عبد الله السليمان الحمدان... الوزير السعودي الأشهر في الدولة الناشئة

كتاب جديد يتناول سيرته وتاريخه

عبد الله السليمان الحمدان... الوزير السعودي الأشهر في الدولة الناشئة
TT

عبد الله السليمان الحمدان... الوزير السعودي الأشهر في الدولة الناشئة

عبد الله السليمان الحمدان... الوزير السعودي الأشهر في الدولة الناشئة

يعد الشيخ عبد الله السليمان الحمدان أحد الشخصيات التي عاصرت مرحلة توحيد وتأسيس السعودية الحديثة، وعرف عنه أنه الوزير الأشهر في البلاد، وسجل اسمه كشخصية ثرية، ووردت سيرته في العديد من المصادر والمؤسسات البحثية داخل السعودية وخارجها، ونال شهرته بحكم معايشته مراحل البناء في الدولة السعودية الثالثة.
وقاد هذا النجاح والحضور الباحثين إلى الحديث عن شخصيته، ومنهم الدكتور عبد الرحمن بن سعد العرابي، في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان: «عبد الله السليمان الحمدان... سيرة وتاريخ»، الذي أشار فيه إلى أن شخصية عبد الله السليمان الحمدان تمثل جزءاً هاماً ومؤثراً من التاريخ الوطني السعودي، وأن الشخصية التي تناولها «ليست واحدة، بل مكونة من شخصيات عدة، ففي الجانب الرسمي كان مسؤولين في مسؤول، ووزراء في وزير، وفي الجانب الذاتي هو كفاءات في كفاءة وقدرات في ذات واحدة، ومن الجانب الإنساني أناس في إنسان».
لقد حفلت سيرة وتاريخ وزير المالية الأشهر في الدولة الناشئة بالكثير من المحطات والأعمال اللافتة، وقد برز اسمه في اتفاقيات ومفاوضات اكتشاف النفط وتصديره التي وقعتها السعودية مع الشركات العالمية، إضافة إلى إنشاء التنظيمات الإدارية وتحولها إلى وزارات، وتوحيد الإدارة المالية بإنشاء وزارة المالية، وسك العملة وتأسيس مؤسسة النقد، كما سجل حضوراً في أدوار تنموية في البلاد الحديثة سواء أثناء عمله، أو بعد استقالته والمتمثلة في: مشروع الخرج الزراعي، وإنشاء مينائي جدة والدمام، وسكة حديد الرياض، كما كانت له جهود لافتة بنشر التعليم من خلال دعم مدرسة الصحراء في مسيجيد في منطقة المدينة المنورة التي تأسست عام 1946م، وهي أول مدرسة لأبناء البادية لإلحاقهم بالتعليم النظامي. وكان له حضوره أيضاً في توسعة المسجد النبوي بعد أن أصدر الملك عبد العزيز بياناً في 1949. يبشر الشعب فيه اعتزامه القيام بتوسعة الحرمين الشريفين، بدءاً من المسجد النبوي، وأصدر أوامره إلى الأمير سعود ولي العهد آنذاك، والأمير فيصل نائب الملك في الحجاز للإشراف على المشروع، كما كلفه الملك المؤسس بتوقيع عقد التأسيس لإذاعة لاسلكية تقام في بلاده الناشئة في منتصف 1949.
وبعدها بأشهر أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بتأسيس نظام إذاعي في بلاده وتم اختيار جدة لتكون مقراً لأول نظام إذاعي منشأ، وألحقت الإذاعة عام 1952. بوزارة المالية تحت مسمى إدارة الحج والإذاعة، حيث كانت الأولوية لنقل مناسك الحج إذاعياً لإسماعها إلى العالم، وبإشراف من وزير المالية الحمدان، وعندما أصدر الملك عبد العزيز عام 1934م، أمراً بإنشاء «وكالة الدفاع»، عين الحمدان وكيلاً لها وربطها بوزارة المالية، إضافة إلى أعمال أخرى، وعدت وكالة الدفاع مرحلة متقدمة لبناء قوة وتنظيمات عسكرية غير تقليدية.
ووافق الملك عبد العزيز على مقترح وزيره عبد الله الحمدان بتكوين شركة أميركية - إنجليزية لاستخراج المعادن، ووافق الملك على تأسيس شركة للمعادن باسم «نقابة التعدين العربية السعودية»، حظيت بدعم أميركي وبريطاني إلى جانب الحكومة السعودية، وتم توقيع اتفاقية التعدين عام 1934م، وبدأ الإنتاج من خام الذهب والفضة المركزة عام 1939م، بعد سنوات من أعمال البحث والتنقيب في منجم الذهب المعروف بـ«المهد».
وسجل الوزير الحمدان جهوداً في تأمين المياه من سكان جدة، بعد أن عانت المدينة من ندرة المياه لعدم وجود مصادر مياه صالحة للشرب والاستخدام البشري سوى ما تجود به مياه الأمطار وهي نادرة جداً، حيث كان السكان يقيمون في منازلهم مخازن لتلك المياه أطلق عليها «صهاريج»، وتم حل هذه المشكلة حيث أمر الملك عبد العزيز وزير ماليته بجلب المياه إلى جدة مهما كلفت من مبالغ ونفقات وفي أقصر وقت من خلال مشروع «عين العزيزية».
وبعد استقالته عام 1954. وخروجه من دائرة العمل الحكومي واصل الوزير عبد الله الحمدان جهوده لخدمة وطنه ومواطنيه من خلال العمل بمفرده لإنشاء أول مصنع للإسمنت في الأراضي السعودية احتضنته مدينة جدة كما حول السليمان آماله وحرصه على رؤية المدن السعودية تضم فنادق عالية المستوى إلى واقع، من خلال إنشاء أول فندق حديث يقام في أرض السعودية أطلق عليه فندق «بنك مصر»، ثم أسس فندق قصر الكندرة الذي عد آنذاك أول فندق من الدرجة الأولى في السعودية، ثم ألحقه بتأسيس فندق بالاس، ثم فندق البساتين مشكلاً بتلك البدايات لصناعة فندقية في كافة أنحاء السعودية، كما ساهم الحمدان بتحويل فكرة إنشاء جامعة في جدة إلى واقع من خلال إنشاء جامعة الملك عبد العزيز الأهلية، حيث تبرع بمزرعته شرق مطار جدة وقصوره فيها لتصبح مباني للجامعة وتخرج الفكرة من طور الخيال إلى عالم الحقيقة، كما كانت له جهود سابقة من خلال إنشاء مصنع كسوة الكعبة، وإلغاء الرسوم عن الحجاج وإنشاء أول ساعة للتوقيت بنيت حول المسجد الحرام في 1933. بأمر من الملك عبد العزيز تشاهد من مسافات بعيدة وتسمع دقاتها ممن هم حول المسجد والبعيدين عنه.
وبالإضافة إلى هذا الحضور للوزير الحمدان في النواحي التنموية في البلاد الناشئة كان له حضور سياسي أثناء مراحل التأسيس بإنجاز المهمات التي أوكلها إليه الملك المؤسس والتي تتعلق بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية الحياة اليومية داخل المناطق التي كانت هدفاً للملك عبد العزيز لضمها إلى دولته.
وقد نال الراحل الذي توفي في جدة عام 1965م، عن عمر يناهز الثمانين عاماً ثقة الملك عبد العزيز الذي قال عنه في أكثر من مناسبة: «عبد الله السليمان عصابة رأسي»، كما نال ثقة أبناء الملك المؤسس وأحفاده.


مقالات ذات صلة

مبادرة سعودية لرصد محتويات المكتبات العامة ورقمنتها... وتفعيل دورها الثقافي

يوميات الشرق خطة شاملة بدأت وتمتد لـ5 سنوات تعنى بتطوير حالة المكتبات العامة في السعودية (واس)

مبادرة سعودية لرصد محتويات المكتبات العامة ورقمنتها... وتفعيل دورها الثقافي

بدأت «هيئة المكتبات» السعودية مشروعاً لإحصاء محتويات أكثر من 40 مكتبة عامة في مختلف مدن ومناطق المملكة؛ لجرد وفرز محتوياتها من الكتب ومصادر المعلومات.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون سعيد الطنيجي: «النشر الرقمي» يتصدر مستقبل توزيع الكتب

سعيد الطنيجي: «النشر الرقمي» يتصدر مستقبل توزيع الكتب

في هذا الحوار، يتحدّث المدير التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية، سعيد حمدان الطنيجي لـ«الشرق الأوسط» عن مشروعات المركز، وخاصة في مجال الترجمة

ميرزا الخويلدي (أبو ظبي)
ثقافة وفنون «الحب الأول»... رواية ترسم صورة قاتمة للعواطف الجياشة

«الحب الأول»... رواية ترسم صورة قاتمة للعواطف الجياشة

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «الحب الأول» للكاتب الروسي الأشهر إيفان تورجنيف (1818 - 3 188) التي تعد رغم حجمها الصغير نسبياً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب أنسي الحاج

أنسي الحاج... الصمت الناطق

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

وثَّق الزميل فؤاد مطر أحد كتَّاب الرأي في صحيفة «الشرق الأوسط» مقالاته وحواراته على مدى 55 عاماً بدءاً بصحيفة «النهار» اللبنانية وختاماً بصحيفة «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» (بيروت)

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.