الإيزيدية في وزارة أوقاف حكومة كردستان.
- غياب الرصد
لا يوجد إحصاء رسمي بعدد أطفال «داعش» من أمهات إيزيديات. لكن تقديرات محافظة بغداد، وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والمفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، تتوافق حول إيداع 80 طفلا دور رعاية. من بين هؤلاء الأطفال أربعة رفقة أمهاتهم، اللواتي رفضن التخلّي عنهم مقابل الاندماج مجددا في المجتمع الإيزيدي.
في موازاة ذلك، تحتجز السلطات العراقية أمهات أجنبيات مع أولادهن، بعدما التحقن بتنظيم داعش خلال استيلائه على الموصل ومحيطها. معد التحقيق اطلع على مراسلات تطلب فيها دائرة الإصلاح العراقية قسم الحماية القصوى من محافظة بغداد نقل 60 طفلا من أمهات أجنبيات وآباء «داعشيين» من سجن العدالة 1و2، وسجن الحماية القصوى في الكاظمية إلى دور رعاية، دون ذكر أسمائها في محافظة بغداد، فعلا تم نقل الأطفال مع أمهاتهم إلى الدور.
تصنف الجهة الإيزيدية في العراق الأطفال ثلاث فئات: الأولى تضم من تخلّت عنهم أمهاتهم في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم «وهم العدد الأكبر»، والفئة الثانية تشمل من قتلوا أثناء المعارك فيما أُدخل عدد مع أمهاتهم إلى دور رعاية لعدم تقبّل الأمهات التخلي عنهم مقابل الانخراط مجتمعيا.
يبلغ عدد الإناث المُحررات من قبضة «داعش» 2141، بينهن 976 قاصرا. ويشكّل هذا الرقم 60 في المائة من اللواتي خطفن ولم يعدن، وعددهن 3548، بحسب دائرة شؤون الإيزيديين.
- ملف معلق
شيروان إسماعيل المسؤول الإيزيدي في العراق يؤكد أنهم لم يتوصلوا حتى الآن إلى حلول كفيلة بالتعامل مع هؤلاء الأطفال.
من جانبه، يقول مصدر بوزارة الداخلية العراقية إن الحكومة لا تستطيع التعامل الآن مع ملف هؤلاء الأطفال، نظرا لحساسيته وتعقيداته من الناحيتين الأمنية والحساسية بالنسبة للإيزيديين أنفسهم. وبناء على ذلك: «لا تستطيع الوزارة تسجيل الأطفال ومنحهم وثائق ثبوتية مثل شهادة الميلاد وغيرها»، حسبما يضيف المصدر الذي رفض ذكر هويته.
الطرح ذاته يؤكده مدير دائرة الشؤون في مديرية الجنسية العامة العميد كمال عبد الأمير، وذلك في اتصال هاتفي أجراه معد التحقيق معه في 23 مارس (آذار) الماضي.
المحامي أمير الدعمي يرفض تبرير مصدر وزارة الداخلية، ويستشهد بالدستور وقانون الجنسية العراقي: «ما ساقه المسؤول مخالف للمادة 18 من نص الدستور العراقي؛ أولاً: الجنسية العراقية حقٌ لكل عراقي، وهي أساس مواطنته؛ ثانياً: يعدُ عراقياً كل من ولد لأبٍ عراقي أو لأُمٍ عراقية، وينظم ذلك بقانون». ويؤكد الدعمي إمكانية «تسجيل الأطفال في الولادات من جانب أمهاتهم باعتبار أنهم عراقيون بحسب ما ينص الدستور». كما يستشهد بالمادة 19 من قانون الولادات والوفيات رقم 148 لسنة 1971، التي تنص على «تسجيل الأطفال واللقطاء منهم»، بعد أن تمنحهم المحكمة لقبا عائليا.
ويؤكد أيضا أن عدم اعتراف الدولة بالأطفال يخالف نص المادة الثالثة من قانون الجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006.
- زواج قسري
كانت سهيلة في الرابعة عشرة من العمر حين خطفها عناصر من «داعش» في جبل سنجار قبل ثلاث سنوات. عن تلك المأساة تقول سهيلة لمعد التحقيق: «عُزلت النساء عن الرجال ونقلن في الرابعة فجرا، إلى (دائرة أحوال سنجار)؛ وهو مبنى حكومي كان يتبع حكومة بغداد». ثم نقلوا النساء بعد ذلك إلى «مبنى يسيطر عليه التنظيم يسمى (قاعة كلكسي)؛ وهو مزاد لبيع النساء الإيزيديات»، حسبما تستذكر بألم.
وتضيف أنها «تعرضت لاعتداء من ثمانية عناصر لـ(داعش)، على مدى ثلاث سنوات» منذ لحظة خطفها حتى تحريرها قبل عامين: «كنت أباع وأشترى في سوق النخاسة بين أفراد التنظيم الثمانية»، تستطرد وهي تبلع ريقها بصعوبة لتتماسك عن البكاء.
تستذكر سهيلة آخر رجل اشتراها وأنجبت منه. شخص يدعى أبو طيبة عراقي الجنسية تزوج منها، وصاغ عقد زواج بمحكمة التنظيم في مدينة الموصل.
مفوض المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالعراق بشرى العبيدي تقول إن مجلس الوزراء العراقي شكّل قبل ثلاث سنوات لجنة في دائرة شؤون المواطنين والعلاقات العامة التابعة لمجلس الوزراء، لوضع خطط من أجل إعادة تأهيل الإيزيديات الناجيات نفسيا وجسديا. على أن العبيدي تؤكد أن الخطّة «ماتت» قبل مساعدة نسوة «لا ذنب لهن» لكونهن أجبرن على إنجاب أطفال في ظروف قسرية. الخطّة التي صودق عليها وأدرجت ضمن أولويات دائرة تمكين المرأة في الأمانة العامة لمجلس الوزراء تتضمن مسألة استخراج وثائق رسمية للأطفال، بحسب العبيدي.
- زوجة ثانية
فايزة* (31 عاما) وفرح* (23 عاما) مرّتا بتجارب مماثلة. تقول فايزة: «كنا نعيش لدى التنظيم في ظروف سيئة بسبب نقص الطعام. لم تستطع النساء إرضاع أطفالهن». أمّا فرح* فتقول إن «من سباها تزوجها قسرا وأنجب منها طفلًا، رغم أنه متزوج من أخرى أجنبية ولديه منها خمسة أطفال». تتوقف قليلا ثم تستذكر بحرقة: «أصبحت في حيرة من أمري؛ هل أندم على ترك طفلتي مع عدوي رغم اشتياقي له، أم أستقدمها معي إلى العراق وأعيش معها في دار رعاية الأطفال؟». تحدثت فرح* مجدّدا لمعد التحقيق حين التقاها 10 فبراير (شباط) في مخيم «كندالا» على بعد خمسة كيلومترات من الحدود السورية.
رياض العضاض رئيس مجلس محافظة بغداد يقول إن الحكومة العراقية غير قادرة حاليا على توفير رعاية كاملة للأطفال الموجودين بدور الرعاية؛ من بينهم أطفال «داعش» من أمهات إيزيديات. ويرجع العضاض السبب إلى أن البنية التحتية متهالكة وقديمة ولا تستوعب أعدادا كبيرة.
ويضيف العضاض أن الأطفال يقيمون منذ عامين بدور رعاية (رفض ذكر اسمها) تتسع الدار الواحدة لـ25 طفلا، علما بأن أعمار نزلائها من أمهات إيزيديات تتراوح بين عام وعامين؛ دون سن الدراسة القانونية (6 سنوات).
«إيزيديات قررن برضى منهن تسليم أطفالهن لجهات مثل (دور) الرعاية، ظنا منهن أنها ستحافظ على الأطفال. وهناك مُحررات حوامل (13 سيدة)، بينهن سبع يحتفظن بحملهن ويتلقين مساعدة من منظمة إغاثة الإيزيديين، لحماية الجنين لحين الإنجاب والنظر فيما إذا كانت ستحتفظ الأم بمولودها أم لا. ست من السيدات تخلصن من الجنين، بحسب ما وثقته المنظمة الإيزيدية لإغاثة الإيزيديين». وفقا لحسام عبد الله مدير المنظمة.
رئيسة هيئة رعاية الطفولة، التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، عبير الجلبي، تفيد في تصريح نشرته على موقع الوزارة بأنها تعمل مع جهاز الأمن الوطني على رعاية الأطفال المشردين وكريمي النسب في الموصل في دور رعاية. وتشير الجلبي إلى أن الوزارة ومنظمة «يونيسيف» اتفقتا على أن تقوم الأخيرة بإعادة تأهيل مباني الدور الإيوائية في الموصل لاستقبال الأطفال.
الدستور بالمادة 30، وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، ينصّان على حق جميع أطفال العراق في بيئة آمنة ووثائق ثبوتية. على أن مصير أطفال من آباء «داعشيين» وأمهات إيزيديات لا يزال في مهب التشرد والأميّة مستقبلا وسط غياب الحلول بسبب نظرة الدولة إلى الملف برمته على أنه شائك وغير قابل للحسم.
> أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية»، (أريج)، وبإشراف الزميل سعادة عبد القادر.
(*) تعني اسماً مستعارا.