فاجأ ظهور الزعيم القبائلي المتطرف (محمد) ممادو كوفا، في تسجيل فيديو، جميع المراقبين لمسار التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل. فقد عمد مؤسس زعيم جبهة تحرير ماسينا، إلى تسجيل مصور أذاعه منبرا «الرسالة» و«الزلاقة» التابعان لتنظيم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المبايع للقاعدة. ويأتي هذا الظهور الجديد، بعد أيام قليلة على إعلان فرنسا مقتل جمال عكاشة الملقب «بيحيى أبو الهمام»، الرجل الثاني بالتنظيم المشار إليه بزعامة إياد أغ غالي.
ورغم أن القوات الفرنسية أعلنت نهاية 2018، عن قتل محمد كوفا، فإن ظهوره، يشكل تحديا حقيقيا للجيش الفرنسي المتمركز بدولة مالي. ويؤشر كذلك، على الدور المحوري للصحراء، باعتبارها جغرافية وساحة للحرب، توفر للإرهابين فرصا للمناورة؛ وتسندها الإثنية، الحامية والحاضنة للمجموعات المسلحة. وهو ما يجعل من المواجهة المفتوحة التي تخوضها قوات «أفريكوم» الفرنسية؛ وجيش الساحل منذ ميلاده، يوم الأحد الثاني من يوليو (تموز) 2017 بدولة مالي، معركة، حافلة بالمفاجآت، ليس آخرها عودة محمد كوفا، من قبره. بعد ثلاثة أشهر من تأكيد جيش الساحل وأفريكوم مقتله في غارة جوية فرنسية.
الزعيم ممادو كوفا
لم يكن محمد أو ممادو كوفا، شخصية قديمة التطرف؛ بل على العكس من ذلك، ظل الرجل شيخا ومعلما وواعظا من منطقة موبتي. نشأ كوفا الذي ينتمي إلى شعب الفولاني في مدينة نيافونك بوسط مالي وحمل لواء الاعتدال، بنكهة تصوفية وفقه سني مالكي. وقد ساعدته خبرته في مجال التعليم والتدريس التي تجاوزت 40 سنة، على الإلمام بالمنطقة وطبيعة سكانها. كما ساعدته لغته الفولانية على التحول لزعيم ديني حقيقي، لتجمع سكاني ضخم، يمتد توطينه بين غينيا ومالي إلى النيجر، والكونغو وصولا للسودان وغيره من دول غرب القارة الأفريقية.
ولعب ممادو كوفا دورا مهما في النشاط الدعوي بالقارة؛ حيث ساهم منذ أواخر التسعينات، من القرن 20 في تمويل وتأسيس المساجد والمدارس في كل من: الجزائر، وموريتانيا وليبيا، ومالي.
بدأ الرجل يتحول تدريجيا نحو التطرف بعد زيارات شملت دولا شرق أوسطية وأفغانستان. ويبدو أن الفترة ما بين 2008-2009. كانت منعطفا حقيقيا في حياة الرجل؛ خاصة أن الرجل الفولاني متأثر بفكر جماعة الدعوة الباكستانية (التي أسست جيش عسكر طيبة)، والتي كانت تعرف باسم مركز الدعوة والإرشاد. وأهمها حاليا «مؤسسة فلاح إنسانيات». فقد أعلن سنة 2009 معارضته الشديدة لقانون الأحوال الشخصية المالي؛ كما تحول بعد سنة 2011 لنشر خطاب أكثر تطرفا، على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب والفيسبوك.
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتحول شمال مالي لمنطقة تجمع لتنظيمات إرهابية عدة؛ ظهرت جبهة تحرير ماسينا للمرة الأولى في يناير (كانون الثاني) 2015، بهدف «إعادة تكوين جمهورية ماسينا الإسلامية». وهي محاولة من كوفا لاستعادة تجربة إمبراطورية ماسينا القديمة، التي جمعت بين 1818 و1853 منطقة شاسعة تشمل مناطق مالي والسينغال ونيجيريا؛ وهذا المنطلق السياسي، والديني، كان وراء تأسيس جماعة موحدة لأربعة تنظيمات إرهابية بمالي سنة 2017م، أطلقت على نفسها، «أنصار الإسلام والمسلمين»، غير أن جذور تنظيم ماسينا تعود لسنة 2012. حيث تلقى الزعيم تدريبا خاصا على القتال بمنطقة تمبوكتو. وكان محمد كوفا زعيما لمجموعة غير منصهرة تماما مع أنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي. ذلك أن كوفا حافظ على نوع من استقلالية مجموعته؛ بيد أنه لم يعلن عن تنظيم مستقل إلا سنة 2015م. ليعود مرة أخرى لإعلان الاندماج مع أنصار الدين وكتيبة أمير جماعة أنصار الدين، وتنظيم جبهة الصحراء التابع لتنظيم «المرابطون» سنة 2017.
ظهرت أولى مشاركاته القتالية في 10 يناير 2013. حيث شارك كوفا في هجوم مشترك من قبل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة في الغرب الإسلامي للاستيلاء على مدينة كونا، في وسط مالي. وأعلن نفسه «سلطان كونا». إلا أن هزيمة المجموعات الإرهابية، في فبراير (شباط) 2013، دفعت كوفا للاختفاء، والعودة إلى بناء التنظيم من جديد؛ خاصة أن الرجل تحول فعليا بعد 2011 إلى مرجع روحي وفقهي عابر للتنظيمات. مما مكنه من التعاون السلس معها، في مناسبات ومناطق مختلفة من مالي.
هذه الرمزية الدينية والعرقية هي التي تفسر إعلان تنظيم «جبهة تحرير ماسينا» في أول ظهور إعلامي له عبر فيديو في 18 مايو (أيار) 2016؛ أن كتيبة ماسينا تابعة لأنصار الدين بزعامة إياد أغ غالي، أما الفيديو الذي نُشر في 2 مارس (آذار) 2017. فقد ظهر ممادو كوفا هذه المرة إلى جانب أغ غالي وغيره من القادة «الجهاديين»، فيما يعتبر شهادة ميلاد لجماعة «أنصار الإسلام والمسلمين».
مركز الإرهاب
استطاع ممادو كوفا وغيره من القيادات الفولانية الإرهابية نقل العمليات الإرهابية من شمال مالي لوسطها. فقد استأثرت هذه الدولة الفاشلة بنحو 64 في المائة من جميع الهجمات التي تعرضت لها دول الساحل الخمس من طرف الجماعات المتطرفة في عام 2018.
وتشهد مالي منذ 2015 ارتفاعا لعدد العمليات الإرهابية في منطقتي موبتي وسيجو؛ والتي انتقلت من بضع عشرات إلى نحو 150 في سنة 2018. مما يجعل مركز مالي أخطر منطقة في البلاد. ونتج عن هذا الارتفاع مقتل أكثر من 500 مدني في عام 2018. ونزوح أكثر من 60 ألفا من السكان فرارا من أعمال العنف. كما أدت العمليات الإرهابية المتزايدة إلى ارتفاع عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية في منطقة موبتي، حيث وصل لأكثر من 972000 شخص.
ورغم أن المتخصصين في قضايا الإرهاب بالساحل يعزون هذا الارتفاع في النشاطات الإرهابية لعوامل عدة؛ إلا أنهم يجمعون على أن ارتفاع العنف يرجع إلى تحالف من الجماعات المتطرفة التابعة «لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين». في عام 2018، كان هذا التنظيم وفرعه (جبهة تحرير ماسينا) مسؤولا عن نسبة 63 في المائة من جميع الأحداث العنيفة في وسط مالي وثلث العمليات التي وقعت في جميع أنحاء البلاد.
كذلك، استخدمت هذه الجماعة الإرهابية العديد من الأساليب: منها العبوات الناسفة، والتفجيرات الانتحارية، مثل الهجوم على مقر قوة الساحل المشتركة(G5) في 29 يونيو (حزيران) 2018. وتمكنت في هذه العملية من قتل مئات الجنود الماليين وأفراد من القوات الأجنبية، مثل الفرنسية والأميركية.
هذا الوضع المتردي، دفع إلى تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2423، في 28 يونيو 2018، والذي يسمح بتعزيز عمليات البعثة المتكاملة في وسط مالي، مع الإبقاء على 13289 جنديا و1920 من أفراد الشرطة. كما أطلقت مجموعة دول الساحل شراكة حكومية دولية بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، لتشكيل قوة مشتركة في عام 2017 بهدف مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
نظرًا لموقعها الاستراتيجي في وسط الساحل، تم إنشاء مقر القوة المشتركة في الأصل في سيفاري، إلا أن هجومًا مميتًا في 29 يونيو 2018 دمر البنية التحتية الجديدة وأجبر القوة المشتركة على نقل مقرها الرئيسي إلى العاصمة المالية باماكو.
كما استثمرت مجموعة دول الساحل الخمس، والاتحاد الأوروبي، والبعثة المتكاملة، والولايات المتحدة، وجهات فاعلة أخرى موارد كبيرة في تدريب وتجهيز قوات الأمن في مالي.
ورغم أن عمليات الإمداد بالجنود والسلاح لم تتوقف منذ عامي 2017 و2018. فإن محاولات الدولة لمحاصرة التنظيمات الإرهابية لم تتوقف كذلك. فقد أعلنت الحكومة المالية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عن خطة جديدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وتستهدف هذه السياسة الجديدة مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات الناشطة في وسط مالي، بهدف خلق حوافز للمقاتلين الشباب للتخلي عن الكفاح المسلح. كما زار الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وسط مالي للإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية جديدة لدعم المنطقة، في يناير 2019.
ورغم كل هذه الجهود؛ فإن عملية خلق الثقة بين الشرطة والجيش والسكان بوسط مالي عملة نادرة. ذلك أن بعض المجموعات الساكنة من شعب الفولاني لا تزال أقرب إلى زعماء الجماعات الإرهابية منها لرجال الدولة ومؤسسات الدولة المالية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الجيش والشرطة يمارسان سلوكيات تدفع السكان للجوء إلى الجماعات المسلحة المحلية لحماية ممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن الأحداث التي تؤكد هذا المسار التنافري بين «شعب الفولاني» والدولة؛ ما وقع بتاريخ 19 مايو (أيار) 2018، أي بعد أشهر قليلة من بدء العمل بالقوة المشتركة لمجموعة الساحل (G5) المشتركة. حيث قتلت القوات المسلحة المالية ما لا يقل عن 12 مدنياً (من الفولاني)، خلال عملية يُعتقد أنها نُفذت رداً على مقتل أحد جنودهم في بوليكيسي، في منطقة موبتي، وسط البلاد.
ويبدو أن مثل هذه الممارسات الرسمية إضافة إلى التهميش الاجتماعي والسياسي، وعجز الحكومة عن الحفاظ على مؤسساتها وإدارتها بوسط البلاد؛ أسفر مع بداية 2019 عن إغلاق 478 مدرسة في منطقتي موبتي وسيجو، أي نحو 68 في المائة من المدارس في موبتي. وهو ما يجعل من 65 في المائة من جميع المدارس المغلقة في مالي محصورة في المنطقة الوسطى.
إن هذا الوضع المتردي، والفقر، والتهميش، يدفع بشباب «الفولاني» إلى الانخراط في صفوف جماعة ممادو كوفا وإياد أغ غالي. كما أن هذا التأييد الشعبي يجعل هذا التنظيم الإرهابي قادرا على مواصلة زعزعته للاستقرار عبر تنفيذ عمليات نوعية كان آخرها قتل خمسة جنود في هجومين إرهابيين في مكانين مختلفين في وسط مالي، يوم 14 فبراير 2019؛ حيث إن عناصر من وحدة الدرك في ديالوبي تعرضوا في طريق عودتهم من موبتي إلى ديالوبي لهجوم بعبوة ناسفة وتبعه إطلاق نار كثيف. وقد أعلن تنظيم جماعة الإسلام والمسلمين مسؤوليته عن الحادث.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس