منذ قيام الثورة عام 1979 بقي النظام الإيراني مشكلة لمواطنيه في الداخل ومصدر قلق لجيرانه وللعالم. حصدت تلك الثورة ضحايا كثيرين من الإيرانيين، أكثرهم كانوا من حلفائها وممن راهنوا على قدرتها على تغيير الوضع الذي كانوا يشكون منه في أيام الشاه. صدقوا الوعود واعتقدوا أن رجالاً جاءوا ملتحفين بالشعارات يمكن أن ينقذوا إيران ويطلقوا الحريات التي كانت الشكوى من غيابها في الزمن السابق. بسرعة انهار ذلك الرهان مثلما انهار رهان بعض دول المنطقة التي اعتقدت أن صفحة جديدة من العلاقات مع طهران يمكن أن تفتح، فإذا بمشروع «تصدير الثورة» يتحول إلى مدخل لتدخل طهران في شؤون هذه الدول ولوضع علامات حسن السلوك لأنظمتها.
إيران اليوم أمام محطة مفصلية. لا الاتفاق النووي قادر على حماية وضعها الاقتصادي، بعدما تخلت عنه إدارة ترمب وتبين أن طهران اختارت السير فيه أيام إدارة باراك أوباما لتصرف أنظار الغرب عن مشاريع زعزعتها لاستقرار المنطقة، ولا الصراع الداخلي مقبل على الحسم، في ظل احتدام التنافس على خلافة خامنئي، التي يمكن أن تفتح الباب أمام كل الاحتمالات، التي تتراوح بين النزاع الداخلي كما حصل في الانتخابات الرئاسية عام 2009 وصولاً إلى احتمال نهاية «ولاية الفقيه».
في هذه الصفحة عرض لأزمة إيران مع نفسها ومع جيرانها والعالم، من خلال إلقاء الضوء على الوضع الداخلي ودور إيران في المنطقة، وما يمكن أن تحصل عليه من الاتفاق النووي بعد انسحاب إدارة ترمب منه.
يثير الوضع الداخلي الإيراني ومستقبل النظام السياسي تساؤلات وقلقاً كبيراً بين الإيرانيين في ظل الصراع بين أجهزة الدولة على «مصلحة النظام» وهو ما يعمق الشكوك إزاء قدرة الحكومة الإيرانية على مواجهة التحديات بعد انسحاب دونالد ترمب من الاتفاق النووي.
ويرى الصحافي والمحلل السياسي رضا عليجاني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «عدة عوامل أساسية يجب النظر فيها بعيدا عن مبالغة أو تبسيط أو أنصار النظام في تحليل الوضع الداخلي الإيراني».
فمستقبل إيران يحدده الاقتصاد الذي ينبغي فهمه على ضوء ثلاثة محاور، أبرزها سياسات المرشد علي خامنئي صاحب اليد العليا في الدولة المنقسمة بين ثنائية «الولاية» و«الجمهورية». ويشير عليجاني إلى عدة أسباب ساهمت تدريجيا في قلب الطاولة الاقتصادية على حسن روحاني وبينها الخلاف في التصور بين طرفي الاتفاق النووي، فالرئيس الإيراني كان يعتقد أن تقتصر المفاوضات على الملف النووي وعبره يمكن تقليل العقوبات، وأن الغربيين سيقبلون بغض الطرف عن سلوك إيران ودورها الإقليمي، أما الطرف الغربي فكان يأمل بأن تكون المفاوضات النووية حلقة أولى من المفاوضات التالية لإحداث تغيير في سلوك طهران.
عليجاني يقول إن الدبلوماسية الإيرانية دخلت «مرحلة معقدة ومأزقاً» مع انتخاب ترمب الذي عمل على تدمير إرث سلفه باراك أوباما. موضحا أن تراجع روحاني عن وعود السياسة الخارجية والتنازل للمرشد عقّد مهمة وزير الخارجية محمد جواد ظريف. وفي المقابل، يرفض ترمب تقديم تنازلات لإيران ويراهن على أن المفاوضات تمر عبر إضعاف الاقتصاد الإيراني للوصول إلى تغيير جذري في سلوك طهران.
ويشبه عليجاني سياسات خامنئي من جهة وترمب وحلفائه من جهة أخرى بـ«حجري رحى تدهس الاقتصاد والمواطن الإيراني»، ويرجح سيناريوهين؛ الأول: التعايش مع الظروف الحالية، الثاني: إمكانية عودة احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017 التي اندلعت في أكثر من ثمانين مدينة إيرانية. وهذا يفسر محاولة الحكومة بيع مليون برميل نفط بهدف تشغيل موارد النفط لمواجهة الضغوط.
وينتقد عليجاني الذي يميل إلى فكرة التحول تدريجيا إلى الديمقراطية سلوك المعسكر الإصلاحي بسبب إطلاقه تحذيرات من تكرار سيناريو سوريا في إيران. ويلحظ وجود اختلاف بين المطالبين بـ«التحول التدريجي وتخطي النظام» والإصلاحيين، يكمن في فصل الدين عن نظام الحكم وإعلان نظام عرفي بينما الإصلاحيون يريدون الحفاظ على نظام الحكم الحالي.
بدوره، يرى الصحافي المستقل إيرج مصداقي أن الخلافات بين أجنحة النظام ليس لها تأثير في تغيير سلوك نظام «ولاية الفقيه» ويستطرد: «بعد أربعين سنة نرى الخلافات والنزاعات كانت حاضرة وأدت إلى تهميش مهدي بارزغان وأبو الحسن بني صدر وآية الله حسين علي منتظري وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي ومير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد، إلا أنها لم تؤثر على تغيير سلوك النظام لأنه كلما تقدمت زادت الأوضاع سوءا وهذه حقيقة نظام (ولاية الفقيه) الذي يمنع أي إمكانية لتغيير سلوكه». ويضيف أن «أول خطوة يتخذها النظام لإصلاح سلوكه ستؤدي إلى انهياره».
وعن الأسباب الحقيقية للخلافات يرى أن أجنحة النظام مثل «أسر المافيا على الرغم من التضاد والخصومات الشخصية، فلديها مصالح مشتركة». منوها بأن الأجهزة المتعددة في النظام لا يمكنها أن تحل محل الأجهزة الأساسية في صنع القرار وإنما تتحول نفسها إلى مشكلة. على سبيل المثال فإن مجلس تشخيص مصلحة النظام أنشئ لحل الخلافات ولكنه الآن تحول إلى مشكلة وهو ما دفع خامنئي إلى تأسيس لجنة لحل الخلافات بين رؤساء البرلمان والقضاء والحكومة.
ومع أن مصداقي يؤكد أنه «إصلاحي ويريد الخيارات الأقل كلفة» فهو يقول إنه «ليس متوهما ولا يريد خداع نفسه وخداع الناس» ويرى أن من الصعب تصور أي إصلاح في ظل وجود نظام «ولاية الفقيه» لأن الإصلاحات الواقعية في النظام «تعادل إسقاطه»، ولذا يرجح أن النظام لن يتجه لخيار الإصلاحات، متابعا أن «التحولات الاجتماعية تشبه الزلزال والتسونامي في إيران... وحدوث الزلزال الاجتماعي مؤكد لكن لا يمكن التكهن بتوقيته»، ثم يقول: «ما لم يوجد رمز لتغيير يجمع الناس والقوى السياسة فسيستمر النظام حتى لو تحولت البلاد إلى خراب».
في المقابل، يعتقد أستاذ العلوم السياسية بجامعة تيلبورغ الهولندية، عمار ملكي أنه كلما زادت الضغوط الخارجية تتراجع عادة الخلافات داخل النظام بين التيارين الإصلاحي والمحافظ. وعلى هذا الأساس يشير إلى اقتراب الرئيس روحاني من أدبيات «الحرس الثوري» والتيار المتشدد في فترة رئاسته الثانية، ويتابع: «على أي حال وإن كنا نرى خلافا في الظاهر لكن الطرفين أجمعا على ضرورة العمل معا للحافظ على النظام من الضغوط»، وذلك نتيجة مخاوف من أن تؤدي الضغوط الخارجية إلى استياء شعبي يهدد كيان النظام.
ويعتقد ملكي الذي يدير حاليا مركز استطلاع رأي إيرانيا أن الخلافات الداخلية تعود إلى خلافات التيارين على مصادر القوة والثروة في البلاد نتيجة رغبة أحد الطرفين بالسيطرة على الحصة الكبرى وهو ما يتمثل في التيار المحافظ. وفي المقابل فإن التيار الإصلاحي الذي يسيطر على الحكومة يحاول الحفاظ على موقعه من ناحية ويخشى انهيار سلته الانتخابية من ناحية أخرى. ويلخص ملكي أن «الخلاف لم يكن قط حول أصل النظام إنما حول قضايا من هذا النوع».
ومن ثم يقف عند النموذجين؛ الصيني الذي يسعى التيار الإصلاحي إلى تطبيقه، والنموذج الكوري الشمالي الذي يميل التيار المحافظ إلى تطبيقه، مشددا على أن المحافظين يعتقدون أنه يمكن التوجه إلى النموذج الكوري وقطع العلاقات مع العالم والغرب لتأمين بقاء النظام، في حين يعتقد الإصلاحيون أنه بواسطة النموذج الصيني يمكن تطبيع العلاقات مع الأوروبيين في غياب الحريات السياسية والديمقراطية وهو ما يضمن بقاء النظام.
ملكي يستبعد إمكانية الإصلاح في إيران على ضوء سجل التيار الإصلاحي على مدى العقدين الماضيين لأسباب عدة؛ منها تعذر إصلاح بنية النظام، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن التغيير يمكن أن ينال رضا المجتمع الإيراني والتغيير الجذري الذي يشمل حذف مواد من الدستور الإيراني التي تجعله دستورا ديمقراطيا مثل «ولاية الفقيه»، ثم يلفت إلى أن التيار الإصلاحي يشعر بأنه «إذا تحركت إيران نحو ديمقراطية واقعية سيخسر قاعدته الشعبية لأن التيار الإصلاحي سيكون الخيار الرابع أو الخامس للإيرانيين إذا جرت انتخابات حرة».
ومن ثم يقول إن العلمانية السياسية مطلب شعبي ولكن الإصلاحيين لا يملكون إمكانية التغيير ولا الرغبة فيه.
وبشأن الأفق الإيراني في العام الإيراني الجديد يتوقع ملكي أن يؤدي تدهور الأوضاع المعيشية والعقوبات إلى مزيد من الضغط على الإيرانيين، ويرجح أن تشهد إيران احتجاجات متقطعة وربما متواصلة في العام الجديد. وأن يكون هذا العام مصيريا للنظام لأنه سيشهد انتخابات برلمانية. ويشبه الوضع الحالي بظروف عام 1989 الذي شهد وفاة الخميني وإعدام آلاف السجناء السياسيين بالتزامن مع تولي خامنئي منصب المرشد. من هنا ينظر للانتخابات البرلمانية المقررة في فبراير (شباط) المقبل بأنها تحظى بأهمية لقياس وزن المشروعية التي يحظى بها النظام بعد احتجاجات شهدتها أكثر من ثمانين مدينة في بداية عام 2018.
من جانب آخر، يعتقد ملكي أن تشديد العقوبات وقضية النفط قد تكونان مؤثرتين على اتساع الاحتجاجات، وهو ما يكون بمثابة مشكلة كبيرة قد تدفع النظام لاستخدام القمع أو تكرار ما شهدته سوريا، لكن هناك قلقاً على المستوى العالمي من تكرار أحداث سوريا في إيران.
أخيرا يقول العضو في مجموعة «فرشغرد» المعارضة شروان فشندي، إن النظام الإيراني وصل إلى إفلاس شامل في السياسة والاقتصاد بعد أربعين سنة من الثورة. مشددا على أن الاقتصاد يعاني من مشاكل هيكلية ومتزايدة قبل العقوبات الأميركية التي بدأت في أغسطس (آب) الماضي. ويشير إلى أن العرض النقدي زاد بشكل مطرد ما أدى إلى إفلاس البنوك الحكومية والبنوك الخاصة وصناديق التقاعد أو جعلها على حافة الإفلاس. لكن العقوبات الأخيرة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ووجهت الضربة النهائية للاقتصاد شبه المفلس.
ويقول فشندي، إن «المأزق السياسي يتضح أكثر مع كون خامنئي في حدود الثمانين وسط غياب خليفة له يحظى بقبول الناس أو جاذبية داخل النظام. كذلك فإن قسماً كبيراً من الاقتصاد الإيراني في يد (الحرس). و(الحرس) قبل أن يكون ذراعا عسكرية للنظام بات مافيا حقيقية تغطيها الحكومة الإيرانية. وليس واضحا إلى متى تتمكن المافيا هذه من الحفاظ على قوتها بعد موت خامنئي فلا تتورط في اجتثاث دموي».
وحسب فشندي، فإن فترة الفتور التي تواجه الرؤساء بشكل تقليدي في نهاية الولاية الثانية بدأت بالنسبة لروحاني قبل أوانها، وتحديدا منذ خروج ترمب من الاتفاق النووي. ويقول، إن «غالبية الشعب الإيراني لا ترى حاليا أي اختلاف بين روحاني وخامنئي وقاسم سليماني».